إسهامات المسلمين في الحضارة


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

 

في كتابه صناعة الإنسانية "The Making Of Humanity"، يقول روبيرت بريفولت: *لقد كان العلم أهم ما جادت به الحضارة العربية على العالم الحديث، ولكن ثماره كانت بطيئة النضج... إن العبقرية التي ولّدتها ثقافة العرب في إسبانيا لم تنهض في عنفوانها إلا بعد وقت طويل على اختفاء تلك الحضارة وراء سحب الظلام. بل إن مؤثرات أخرى كثيرة من مؤثرات الحضارة الإسلامية بعثت باكورة أشعتها إلى الحياة الأوروبية. فعلى الرغم من أنه ليس ثمة ناحية واحدة من نواحي الازدهار الأوروبي إلا ويمكن إرجاعها إلى مؤثرات الثقافة الإسلامية بصورة قاطعة، فإن هذه المؤثرات توجد أوضح ما تكون، وأهم ما تكون في نشأة تلك الطاقة التي تكوّن ما للعالم الحديث من قوة متمايزة ثابتة، وفي المصدر القوي لازدهاره، أي في العلوم الطبيعية وروح البحث العلمي*.

يقول الباحث الأمريكي كيفين جيمس باريت وهو هو محاضر جامعي سابق تحول لاحقًا إلى الإسلام: *حتى علماء المركزية الأوروبية يعترفون بأن معظم التقدم الذي يُنسب للحضارة الغربية في العصور المظلمة له جذور إسلامية. بل إن عصر النهضة الأوروبي لم يكن بمثابة إعادة اكتشاف للحضارة اليونانية الرومانية القديمة بقدر ما كان بمثابة تكيف مع الحضارة الإسلامية المعاصرة له. ولكن الأوروبيين كانوا وما زالوا يكرهون الاعتراف بذلك، فلقد تأسست هوية أوروبا إلى حد كبير على رفض الإسلام*.

جذور هذه الروح الجديدة كانت نشوء الإسلام والرؤية العالمية الجديدة التي قدمها، حيث يُعتبر العقل والتفكير ليسا معارضين للإيمان، بل هما مكملان له. فالقرآن يشجع على استخدام العقل والتأمل، وذلك على عكس المسيحية والقرون الوسطى في أوروبا، قال تعالى:

}أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُّسَمًّى{[الروم:8].

وقال أيضًا:

}أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ...{[الأعراف:185].

ويُؤكد القرآن أن الله نفخ في الإنسان من روحه، مما منح الإنسان صفات روحية وأخلاقية فريدة، وجعله في مكانة خاصة على رؤوس المخلوقات. قال تعالى:

}وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا{[الإسراء:70].

وهذه المكانة المرموقة ترتبط ارتباطًا وثيقًا بأداء دور الإنسان كخليفة لله على الأرض، وكوكيلٍ حرٍ في عبادة الله في معنى العبادة الشامل الذي يشمل جميع الجهود المفيدة والبناءة.

وهذا التحدي هو الذي يجعل الإنسان خليفة الله على الأرض، ويجعل الحياة الدنيا اختبارًا. قال تعالى:

}الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ{[الملك:2].

وتصور الإنسان لطبيعته وفهمه وقبوله لغرض الخلق ودور الخليفة يحدِد كيف يرى علاقته بالنظام الطبيعي والاجتماعي.

·       موارد الأرض والاستخلاف فيها:

إذا كان الإنسان قد خُلق ليكون وكيلًا لله على الأرض، فإنه يترتب عليه أن يعتبر الموارد المتاحة له في الكون أدواتًا لتنفيذ مسؤوليات هذه الوكالة. وقد أوضح القرآن أن كل شيء على الأرض يخضع لخدمة الإنسان، وليس لسوء استخدامه. بل ويتجاوز ذلك لإزالة لبسٍ حول استكشاف الكون خارج الأرض. قال تعالى:

}وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيات لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ{[الجاثية:13].

ويضع القرآن أساسًا لفهم واستغلال الموارد التي أعطاها الله له في العديد من المجالات الاقتصادية.

·       شروط الاستخلاف:

وبما أن الإنسان هو خليفة الله على الأرض، فيترتب عليه أن تكون أفعاله في النظام الاجتماعي وفقًا لشروط هذا العقد. حيث يؤكد التوحيد على سيادة الله كمالكٍ حقيقي للكون وحقوقه الكاملة في تحديد كيف يجب استخدام *ممتلكاته*. وبالتالي يتم تأهيل مفهوم الملكية في الإسلام بشرط *الوكالة* للمالك الحقيقي. قال تعالى:

}لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ{[المائدة:123].

·       العمل عبادة:

كما أن جميع الأعمال هي أعمال عبادة، فإن العمل ليس وسيلة للبقاء فقط، ولكنه أيضًا عبادة يُثاب عليها. وعند فهمها بشكل صحيح يمكن أن يكون هذا المفهوم وسيلة لتحفيز الإنتاجية، حيث أن الوقت والمكافأة المتوقعة والهدف الأسمى من العمل الإنتاجي تتجاوز أي مفهوم محدود. يظهر ذلك في تعليمات النبي محمد صلى الله عليه وسلم في الحديث المروي عن أنس بن مالك رضي الله عنه:

"إنْ قامَتِ السَّاعةُ وفي يدِ أحدِكُم فَسيلةٌ فإنِ استَطاعَ أن لا تَقومَ حتَّى يغرِسَها فلْيغرِسْها".

وقد يتساءل المرء عن الهدف من زراعة شيءٍ لن يستفيد منه الزارع أبدًا، ولماذا يزرع شجرة قد لا تُحصد ثمارها أبدًا! ربما يكون الهدف هو ترسيخ أهمية العمل بناءً على مقياس زمني أطول في الدار الآخرة ونعيمها.

·       حث القرآن على الدراسة والاستكشاف:

هناك العديد من الآيات في القرآن التي تحث على البحث والاكتشاف وتطوير نوعية الحياة. مثل قوله تعالى:

}وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَىٰ بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَىٰ بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيات لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ{[الرعد:4].

وقال أيضًا:}أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعًا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُّخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِأُولِي الْأَلْبَابِ{[الزمر:21].

وقال أيضًا:}وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيات لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ{[الجاثية:13].

وهذه الحث القرآني لا يقتصر على الموارد الفيزيائية فقط، بل يشجع أيضًا على دراسة وفهم القوانين الطبيعية مثل تبادل الليل والنهار، وتوقع الأمطار، والظواهر الفلكية.

·       دور التعلم:

الآيات القرآنية المذكورة أعلاه تؤكد على تبني الإسلام موقفًا إيجابيًا تجاه التعلم واكتساب المعرفة. وهذا ما يتجذر في السنة النبوية أيضًا، فكانت أول كلمة أُنزلت على النبي صلى الله عليه وسلم هي "اقرأ":

}اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ{[العلق:1].

ويمدح القرآن أولئك الذين يجمعون بين الإيمان والمعرفة:

}... يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ... {[المجادلة:11].

ويُعطى التفضيل لأولئك الذين يملكون المعرفة:

}... قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ...{[الزمر:9].

والمعرفة بحد ذاتها ليست تهديدًا للإيمان ولا تتعارض مع التقوى وخشية الله. بل تؤدي المعرفة الصحيحة وغير المتحيزة إلى التقوى، كما في قوله تعالى:

}إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ...{[فاطر:28].

وبشكلٍ عام، يَعتبر القرآن أنه من الخطأ عدم استخدام الحواس والعقل كوسائل شرعية للبحث عن الحقيقة، ويعاتب الذين يقدمون مزاعم غير مبنية على المعرفة، والذين يقلدون أسلافهم بشكل أعمى.

}إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ{[الأنفال:22].

وقوله تعالى:}وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَٰلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ{[الأنعام:148].

وقوله تعالى أيضًا:}وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَٰئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَٰئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ{[الأعراف:179].

·       التجليات التاريخية:

1-  ظهور الحضارة الإسلامية:

بدأ التقدم في أوآخر القرن السابع وبداية القرن الثامن الميلادي تحت حكم الأمويين. ولكن العصر الذهبي لها كان تحت حكم العباسيين (750-1258) وفي الأندلس (755-1492). ولمدة خمسة قرون على الأقل كانت الحضارة الإسلامية هي الأبرز في العالم، وهذه المدة أطول من الفترة التي كانت فيها الحضارة الأوروبية بارزة.

كانت المدارس والمكتبات جزءًا من مجمعات المساجد. وكان الوقف للكليات والمنح الدراسية للطلاب شائعة. تم تقدير واحترام العلماء والباحثين، بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية. وكان أحد أمثلة هذا الموقف متجليًا في *بيت الحكمة* في بغداد في القرن التاسع تحت رعاية الخليفة المأمون. فقد كان مركزًا أكاديميًا ضخمًا ومكتبةً ومركز ترجمة. في الجزء الغربي من العالم الإسلامي، كان أهم مركز بحثي في طليطلة (إسبانيا) حيث تمت ترجمة الأعمال المسلمة من العربية إلى اللاتينية، خاصة في مجالات الفلك، والرياضيات، والطب، والكيمياء، وعلم النبات، والفلسفة.

2-  مصطلح العصور المظلمة:

تُظهر هذه التطورات أن التعبير المشهور *العصور المظلمة* يجب أن يكون في الواقع *العصور المظلمة الأوروبية*، على الأقل في الفترة التي تزامنت مع ظهور الحضارة الإسلامية.

3-  الاستعادة والأصالة:

هناك فكرة خاطئة شائعة تقول إن العلماء المسلمين قاموا فقط بترجمة الكلاسيكيات اليونانية واستعمالها، والتي كانت ستضيع بدونهم. تقلل هذه الفكرة من مساهمة المسلمين الأصلية بالإضافة إلى الترجمة. ومع ذلك فمن الخطأ أيضًا القول بأنه لم تكن هناك مساهمات للحضارة من الأمم الأخرى.

·       أمثلة محددة على بعض المساهمات الرئيسية:

1-  الفلك:

كان الفلك من أوائل العلوم التي جذبت اهتمام المسلمين في القرن الثالث الهجري. من إنجازاتهم اكتشاف الحضيض الشمسي ورسم خرائط للنجوم المرئية وتصحيح جداول الشمس والقمر. كانوا أول من استخدم النوافذ في قياس الوقت وبناء المرصدين. فقد اخترع ابن يونس في القرن الحادي عشر الساعة الشمسية، وتوقعوا بقع الشمس والكسوف وظهور المذنبات.

2-  الكيمياء:

في عالَمٍ لم يعرف حمضًا أقوى من الخل المركز، اكتشف الكيميائي المسلم جابر في القرن الثامن حمض النيتريك. ووصف عمليات التقطير والتبخير والترشيح والتخثر والبلورة. وكان أبو بكر الرازي أول من وصف خصائص حمض الكبريتيك.

3-  الرياضيات:

رغم الاعتقاد السائد أن الأرقام نشأت في الهند، إلا أن المسلمين قاموا بترويجها. فقد اخترع محمد بن أحمد في القرن العاشر مفهوم الصفر. وجاء الجبر من الكلمة العربية *الجبر*، وكذلك الخوارزميات تأتي من اسم الرياضي المسلم الشهير محمد بن موسى الخوارزمي.

تُظهر هذه الأمثلة المحددة مدى تأثير المسلمين في مجالاتٍ متعددة من العلوم والمعرفة، وكيف ساهموا بشكل كبير في تقدم البشرية.

4-  الفيزياء:

في وصف جورج سارتون الكيميائي الأمريكي للفيزيائي المسلم الشهير الحسن ابن الهيثم في القرن الحادي عشر، وصفه بأنه: *أعظم فيزيائيٍ مسلم وواحد من أعظم العلماء في مجال البصريات على مر العصور*.

فكتاب ابن الهيثم *المناظر* كان له تأثيرٌ كبيرٌ على العالم الغربي وأظهر تقدمًا كبيرًا في الأسلوب التجريبي. وكانت أعماله بداية علم البصريات قبل بيكون الإنجليزي وكبلر الألماني. وكانت اختراعات الميكروسكوب والتلسكوب والكاميرا كلها بفضله.

5-  الطب:

يربط الإسلام الرعاية الصحية بالتعاليم الإسلامية. فمن الناحية الأخلاقية فإن الجسم البشري هو أمانة من الله لا يجب تدميرها أو إساءة استخدامها. تغطي التعاليم الإسلامية كلًا من الجوانب الوقائية والعلاجية للطب. بعض الأعمال المبكرة في الطب المسلم تعود إلى القرن الثامن. إلا أن التقدم الأكبر كان في القرن التاسع.

من بين الشخصيات المشهورة في ذلك الوقت هو فخر الدين الرازي، الذي وصفه عالم الحاسوب الأمريكي جون درابر بأنه *أعظم طبيب في العصور الوسطى*. كتب ما وصفه درابر بأنه *موسوعة طبية هائلة* التي ظلت من بين أهم المراجع الطبية في أوروبا لمدة 600 عام.

أما في القرن العاشر كان عريب بن سعيد القرطبي المتوفى عام 369 هـ هو أول من كتب بشكل منهجيٍ عن طب الأطفال. وتمت ترجمة أعماله إلى اللاتينية والعبرية. في نفس الوقت تفوق الرازي في تحضير الأدوية. وقال سارتون: *ألّف موسوعةً للأدوية كانت شهيرة للغاية في أوروبا الوسطى. ولقرون ظلت الموسوعة هي العمل المعياري في الموضوع*.

أما ابن سينا، الذي عاش في القرن الحادي عشر، كتب عملًا مكونًا من خمسة مجلدات يسمى *قانون الطب*، تناول فيه الفسيولوجيا، والنظافة، وعلم الأمراض، والعلاج، ومادة الطب. ولمدة 600 عام على الأقل فقد كانت كتاباته هي السلطة العليا في *العصور الوسطى* وأساس المعايير الطبية في الجامعات الإيطالية والفرنسية. وتمت ترجمة بعض أعماله وإعادة طبعها باللاتينية والعبرية حتى القرن الثامن عشر.

في أوائل القرن الحادي عشر، عالج الأطباء المسلمون الماء البيضاء والنزيف واستخدموا التحرق. من بين الجراحين الشهيرين كان أبو القاسم، الذي عاش في قرطبة أوآخر القرن الحادي عشر وأوائل القرن الثاني عشر. واعتبره سارتون بأنه: *كان له تأثير عميق على تطور الجراحة الأوروبية حتى عصر النهضة*.

أما المستشفيات فكانت المتنقلة منها والدائمة معروفة. جابت المستشفيات المتنقلة والدائمة في أوقات السلام المناطق الريفية لتقديم المساعدة الطبية. وخلال حكم السلاجقة كانت بعض المستشفيات المتنقلة تحتاج إلى أربعين جملًا لنقل الأطباء والأدوية والمعدات الطبية والطعام والملابس.

كما تم إنشاء محطات الإسعاف الأولي، وفي مسجد ابن طولون في القاهرة جاء طبيب كل يوم جمعة لتقديم الرعاية الطبية ووصف الأدوية التي تم توزيعها من صيدلية المسجد. يُعتقد أن أول مستشفى دائم تم بناؤه في بغداد في النصف الأول من القرن الثامن خلال الخلافة العباسية.

كان للمستشفيات جناحين، واحد للذكور والآخر للإناث. كان لكل قسم رئيس، وكان للمستشفى طبيب رئيسي، بالإضافة إلى العاملين الداعمين. يلتقي الأطباء مع طلابهم بعد زيارة المرضى في قاعات محاضراتٍ كبيرةٍ لمناقشة تشخيصهم.

قال يوليوس هيرشبرغ المؤرخ وطبيب العيون والأستاذ في جامعة ألمانيا المتوفى في 1925م: *عندما كانت أوروبا غارقة في ظلام العصور الوسطى أضاء المسلمون مصابيح علمنا (طب العيون) وغذوه بدءًا بالوادي الكبير (Guadalquivir) في إسبانيا إلى النيل في مصر ونهر جيحون (Oxus) في روسيا. كانوا سادة طب العيون في أوروبا خلال عصورها الوسطى*.

6-  الجغرافيا:

كانت الجغرافيا مرتبطةٌ بأعمال العبادة مثل الصلاة والحج. كما كانت مرتبطة بشعور بالواجب لنقل رسالة الإسلام إلى العالم، مما يستلزم السفر في جميع أنحاء العالم. لذا يُعتقد أن اكتشاف الأمريكتين تم بمساعدة من المسلمين في مجال الجغرافيا.

يُذكر في رسالة كتبها كولومبوس في أكتوبر 1498 أن واحدة من المصادر التي دفعته إلى افتراض وجود *العالم الجديد* كانت أعمال ابن رشد من القرن الثاني عشر.

وبالاستناد إلى القرآن، كان الجغرافيون المسلمون يعلمون أن الأرض كروية. وقال سارتون: *لا داعي للقول إن جميع الجغرافيين العرب كانوا يؤمنون بكروية الأرض*. بينما كانت أوروبا تُصر على أن الأرض مسطحة، كان المسلمون يستخدمون الكرات الأرضية لدراسة الجغرافيا. وقال الجغرافي المسلم الإدريسي الذي كتب في القرن الثاني عشر: *الأرض مستديرة مثل الكرة والماء يلتصق بها من خلال توازن طبيعي لا يعاني من أي تقلبات*.

وحتى قبل الإدريسي، قدّر الخليفة المأمون في القرن التاسع محيط الأرض بأنه 2400 ميل، وهو رقمٌ قريبٌ جدًا من الرقم الذي تم التوصل إليه باستخدام أحدث الوسائل اليوم. كما أمر الخليفة المأمون برسم خريطةٍ كبيرةٍ للعالم. ووصف جورج سارتون الجغرافي المسلم المسعودي المتوفى 346 هـ بأنه *واحد من أعظم الجغرافيين على مر العصور*.

7-  الزراعة:

وصف العلماء المسلمون العديد من النباتات. في نهاية القرن الثاني عشر وصفوا أكثر من 585 نباتًا وشرحوا زراعة العديد من الفواكه. درس بعضهم النباتات أثناء رحلاتهم الطويلة للحج، مثل ابن الرومية -أبو العباس النباتي- المتوفى 637 هـ.

من الناحية العملية فقد قاموا بتحسين طرق الري، واستخدموا الأسمدة العضوية، وحسنوا سلالات الماشية. كما يعود الفضل في إدخال الخوخ والمشمش والقطن والأرز والموز وقصب السكر للغرب إلى المسلمين، وفي الأندلس كان هنالك بحيراتٌ صناعية لتربية الأسماك.

8-  الصناعة:

تم تحقيق تقدمٍ في تصنيع الأقمشة الحرير، القطن، الصوف، والجلود، والزجاج، والصلب. كما تم تطبيق الكيمياء في صنع الأدوية والعطور. تم إنشاء مصنع لصنع الورق بفضل اهتمامهم بالتعلم في بغداد عام 794 هـ.

9-  التجارة:

من القصص المعروفة تجارة العرب في شرق آسيا، ومن المعلوم أن شعوب تلك البلدان لم تدخل الإسلام إثر حملات عسكرية وفتوحات، إنما كان ذلك على أيدي التجار المسلمين في ذلك الوقت.

10-         التاريخ:

بينما ركز العديد من المؤرخين المسلمين على جمع وتقديم الحقائق والمعلومات، استخدم البعض الآخر الحكم النقدي، وهو الأسلوب الذي تم اعتماده في الغرب في وقت لاحق.

11-         الفن والعمارة:

بينما كان التراث المسلم في هذا المجال متنوعًا نظرًا لاندماج العديد من الثقافات التي جاءت تحت حكم المسلمين، كان هناك بعض الوحدة فيه استنادًا إلى التعاليم الإسلامية.

12-         تخصصات أخرى:

تمت المساهمات المهمة في مجالات أخرى مثل العلوم السياسية والسوسيولوجيا. كتب العالم الإسلامي الفارابي  في القرن العاشر عن المدينة الفاضلة.

13-         التراث المفقود أو المهمل:

للأسف فقد فقدت معظم أعمال العلماء المسلمين الغنية والوفيرة أو دُمرت خلال الهجمات على العالم الإسلامي. فخلال الحروب الصليبية في سوريا دُمر نحو ثلاثة ملايين كتاب. وأُحرقت مكتبة بغداد على يد المغول، وعندما هُزم المسلمون في الأندلس، أُحرق مليون كتاب في يوم واحد.

بالإضافة إلى محاولة بعض المؤرخين والكتّاب إخفاء مساهمات المسلمين بشكل متعمد. ومن بين الكتّاب الغربيين الأكثر نزاهة هو جون درابر الأمريكي، الذي قال: *أنا أشعر بالأسف للطريقة المنهجية التي استخدمتها أدبيات أوروبا لإخفاء التزاماتنا العلمية تجاه المحمديين*. ويقصد فيها المسلمين.

الختام:

من خلال هذا المقال، لدينا نتيجتين على المستوى المفهومي والتطبيقي. من الناحية المفهومية فالإسلام هو نمط حياةٍ كاملٍ وشاملٍ مبنيٍ على الهداية الإلهية. لا يفرق بين الجوانب الدينية والمادية للحياة. تُركز تعاليمه على الإنسان ككائن روحي وفكري وجسدي. والإسلام لا يرى أن هناك صراعًا أو عدم تناغم بين هذه العناصر الثلاثة للوجود البشري.

هذا النهج الشامل للحياة يظهر في موقف الإسلام من التعلم والعلم والتقدم البشري المتوازن. فالقرآن كما تقدم يحث البشر باستمرار على التفكير والتعلم والمراقبة واستكشاف النعم التي خلقها الله للاستخدام البشري.

وعلى المستوى التاريخي والعملي رأينا كيف أثرت الحضارة التي ألهمها التعليم الإسلامي على العلم والتعلم لما يقرب من 600 عام، واستمرت في مساهماتها الهامة لعقود عديدة. عملَت كجسرٍ بين الماضي والحاضر؛ حيث حافظت على التعلم القديم وأضافت إليه بشكل كبير وسهلت طريق النهضة الأوروبية.

كان هذا الاهتمام الكبير بالتعلم الذي ألهمه القرآن، متطابقًا فقط مع موقف التسامح، وهو التسامح الذي شجعَ ليس فقط العلماء المسلمين ولكن الآخرين أيضًا، بغض النظر عن خلفياتهم العرقية أو المعتقدات الدينية.

لم يشهد العالم مثالًا مشرقًا مماثلًا للتسامح والعدالة والتقدم والتعاون من أجل الجميع. بالطبع يمكن العثور على أخطاء بشرية، ويمكن الإشارة إلى نقصً بشري. هذا متوقع وطبيعي ولا يزال السؤال الرئيسي هو:

ما هو الدافع الرئيسي وراء سرعة ارتفاع حضارة الإسلام، واستمرار بروزها لفترة طويلة، على الرغم من المشكلات الداخلية والغزوات الخارجية؟ الإجابة هي: القرآن.

لكن السؤال الذي لا يزال بدون إجابة هو: إذا كانت هذه هي التوجهات التعليمية الإسلامية، وإذا كان من الممكن تنفيذ هذه التعاليم بنجاح لعدة قرون، لماذا بدأت حضارة المسلمين في التراجع في وقت استفاقت فيه أوروبا من *عصور الظلام*؟ لماذا المسلمون اليوم أقل تقدمًا من الآخرين؟

بالتأكيد، هذا دليل على الضعف، وهو بالطبع ضعف المسلمين وليس الإسلام، الضعف الداخلي للمسلمين وضعف إيمانهم ربما يكون السبب الرئيسي.

تحتاج الحضارة المثالية إلى عنصرين:

-         الهداية الإلهية التي تُعطيها أساسًا ثابتًا، وحافزًا وإطارًا.

-         تحتاج الحضارة المثالية إلى العمل الشاق والإبداع والدينامية.

قد تزدهر حضارة بدون الهداية الإلهية بسبب العمل الشاق. ولكن غياب الأساس الثابت للإيمان والأخلاق يؤدي إلى الانحرافات والسقوط المؤكد، وتبقى الحضارة الإسلامية شاهدًا على التقدم العلمي والثقافي الذي أثر في العالم لقرون.

ورغم التحديات والهجمات التي واجهت المسلمين، فإن إسهاماتهم في مختلف المجالات لا تزال حية ومؤثرة. القوة الحقيقية للحضارة تكمن في الالتزام بالمبادئ والهداية الإلهية وتعاليم الدين الحنيف، وليس فقط في الإنجازات المادية. يجب علينا اليوم أن نستلهم من تراثنا ونعيد بناء حضارتنا ونعمل لمستقبل أكثر إشراقًا.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply