ما أحوجنا إلى الإنصاف


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

 

إنّ شيوع الإنصاف بين المسلمين عامةً وطلبةِ العلم وحملتِه على وجهٍ خاص لهو من أعظم أسباب صفاء قلوبهم على بعض، ومودة بعضم لبعض، وله أثر عظيم في تقاربهم وترابطهم وتعاضدهم، وإذا اختل الإنصاف اختلفت القلوب واختلّت المودّة، ودبّ الخلاف، ونشأت الفُرقة، وتفاقم فيهم وباء التفرّق، وامتلأت القلوب بالغل والحقد والحسد والغيرة المذمومة، وقد صدق المتنبي حين قال:

ولم تَزَلْ قلَّةُ الإنْصافِ قاطِعةً         ***     بيْنَ الرِّجالِ ولَوْ كانُوا ذَوي رحمِ

وإن من أعظم أسباب قلة الإنصاف: غلبة حظوظ النفس، وهذا يؤدّي إلى الانتصارِ لها أعظم من الانتصارِ للحق، وهذه مصيبةٌ عظيمة، وعقوبةٌ على مَن غلّب حظوظ نفسه.

وإنَّ امتلاء قلب المسلم بالغلّ والحقد على أخيه المسلم لهو من أخطر الأمراض وأفتكها، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: *من أعظم خبث القلوب أن يكون في قلب العبد غلّ لخيار المؤمنين*.

والأخلاق الباطنة مغذيّة للأخلاق الظاهرة، بل هي ينْبوعُها وزادُها ومنشؤها، فإن كانت الباطنة حسنة كانت الظاهرة حسنة ولابدّ، وإن كانت سيئة كانت الأخلاق الظاهرة سيئة ولا بدّ.

فمن كان قلبُه نقيًا من الغلّ والحقد والحسد وسوء الظنّ عاش في راحة قلبيّة، وطمأنينة نفسيّة، وتجلّى أثُر ذلك على تعامله مع مَن يُخالفه أو يُبغضه، فيُعامله بالإنصاف والعدل والرحمة والرفق.

وعلى ضد ذلك من كان قلبُه ملوَّثًا بالغلّ والحقد والحسد وسوء الظنّ -نسأل الله السلامة والعافية- عاش في ضيق قلبي، ونكد معيشي، وبدا أثُر ذلك جليًا على تعامله مع مَن يُخالفه أو يُبغضه، فلا يُعامله إلا بالجور والفجور والحدة والقسوة وبذاءة اللسان، فلا يتورع عن غيبته وإساءة الظن به والحط من قدره، ولا يرضى بصوابٍ وحقٍّ جاء من قِبَله، ولا يلتمس له أيّ عذر، بل يجعله -وهو مسلم موحّد مظهر للسنة- في صف واحد مع المبتدعة الضالين، والمنافقين الفاسقين.

ولو تأملتَ هؤلاء لرأيتهم -ولو كثُر كلامهم- ليس لهم قبول ولا أثرٌ فيما يبذلون؛ لأنه -والله أعلم- قد نُزعت منهم البركة.

ولْنتأمل في اسْتدراكات ابن القيم على أبي إسماعيل الهروي الحنبليّ الْمُتَوَفَّىَ سنة: (481)، وهو يشرح كتابه: (منازل السائرين)، ومَدَى تأدُّبِه معه، والْتِماس العذر لبعض عباراته الخاطئة.

علمًا أنّه يشرح كتاب عالمٍ عنده بعضُ الزلات والأخطاء والبدع الصوفيّة، ولم يمنعه ذلك من أنْ يستفيد منه، بل ويشرحَ كتابه، مع ما فيه من الشطحات والأخطاء التي ردّ عليها في مواضعها.

ومن المواضع التي أخطأ الهروي فيها، وتعامل ابن القيم معه تعاملًا لطيفًا ما يلي:

قال رحمه الله في قول صاحِبِ الْمَنازِلِ: (هُو -أي الْفَناءُ- اضْمِحلالُ ما دُونَ الْحقِّ عِلمًا، ثُمّ جَحْدًا، ثُمَّ حَقًّا): وحاشا شيخَ الإسلام [يقصد الهروي] ‌من ‌إلحاد ‌أهل ‌الاتِّحاد، وإن كانت عبارته موهمةً بل مفهِمةً.

وقال أيضًا عنه: *ولا توجِب هذه الزَّلَّةُ من ‌شيخ ‌الإسلام [يقصد الهروي] ‌إهدارَ ‌محاسنه وإساءةَ الظَّنِّ به، فمحلُّه من العلم والإمامة والمعرفة والتفقُّه في طريق السُّلوكِ: المحلُّ الذي لا يُجهَل. وكلُّ أحدٍ فمأخوذٌ من قوله ومتروكٌ إلّا المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى، صلواتُ الله وسلامه عليه، والكاملُ مَن عُدَّ خطؤه.*

وقال رحمه الله في قول صَاحِبِ الْمَنَازِلِ: (الرّجاء ‌أضعف ‌منازل ‌المريدين): *ونحن نحمل كلامه على أحسن محامله، ثمَّ نبيِّن ما فيه*.. ا. ه

فكلُّ هذا يُؤَكِّدُ لنا أنّ الإنصاف والعدل مع الموافق والمخالف منهجٌ سار عليه علماء السلف والخلف، وأنّ الخطأَ مِن العالم وطالب العلم -إذا عُلم حرصهما واجتهادهما - لا يُبيح ذمّهما ولا إساءة الظنّ بهما.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: *والعدل مما اتفق أهل الأرض ‌على ‌مدحه ‌ومحبته، والثناء على أهله ومحبتهم، والظلم مما اتفقوا على بغضه وذمه وتقبيحه، وذم أهله وبغضهم*.

وشيخ الإسلام لم يقتصر على الإنصاف والعدل في أقواله وردوده، مع أعدائه ومخالفيه والرّادين عليه، بل زاد على ذلك فتحلّى بالكرمِ والفضل.

قال ابن القيم رحمه الله متحدّثًا عن شيخه ابن تيمية رحمه الله: وكان بعض أصحابه الأكابر يقول: ودِدتُ أنِّي لأصحابي مثله لأعدائه وخصومه.

وما رأيته يدعو على أحدٍ منهم قطُّ، وكان يدعو لهم.

وجئتُ يومًا مبشِّرًا له بموتِ أكبرِ أعدائه وأشدِّهم عداوةً وأذًى له، فنهَرَني وتنكَّر لي واسترجع، ثمّ قام من فورِه إلى بيت أهله فعزّاهم، وقال: أنا لكم مكانه، ولا يكون ‌لكم ‌أمرٌ ‌تحتاجون ‌فيه إلى مساعدةٍ إلّا وساعدتُكم فيه، ونحو هذا الكلام، فَسُرُّوا به، ودَعَوا له، وعظّموا هذه الحالَ منه، فرحمه الله ورضي عنه. ا. ه

وكان قاضي المالكية ابن مخلوف يقول: ما رأينا مثل ابنِ تَيْميَّةَ، حرَّضْنا عليه، فلم نَقْدر عليه، وقدر علينا فصفح عنا وحاجَجَ عنا.

فانظر إلى إنصاف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وحسن تعامله، وسلامة قلبه، وكرم أخلاقه، وطيب فعاله، مع من ناصبه العداوة في دينه، وتسبّب في سجنه وأذاه.

فأعداؤه هؤلاء ليسوا موافقين له في الاعتقاد، بل كان منهم الصوفي والأشعري والمعتزلي، فإذا كان هكذا تعامله معهم فكيف الحال مع من يُخالفه في بعض آرائه واختياراته من أهل السنة والجماعة؟

اللهم طهر قلوبنا من الحقد والغل والحسد، واجعلنا متّبعين لشرعك، منصفين عبادَك، شاكرين لنعمك، إنك ربنا رؤوف رحيم ودود.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين  

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply