الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
مفهوم الإيمان بالأقدار:
الإيمان بالأقدار هو ركن أساسي من أركان الإيمان في الإسلام. يقول الله تعالى في كتابه العزيز: {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}(القمر: 49). ويعني هذا أن تؤمن بأن الله سبحانه وتعالى قد علم كل ما كان، وما سيكون، وما لم يكن لو كان كيف سيكون. علمه شامل لكل ذرة في الكون، وكل شيء مكتوب عنده قبل أن يُخلق الخلق. الإيمان بهذا الركن يعني أن المسلم يوقن بأن كل شيء يحدث بمشيئة الله وقدره.
العلم بالأقدار وكتابتها:
الله سبحانه وتعالى قد كتب مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة. جاء في الحديث الشريف عن النبي صلى الله عليه وسلم: "كَتَبَ اللَّهُ مَقَادِيرَ الْخَلَائِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ". وهذا يدل على إحاطة علم الله بكل شيء، وأن كل ما يحدث في الكون من خير أو شر هو بعلمه وإرادته.
مشيئة الله ونفاذها:
من أسس الإيمان بالأقدار، الإيمان بأن مشيئة الله نافذة في كل شيء. فلا يحدث في الكون إلا ما أراده الله. يقول الله تعالى: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ}(الإنسان: 30). فالكون كله مخلوق لله تعالى بإرادته وحكمته، ولا يمكن لأي شيء أن يحدث خارج مشيئته.
وتنقسم مشيئته سبحانه وتعالى إلى قسمين: مشيئة كونية ومشيئة شرعية. فالمشيئة الكونية تتعلق بكل ما يحدث في الكون من أحداث، سواء كانت محبوبة لله أم مكروهة، أما المشيئة الشرعية فهي المتعلقة بما يحبه الله ويرضاه من أعمال.
أفعال العباد بين الجبر والاختيار:
الإسلام يوازن بين الجبر والاختيار. فالعبد مخيّر في أفعاله ومحاسب عليها، ولكن لا يخرج شيء عن قدرة الله وإرادته. أي أن الإنسان يعمل ويختار، ولكنه في نفس الوقت تحت علم الله وقدرته.
الشر في القضاء والقدر:
الله سبحانه وتعالى لا يفعل الشر، وكل أفعاله خير وحكمة. الشر يوجد في أفعال العباد واختيارهم. قال النبي صلى الله عليه وسلم: "وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ". هذا يعني أن الشر لا يُنسب إلى الله، فكل أفعال الله لحكمة بالغة. فإذا أصاب العبد شيء من المصائب، فإنما هو لحكمة يعلمها الله، وقد يكون خيرًا للعبد وإن لم يدرك ذلك.
الاحتجاج بالقدر:
يجوز للمسلم أن يحتج بالقدر عند وقوع المصائب لتخفيف وقعها عليه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: "احْرِصْ علَى ما يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ باللَّهِ وَلَا تَعْجِزْ، وإنْ أَصَابَكَ شَيءٌ، فلا تَقُلْ: لو أَنِّي فَعَلْتُ كانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قَدَرُ اللهِ وَما شَاءَ فَعَلَ؛ فإنَّ (لو) تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ". ولكن لا يجوز الاحتجاج بالقدر لتبرير المعاصي والذنوب، فمن تاب توبة نصوحًا، غفر الله له.
أنواع الأقدار: الأقدار في الإسلام تنقسم إلى أربعة أنواع رئيسية:
1- القضاء المطلق: وهو ما كتب في اللوح المحفوظ ولا يتغير.
2- القضاء العمري: وهو ما يكتب للجنين في بطن أمه بعد مرور أربعة أشهر، حيث يُرسل إليه الملك ويكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد.
3- القضاء الحولي: وهو ما يُكتب في ليلة القدر من كل عام، كما قال تعالى: {فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}(الدخان: 4).
4- القضاء اليومي: وهو ما يُكتب في صحائف الملائكة كل يوم، ويشمل تفاصيل أحداث اليوم.
حكم الأقدار في الشريعة:
كل أفعال الله سبحانه وتعالى لحكمة ومصلحة، وإن لم تدركها عقولنا. فالشرع الإسلامي جاء لتحقيق مصالح العباد ودفع المفاسد عنهم. يقول الله تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}(الذاريات: 56). فالشرع مبني على جلب المصالح ودرء المفاسد، والله هو الحكيم العليم.
الاسترجاع عند المصائب:
يجب على المسلم عند وقوع المصائب أن يسترجع قائلًا: *إنا لله وإنا إليه راجعون*. هذا القول يخفف من وطأة المصيبة ويجلب الأجر والثواب. فالدنيا دار ابتلاء، وعلى المسلم أن يصبر على الأقدار المؤلمة ويرضى بحكم الله وقضائه.
التحذير من التعرض للأقدار بالعقل:
الإيمان بالأقدار هو باب من أبواب الغيب، ولذلك يجب الحذر من محاولة فهمه بالعقل المجرد، فهذا قد يؤدي إلى الضلال. الله سبحانه وتعالى عادل في كل أفعاله، ولا يُنسب إليه أي نوع من الظلم. كما قال تعالى: {وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ}(فصلت: 46).
مفهوم الإيمان بالأقدار وأثره في حياة المسلم، يعلم المسلم الرضا والتسليم لحكمة الله في كل ما يصيبه، ويجعله يدرك أن كل ما يحدث هو بتقدير الله وحكمته البالغة. نسأل الله تعالى أن يعلمنا ما ينفعنا وأن ينفعنا بما علمنا وأن يزدنا علمًا وعملًا وبركةً فيهما إنه جوادٌ كريم.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد