الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
مُقتَرَحُ خُطبَة الجُمُعَةِ الثَّالثة مِن شَهرِ ذِي الحجَّةِ، وَدُرُوسُ هذا الأُسبُوعِ، وَدُرُوسُ النِّسَاء:
1- أهمية الذكر، وبيان علاقته بالحج والصلاة.
2- فضائل الذكر، وأمثلة على بعض الأذكار اليسيرة.
الهَدَفُ مِنَ الخُطبَةِ: التذكير بهذه العبادة اليسيرة، وبيان عدم انفكاك العبد عنها؛ لاسيما وقد لهجت الألسنة بالذكر طوال أيام العيد؛ فكانت دورة تدريبية للمواظبة والمداومة على ذكر الله عز وجل.
مُقَدِّمَةٌ ومَدَخَلٌ للمُوْضُوعِ: أيُّهَا المُسلِمُونَ عِبَادَ اللهِ، مازلنا في رحاب هذه الأيام المباركة حيث أدَّى الحجيج حجَّهم وذبح المضحون أضاحيهم، ومع غروب شمس ثالث أيام التشريق انتهت أيام العيد، وأيام الحج لهذا العام.
وطوال هذه الأوقات الفاضلة تجلَّت عبادةٌ هي من أشرف وأسهل العبادات؛ ألا وهي عبادة: ذكر الله عز وجل.
فما شُرِعت مناسك الحج إلا من أجل إقامة ذكر الله عز وجل.
كما قال الله تعالى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ}.
وعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِنَّمَا جُعِلَ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ، وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَرَمْيُ الْجِمَارِ لِإِقَامَةِ ذِكْرِ اللَّهِ عزَّ وجلَّ"[رواه أبو داود، والترمذي، وضعفه الألباني].
ولقد شرع الله تعالى الذكر في ختام مناسك الحج، وحثَّ على مداومة الذكر لله تعالى وعدم الانقطاع عنه.
فقال الله تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ * ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.
وقال تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ} قال ابن عباس رضي الله عنهما: *الأيام المعدودات: أيام التشريق، والأيام المعلومات: أيام العشر*.
وبما أن النفس البشرية قد تميل إلى الفتور بعد أداء العبادات؛ فلذا جاء الأمر بالمداومة على ذكر الله عز وجل بعد قضاء مناسك الحج؛ بل وأمرهم بالمبالغة في الذكر.
فقال تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا}.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: *كان أهل الجاهلية يقفون في الموسم فيقول الرجل منهم: كان أبي يُطعم، ويحمل الحمالاتِ، ويحمل الدياتِ ليس لهم ذِكْر غير فِعَال آبائهم فأنزل الله هذه الآية*.
وحتى غير الحاج شُرِعَ له طوال هذه الأيام الإكثار من ذكر الله عز وجل.
فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم عن أيام التشريق: "أَيَّامُ التَّشْرِيقِ أَيَّامُ أَكْلٍ وَشُرْبٍ، وَذِكْرٍ لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ" وفي رواية: "من كان صائمًا فليفطر فإنها أيام أكل وشرب".
فنجد أن الذاكرين تلهج ألسنتهم بالتكبير والتهليل والتحميد طوال هذه الأيام وعقب الصلوات.
ثم أن الصلاة أيضًا شُرِعت لإقامة وإعلان ذكر الله تعالى، بداية من رفع صوت المؤذن: الله أكبر الله أكبر، إلى ختام الصلاة.
فقد قال الله تعالى آمرًا عباده المؤمنين: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إلى ذِكْرِ اللَّهِ}.
وقال الله تعالى في شأن الصلاة: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} ؛ أي: أقم الصلاةَ لأجل ذكر الله عز وجلَّ، وسَمَّى سبحانه الصلاةَ ذكرًا.
وشرع الله تعالى الذكر في ختام الصلوات.
فقال تعالى: {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِكُمْ}.
وقال تعالى: {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.
فإذا انتهى من صلاته شَرَعَ في أذكار دبر الصلوات؛ وهكذا يتربى المسلم على ملازمة ودوام ذكر الله عز وجل.
ولذا نجد أن الله تعالى لم يأمر بالإكثار والاستزادة من عبادة مثل ما أمر بالإكثار من الذكر.
قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا}
وقال تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.
وقال تعالى: {وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا}.
وتسائل أهل العلم متى يكون العبد من الذاكرين الله كثيرًا.؟
قالوا: إن المسلم إذا واظب على أذكار الصباح والمساء، وأدبار الصلوات، وأذكار النوم، والأذكار التي تقال في الدخول والخروج وعند الركوب وعند الطعام وعند الشراب وبعد الفراغ منه، إلى غيرها من الأذكار الموظفة للمسلم في أيامه ولياليه مع عناية منه بالذكر المطلق؛ كتب بذلك من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات الذين أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيمًا.
فما من عبادة إلا ولها زمان محدد، وعدد محدد، وصفة وهيئة محددة إلا الذكر.
قال الله تعالى: {وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ}.
وقال الله تعالى: {الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر الله تعالى على كل أحواله."
وبكثرة الذكر تتجلى وتكتمل عبودية العبد لربه ومولاه سبحانه وتعالى؛ فالعبد إنما هو دائم الذكر لسيده ومولاه؛ فإن ملازمة الذكر تنهاه عن الوقوع فى المخالفة إذا أقدم على المعصية.
قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَىٰ مَا فعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ}.
نسأل الله العظيم أن يجعلنا من الذاكرين الله كثيرًا والذاكرات.
الخطبة الثانية: فضائل الذكر وأمثلة على بعض الأذكار اليسيرة.
1- الذكر من أفضل الأعمال:
فقد روى الترمذي وغيره عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أَلَا أُنَبِّئُكم بِخَيْرِ أعمالِكُم، وأَزْكاها عِندَ مَلِيكِكُم، وأَرفعِها في دَرَجاتِكُم، وخيرٌ لكم من إِنْفاقِ الذَّهَب والوَرِقِ، وخيرٌ لكم من أن تَلْقَوا عَدُوَّكم، فتَضْرِبوا أعناقَهُم، ويَضْرِبوا أعْناقكُم؟"، قالوا: بَلَى يا رسول الله، قال: "ذِكْرُ اللهِ".
2- ذكر الله تعالى يعوض النقص والتقصير في غيره من الطاعات وأبواب الخير:
عن عبد الله بن بسرٍ رضي الله عنه أنَّ رجلًا قال يا رسولَ اللهِ إنَّ شرائعَ الإسلامِ قد كثُرت عليَّ فأخبِرني بشيءٍ أتشبَّثُ به، قال: "لا يزالُ لسانُك رطبًا من ذكرِ اللهِ".
3- ذكر الله تعالى فيه حياة القلوب والنفوس:
ففي الصحيحين عن أَبي موسى الأشعري رضي الله عنه، عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "مَثَلُ الَّذِي يَذْكُرُ رَبَّهُ وَالَّذِي لا يَذْكُرُهُ مَثَلُ الحَيِّ وَالمَيِّتِ".
4- ذكر الله تعالى يعلي من شأن الذاكر عند ربه:
ففي الصحيحين عن أَبي هريرة رضي الله عنه، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "يَقُولُ اللهُ تَعَالَى: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلَإٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلَإٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ بِشِبْرٍ تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ ذِرَاعًا، وَإِنْ تَقَرَّبَ إِلَيَّ ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ إِلَيْهِ بَاعًا، وَإِنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً".
5- الذكر يبعث في النفس الطمأنينة وراحة البال:
قال الله تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ}.
6- ذكر الله تعالى حرز وحصن حصين من الشيطان الرجيم:
قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتّقوا إذا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ}.
فإذا غفل عن الذكر وفتر لسانه استحوذ عليه فأنساه الذكر.
قال تعالى: {وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِين}.
وقال تعالى: {اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَٰئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ}.
7- وبالذكر يستطيع العبد أن يغتنم الفرص بتثقيل ميزان الحسنات؛ وتأمل هذه الأذكار اليسيرة التي يستطيع الذاكر أن يملأ أوقاته بها:
في الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "كَلِمَتَانِ خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ ثَقِيلَتَانِ فِي الْمِيزَانِ حَبِيبَتَانِ إلى الرَّحْمَنِ سُبْحَانَ اللَّهِ وبحمده سُبْحَانَ اللَّهِ العظيم".
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "مَنْ قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ فِي يَوْمٍ مِائَةَ مَرَّةٍ حُطَّتْ خَطَايَاهُ وَإِنْ كَانَتْ مِثْلَ زَبَدِ الْبَحْرِ".
وفي صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ قَالَ حِينَ يُصْبِحُ وَحِينَ يُمْسِي سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ مِائَةَ مَرَّةٍ لَمْ يَأْتِ أَحَدٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِأَفْضَلَ مِمَّا جَاءَ بِهِ إِلَّا أَحَدٌ قَالَ مِثْلَ مَا قَالَ أَوْ زَادَ عَلَيْهِ".
وعن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من قال: سبحان اللهِ وبحمدِه، غُرِسَتْ له نخلةٌ في الجنَّةِ"[صحَّحه الألباني في صحيح الترغيب].
وفي صحيح مسلم عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الطهور شطر الإيمان والحمد لله تملأ الميزان وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ ما بين السماء والأرض".
وفي الصحيحين عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "يَا عَبْدَاللَّهِ بْنَ قَيْسٍ، أَلَا أَدُلُّكَ عَلَى كَنْزٍ مِنْ كُنُوزِ الْجَنَّةِ؟ لَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ".
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال: "مَن قال: لا إلهَ إلا اللهُ، وحده لا شريك له، له الملكُ وله الحمدُ، وهو على كل شيء قديرٌ، في يومٍ مائةَ مرةٍ، كانت له عدْلَ عشرِ رِقابٍ، وكُتِبت له مائةُ حسنةٍ، ومُحيتْ عنه مائةُ سيئةٍ، وكانت له حِرْزًا من الشيطانِ يومَه ذلك حتى يُمسي، ولم يأتِ أحدٌ بأفضلَ ممَّا جاء به، إلَّا أحدٌ عمِل أكثرَ من ذلك".
نسأل الله العظيم أن يعيننا على ذكره وشكره وحسن عبادته، وأن يجعلنا من الذاكرين الله كثيرًا والذاكرات.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد