آداب من الأثر عند سقوط المطر


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

عن زيد بن خالد رضي الله عنه قال: ((صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح بالحديبية على إثر سماء كانت من الليلة، فلما انصرف النبي صلى الله عليه وسلم أقبل على الناس، فقال: هل تدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مُطرنا بفضل الله ورحمته، فذلك مؤمنٌ بي كافرٌ بالكوكب، وأما من قال: بنَوْءِ كذا وكذا، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب))؛ [متفق عليه].

 

فيذكر النبي صلى الله عليه وسلم اختلاف حال العباد عند نزول المطر؛ فتراهم بين قسمين:

1- القسم الأول: حال المؤمنين الذين ينسبون الفضل لله تعالى، فالمطر إنما هو من فضل الله تعالى ومن رحمته بالعباد؛ قال تعالى: ﴿ أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ ﴾ [النمل: 63]، وقال تعالى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ ﴾ [الشورى: 28]؛ لذا صار من السنن القولية التي تقال إثر سقوط المطر: ((مطرنا بفضل الله ورحمته))، وهذا من شكر الله تعالى؛ قال النووي: "ويستحب أن يشكر الله سبحانه وتعالى على هذه النعمة؛ أعني: نزول المطر"؛ ا.هـ، وكذلك كان صلى الله عليه وسلم إذا رأى المطر قال: ((اللهم صيبًا نافعًا))؛ [رواه البخاري]، والصيب هو المطر.

 

وكان صلى الله عليه وسلم إذا ما قلَّ نزول المطر، قال: ((اللهم اسقنا، اللهم اسقنا، اللهم اسقنا))، وأما إذا زاد نزول المطر إلى حد الهلكة، فكان صلى الله عليه وسلم يرفع يديه ويقول: ((اللهم حَوَالينا ولا علينا، اللهم على الآكام والجبال والظِّراب والأودية ومنابت الشجر))؛ [متفق عليه].

 

 كما يشرع الدعاء عند نزول المطر:

أخرج ابن المنذر عن ثابت رضي الله عنه قال: "بلغنا أنه يُستجاب الدعاء عند المطر؛ ثم تلا هذه الآية: ﴿ وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا ﴾ [الشورى: 28] "؛ [الدر المنثور (7/ 354)]، وقال الشافعي: "وقد حفظت عن غير واحد طلب الإجابة عند نزول الغيث وإقامة الصلاة"؛ [الأم (1/ 289)]، وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ثنتان ما تردَّان: الدعاء عند النداء، وتحت المطر))؛ [صححه الألباني].

 

ومن السنن الفعلية عند نزول المطر التعرضُ لماء المطر:

لا شك أن ماء المطر ماءٌ مبارك، وبركته ظاهرة في آثاره على البلاد والعباد؛ قال تعالى بعد ذكره لنزول المطر: ﴿ فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ﴾ [الروم: 50]، وقال تعالى: ﴿ وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا ﴾ [ق: 9]؛ لذا كان من هدي النبي صلى الله عليه وسلم التعرض لماء المطر؛ فعن أنس رضي الله عنه قال: ((أصابنا ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مطرٌ، قال: فحسر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثوبه، حتى أصابه من المطر، فقلنا: يا رسول الله، لمَ صنعت هذا؟ قال صلى الله عليه وسلم: لأنه حديث عهد بربه تعالى))؛ [أخرجه مسلم (898)]؛ والمعنى: أنه صلى الله عليه وسلم قد حسر؛ أي: كشف عن بعض بدنه لماء المطر؛ لأنه حديث عهد بربه؛ أي: بتكوين ربه إياه؛ ومعناه: أن ماء المطر قريب العهد بخلق الله تعالى له، وهو ماء مبارك؛ قال النووي: "هذا الحديث دليل لقول أصحابنا أنه يستحب عند أول المطر أن يكشف غير عورته ليناله المطر".

وعن أنس بن مالك رضي الله عنه في استسقاء النبي صلى الله عليه وسلم المطر على المنبر، قال رضي الله عنه: ((ثم لم ينزل عن منبره حتى رأيتُ المطر يتحادر على لحيته))؛ [رواه البخاري (1033)]، وقد ترجم له البخاري: "باب: من تمطر في المطر حتى يتحادر على لحيته"؛ قال ابن حجر: "كأن المصنف أراد أن يبين أن تحادر المطر على لحيته صلى الله عليه وسلم لم يكن اتفاقًا، وإنما كان قصدًا؛ فلذلك ترجم بقوله: من تمطر؛ أي: قصد نزول المطر عليه؛ لأنه لو لم يكن باختياره، لنزل عن المنبر أول ما وكف السقف، لكنه تمادى في خطبته حتى كثر نزوله بحيث تحادر على لحيته صلى الله عليه وسلم".

وعن ابن أبي مليكة قال: ((كان ابن عباس رضي الله عنهما إذا مطرت السماء يقول: يا جارية، أخرجي سِرجي، أخرجي ثيابي، ويقول: ﴿ وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا ﴾ [ق: 9]))؛ [صحيح الأدب المفرد، (ص: 298)].

 

2- القسم الثاني: حال من ينسب المطر إلى النَّوء، فيقول: مُطرنا بنوء كذا وكذا، فما حكم هذا القائل بنسبة المطر إلى النوء؟ وجواب هذا السؤال على تفصيل:

 

1) نسبة المطر إلى النوء على سبيل الاستقلالية:

وأما من نسب المطر إلى النوء على أنه الخالق له المنزل له، فلا شك في كفر هذا القائل لذلك، وهذا من كفر التشريك، والقاعدة عند أهل العلم في ذلك: "كل من اعتقد في غير الله تعالى ما لا يُعتقَد إلا في الله، فقد وقع في الكفر الأكبر"، فالله عز وجل هو الخالق والمنزل للمطر؛ قال تعالى: ﴿ أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ ﴾ [الواقعة: 68، 69]، والمطر مربوب لله تعالى، كما ورد في قوله صلى الله عليه وسلم عن المطر أنه حديث عهد بربه نسبة؛ وعليه فإن نسبة المطر إلى النوء على سبيل الاستقلالية إنما هو شرك في الربوبية، وكذلك هو شرك في الأسماء والصفات؛ فقد قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ [لقمان: 34]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((مفاتيح الغيب خمس لا يعلمها إلا الله: لا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله، ولا يعلم ما في غد إلا الله، ولا يعلم متى يأتي المطر أحد إلا الله، ولا تدري نفس بأي أرض تموت إلا الله، ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله))؛ [أخرجه البخاري (1039)]، فقد أخبر صلى الله عليه وسلم أنه لا يعلم متى يجيء المطر إلا الله، فلو كان المطر من قِبَلِ الأنواء - على ما زعموا - لما اختص الله تعالى بعلم وقت سقوط المطر، ولكان النوء شريكًا لله تعالى في صفة علمه عز وجل للغيب، ومما يدل أيضًا على أن ذلك من الشرك الأكبر أن هذا من الإلحاد في آيات الله، فآيات الله نوعان: آيات كونية، وآيات شرعية، فمن يحرف آيات الله تعالى، فهذا من الإلحاد في آياته الشرعية؛ قال تعالى: ﴿ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ ﴾ [النساء: 46]، وأما الإلحاد في آيات الله الكونية، فذلك بأن يربطها بغير فعل الله تعالى، ويدخل في الإلحاد في آيات الله تعالى الكونية نسبة المطر إلى غير الله تعالى.

 

2) نسبة المطر إلى النوء على سبيل السببية: كأن يقول: مطرنا بنوء كذا وكذا، معتقدًا أن النوء إذا ما ظهر أو تحرك تسبب ذلك في نزول المطر، فهنا يكون قد نسب نزول المطر إلى سبب لم يجعله الله سببًا لا شرعًا ولا قدرًا، وقاعدة الباب هنا: "كل من اعتقد في سبب لم يقدره الله تعالى سببًا، لا شرعًا ولا قدرًا، فقد وقع في الشرك الأصغر"؛ وعلة ذلك أنه شارك الله تعالى من الحكم لهذا الشيء بالسببية، مع أن الله تعالى لم يجعله سببًا، فمن المعلوم بالقطع شرعًا وقدرًا أن حركة النوء ظهورًا أو اختفاءً لا علاقة لها بنزول المطر، فلا نصوص الشرع قالت بهذا، ولا كلام علماء الأرصاد والمناخ نص على ذلك.

 

3) نسبة المطر إلى النوء على سبيل الموافقة الزمنية: وتوصيف هذه الحالة أن القائل بها لا يعتقد علاقة الاستقلالية ولا السببية بين المطر والنوء، وإنما هي علاقة الظرفية؛ حيث يرى القائل بها حدوث الموافقة الزمنية بين ظهور النجم الفلاني ونزول المطر، وهذا قاله بناءً على ما توافق عنده وتواتر من تكرر نزول المطر في أوقات بعينها يظهر فيها نوء أو نجم؛ وعليه صارت الباء في قوله: ((مطرنا بنوء كذا)) هي باء الظرفية؛ كما ورد في قوله تعالى: ﴿ وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [الصافات: 137، 138]، وأما حكم هذه الحالة، فمحل خلاف بين العلماء بين المجوز لها والمانع؛ قال الشافعي: "أما من قال: مطرنا بنوء كذا على معنى: مطرنا بوقت كذا، فإنما ذلك كقوله: مطرنا في شهر كذا، ولا يكون هذا كفرًا، وغيره من الكلام أحب إليَّ منه، أحب أن يقول: مطرنا في وقت كذا"؛ [الأم (2/ 222)]، والراجح والله أعلم المنعُ من هذه العبارة؛ قال الشيخ عبدالرحمن بن حسن: "وإما أن يقول: مطرنا بنوء كذا مثلًا، لكن مع اعتقاده أن المؤثر هو الله وحده، ولكن أجرى العادة بوجود المطر عند سقوط ذلك النجم، والصحيح أنه يحرم نسبة ذلك إلى النجم ولو على طريق المجاز"؛ ا.هـ.

 

ومما يؤيد ذلك أمور:

الأول: سد ذريعة الوصول إلى العبارات الأخرى الموافقة لها في اللفظ، وإن اختلف المقصد عند القائل، وهذا أصل معتبر في الشرع؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا ﴾ [البقرة: 104]، ففي الآية دلالة بينة على النهي عن اللفظ ولو كان جائزًا؛ لئلا يتوصل به إلى ما هو غير جائز.

الثاني: لم يُعرف بالنصوص الشرعية ولا بالأسباب القدرية الكونية علاقة دقيقة بين نزول المطر وحركة النجوم والأنواء، بل الذي ورد في أدلة الشرع هو نفي علاقة النوء بسقوط المطر؛ وذلك كما ورد عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا عدوى ولا هامة ولا نوء ولا صَفَر))؛ [أخرجه مسلم (2220)]، فإذا تحقق انتفاء العلاقة بين النوء ونزول المطر، بقي أن يعلم لنزول المطر أسبابًا قدرها الله عز وجل، وهي إرسال الرياح؛ قال تعالى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [الأعراف: 57]، فقوله تعالى: ﴿ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ ﴾ هذه باء السببية، والضمير بعدها يعود إلى قوله الأول: ﴿ وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ ﴾، وتأمل قوله تعالى: ﴿ وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ ﴾ [الحجر: 22]، وهو أن الرياح تلقح السحاب بما ينزل بسببه المطر.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply