بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
اختلف العلماء في هذه المسألة على أقوال:
1- الجواز:
وهو قول الجمهور من الحنفية والمالكية والشافعية، على خلاف يسير بينهم.
- الحنفية: يرونه جائزًا من غير كراهة.
- المالكية والشافعية: هو جائز مع الكراهة.
ومن أدلة هذا القول: قوله تعالى: }وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ آخر{(البقرة: ١٨٥).
فقوله تعالى: (فَعِدَّةٌ): نكرة في سياق الشرط تفيد العموم، فلم يقيَّد الأمر بالقضاء بكونه متصلًا برمضان، أو متراخيًا عنه.
وعن عَائِشَة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قالتْ: "كَانَ يَكُونُ عَلَيَّ الصَّوْمُ مِنْ رَمَضَانَ، فَمَا أَسْتَطِيعُ أَنْ أَقْضِيَ إِلَّا فِي شَعْبَانَ"(متفق عليه).
فهذه عائشة رضى الله عنها أخبرت أنها كانت تقضي ما عليها من صيام رمضان في شعبان، ويَبعُد جدًا ألا تكون قد تَطوعْت بصيام النوافل المؤكدة -كصيام الست- هذه المدة الطويلة.
يؤيده: أنَّ قضاء رمضان من الواجب الموسَّع، الذي لا يشترط المبادرة به أول الإمكان، كما نص على ذلك النووي، ونقله عن الأئمة الأربعة وجماهير السلف. ولأنها عبادة تتعلق بوقت موسع فجاز التطوع في وقتها قبل فعلها، كالصلاة يتطوع في وقتها قبل فعلها.
هذا هو القول الأول، وهو قول الجمهور.
- أما الحنابلة: فلهم في ذلك روايتان:
1- الرواية الأولى موافقة للجمهور، أنَّ التطوع بصيام الست قبل القضاء يجوز، قد نص عليها المرداوي في الإنصاف (7/539)، شيخ الإسلام ابن تيمية في شرح العمدة. (1/358).
2- الرواية الثانية: يحرم التطوع بالصوم قبل قضاء رمضان.
قال ابن هانئ: سألتُ أحمد عن: الرجل هل يصوم تطوعًا وعليه صوم فريضة؟
قال: لا يصوم. (مسائل ابن هانئ "67").
وهو القول الثاني في مسألة الباب، وقال به ابن حزم، ومن أدلة هذا القول:
1- عَنْ أَبِي أَيُّوبَ الْأَنْصَارِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ ثُمَّ أَتْبَعَهُ سِتًّا مِنْ شَوَّالٍ، كَانَ كَصِيَامِ الدَّهْرِ" (رواه مسلم).
وجه الدلالة:
- أنَّ الذي عليه قضاء من رمضان لا يصدق أنه صام رمضان، فقد رتب الشرع الأجر على إكمال عدة رمضان، ومثل ذلك لا يحصل إلا بصومه أداءً وقضاءً.
- عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "وَمَنْ صَامَ تَطَوُّعًا وَعَلَيْهِ مِنْ رَمَضَانَ شَيْءٌ لَمْ يَقْضِهِ، فَإِنَّهُ لَا يُتَقَبَّلُ مِنْهُ حَتَّى يَصُومَهُ"(رواه أحمد).
والصحيح الموافق لما ترجَّح بالأدلة -والله أعلم- هو ما عليه المالكية والشافعية أنَّ ذلك جائز مع الكراهة.
فلا شك أنَّ المبادرة بتقديم دَين الله، والذي هو القضاء أولى من الانشغال بفعل النوافل.
وقد صح في الحديث القدسي: "وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ".
الرد على المخالف:
أما عن حديث: (من صام رمضان، ثم أتبعه ست من شوال). وقولهم: من عليه قضاء لا يصدق أنه صام رمضان.
الرد من وجوه:
- الأول: أن الكلام قد خرج على الغالب.
وهذا ما وجَّه به ابن مفلح حديث: (من صام رمضان ثم أتبعه بست من شوال).
حيث قال في الفروع (86/5): يتوجه تحصيل فضيلتها لمن صامها، وقضى رمضان، وقد أفطره لعذر ولعلَّه مرادُ الأصحاب، وما ظاهره خلافه خرج على الغالب المعتاد، والله أعلم.
- الثاني: أَنَّ مَنْ أفطر أيامًا من رمضان لعذر يصدق عليه أنَّه صام رمضان حُكمًا، فإذا صام الست مِن شوال قبل القضاء حصل له ما رتبه النبي صلَّى الله عليه وسلَّم من الأجر على إتباع صيام رمضان ستًّا من شوال.
وأما ما روي عن أبي هريرة، عن رسول الله ﷺ أنه قال: (من أدرك رمضان وعليه من رمضان شيء لم يقضه، لم يتقبل منه، ومن صام تطوعًا وعليه من رمضان شيء لم يقضه، فإنه لا يتقبل منه حتى يصومه).
فإسناده ضعيف* فيه ابن لهيعة سيئ الحفظ، وقد تفرد به -كما قال الطبراني- وهو سيئ الحفظ، لا يعتد بتفرده، كما أن فيه اضطراب، كما قال ابن أبي حاتم.
كما أن في سياقه ما هو متروك.
فإنه قال في آخره: ومن أدركه رمضان، وعليه من رمضان شيء، لم يتقبل منه.
قاله في الشرح الكبير، ونقله البهوتي في كشاف القناع.
- وأما استدلالهم بوصية أبي بكر لعمر رضي الله عنهما: والتي فيها: (وإنه لا يقبل نافلة حتى تؤدي الفريضة).
فيجاب عنه:
أن معنى الأثر والله أعلم: (أن الله تعالى لا يتقبل من عباده النوافل وهم قد ضيعوا الفرائض).
قال أبو الوليد ابن رشد الجدّ:
وما جاء من أنه لا تقبل من أحد نافلة وعليه فريضة معناه والله أعلم: (في الرجل يصلي النافلة في آخر وقت الفريضة، قبل أن يصلي الفريضة، فتفوته بذلك صلاة الفريضة).
مثال ذلك:
أن يترك صلاة الصبح إلى قرب طلوع الشمس، بمقدار ركعتين فيصلي ركعتي الفجر، أو غيرهما من النوافل، ويترك صلاة الصبح حتى تطلع الشمس، أو يترك صلاة العصر إلى قرب مغيب الشمس بمقدار أربع ركعات فيتنفل، ويترك صلاة العصر حتى تغيب الشمس. مسائل أبي الوليد ابن رشد الجد (2/892)، وينظر: الفروع وتصحيح الفروع (5/11).
تنبيه: مع ترجيح الجواز فلا شك فالأفضل تقديم قضاء رمضان على صيام النفل خروجًا من الخلاف والإبراء للذمة.
مسألة:
من كان قضاءه مستغرقًا لشهر شوال فمتى يصوم الست؟ كحال من سافر رمضان إلا قليلًا، أو كالمرأة النفساء؟
فعلى قول من رجَّح وجوب تقديم القضاء على صيام الست.
فقد قالوا: (يستحب لمن فاته صيامُها في شوال لاشتغالها بالقضاء أنْ يَصومها بعد شوال وهو قول الشافعية وقول للمالكية وقول للحنابلة).
وهو ظاهر كلام ابن رجب أن الفضيلة تحصل سواء آخر صيام الست من شوال لأي شهر بعذرٍ أو بدون عذر، لأنَّ تقييد النبي ﷺ الستة أيام بشوال لسهولة الصوم فيه لأنه بعد رمضان.
قال في أسنى المطالب (1/ 431): ومَن فاته رمضان فصام عنه شوالًا، استحب له أن يصومَ ستًّا من ذي القعدة؛ لأَنَّه يستحب قضاء الصوم الراتب.
فرع: مسألة التَّشريك بين نيَّة قَضاء رمضان وصيام السِّت من شوال مسألة خلافية، وظاهر نص الحديث (ثم اتبعه بست من شوال...)، يفيد وقوع كلا الأمرين في غير وقوع الآخر. ؛ لأنَّ كلًّا مِن صوم رمضان وصوم الست من شوَّال عبادة مَقصودة لذاتها لا تَندرج تحت العبادة الأخرى وهو قول الحنفية.
فصيام شَهر رمضان ومثله قضاؤه مَقصود لذاته، وصيام ست مِن شوَّال مقصود لذاته، لأنهما معًا كصيام الدَّهر كما صحَّ في الحديث، فلا يصحُّ التداخل والجمع بينهما بنيَّة واحدة.
ولأنَّ صيام السِّت من شوَّال هو كالسنَّة البعديَّة لرمضان، ومن ثمَّ احتاج إلى نيَّة خاصَّة ولم يندرج في صوم القضاء.
قال أبو زرعة العراقي في حق من شرّك بين قضاء ما عليه من رمضان وبين الست: (يحصل له أصل سنة الصوم، وإن لم يحصل له الثواب المذكور؛ لترتبه في الخبر على صيام رمضان). (نهاية المحتاج (208/3).
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد