دولة المماليك حقبة من التاريخ


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

اجتياح المغول لبغداد:

كانت بقيادة ذلك اللعين هولاكو، حفيد جنكيز خان، وكيف وصل بهم الحال إلى أن اجتاحوا الشام كله وأصبحوا على حدود مصر، وذكرنا كيف بدأت بذرة حكم دولة المماليك، وكيف أن الحكم كان للأيوبيين، وهم أحفاد وسلالة صلاح الدين الأيوبي رحمه الله، الذي حرر الله عز وجل به أرض المقدس والمسجد الأقصى من براثن الصليبيين. فكان آخر حكام الدولة الأيوبية هو نجم الدين الصالح أيوب، الذي كان يشتري من أمواله الرقيق الأبيض من الأتراك والأكراد والشركس، ويجلبهم إليه ويتكاثر بهم ليجعلهم قادة وعسكر في الميادين من حوله. كانت قوة هذا المملوك من قوة السلطان الذي ينتمي إليه ويدين له بالولاء، حتى جاء خطر المغول الذي يهدد الدخول إلى مصر. وكان أن نجم الدين لما مات، حكمت من بعده زوجته التي كانت مملوكة فاعتقها وتزوجها، وهي شجر الدر أو شجرة الدر على كلا اللفظين، ولكن الأصح أن تقول شجرة الدر. لقبت بذلك لجمالها وحسن تدبيرها ورأيها، ولكن الخليفة العباسي في ذلك الزمن قبل أن يجتاح المغول بغداد، أرسل رسالة وقال: *إن عدمت الرجال، فأخبرونا نسيّر لكم رجلًا حتى يحكمكم، ولا تحكمكم امرأة*. فكان هذا الأمر مستنكرًا في المسلمين جميعًا أن تكون الحاكمة امرأة. لذلك تنازلت عن الملك والسلطان إلى عز الدين أيبك، وهو أول مملوك يحكم ويعلن نفسه سلطانًا في دولة مصر.

فكانت بداية هذه الحقبة من التاريخ دولة المماليك بجلوس هذا الرجل عز الدين أيبك سنة 650 هجري الموافق 1250 ميلادي. فبدأت ما يسمى بدولة المماليك في مصر. لماذا سمّوا بالمماليك؟ لأن أصلهم مملوك، وهم ليسوا أحرارًا، فإن نجم الدين الصالح أيوب مات وهؤلاء مُلك له، أي هم مُلكٌ للسلطان، فهم ليسوا أحرارًا. لذلك سميت هذه الدولة وهذه الحقبة بدولة المماليك، الذين كانوا يحكمون مصر والشام ويحكمون أرض الحجاز، هذا أغلب ما يسيطرون عليه وتحت سلطتهم.

طبعًا بعد ذلك، لما قُتلت شجرة الدر ودبرت مقتل عز الدين أيبك هذا السلطان الجديد لأنه تزوج عليها، فأخذها ما يأخذ النساء، ولكن طاشت بهذه الفكرة، فتآمرت عليه مع بعض الخدم فقتلوه. وقامت زوجة عز الدين أيبك الأولى بجمع النساء فمكنت سيف الدين قطز من القبض على شجرة الدر، لأنها هي التي دبرت مقتل عز الدين السلطان، فقتلوها. وفي حادثة تاريخية مشهورة، ضربوها بالقباب، التي هي النعال الخشبية للنساء، ثم ألقوها في النيل.

بعد ذلك قام سيف الدين قطز وهو أحد المماليك كذلك، بتنصيب ابن عز الدين أيبك، وكان صغيرًا يسمى علي الملقب بالمنصور، فجعله على كرسي السلطنة، ولكن كان الخطر عظيمًا باجتياح المغول لجميع بلدان المسلمين، وهم يستمعون إلى المآسي والكوارث والمصائب التي يرتكبها المغول في بلاد الشام، وأصبحوا على أطراف مصر. فاجتمع أهل الحل والعقد في مصر من العلماء، من القادة المماليك، وقالوا لا يصلح في هذا الوقت أن يتولى السلطنة شاب صغير أو فتى صغير لا يتجاوز عمره 15 سنة. ونحن نرى أن الأمر يحتاج إلى سلطان قوي، صاحب خبرة ومعرفة في الحروب والقتال.

فوقع الاختيار على سيف الدين قطز، وسيف الدين قطز، هو بالأساس تركي، ويقال من خلال نسبه أنه يرجع إلى دولة خوارزم، وهي من الدول العريقة القوية التي اجتاحها المغول أول ما بدأ المغول بحروبهم على دولة خوارزم. وكان هو أحد أفراد العائلة المالكة من الخوارزميين، ولكنه بيع في الشام واشتراه نجم الدين أيوب، فكان عندهم في مصر. ويقال إن اسمه محمود ابن ممدود الخوارزمي.

عمومًا، استلم هذا القائد الذي له تاريخٌ مُشرق وبصمة عظيمةٌ جدًا في عالم المسلمين اليوم إلى يومنا هذا. ونحن نتحدث عن بطولاته وكيف أنه أخذ على عاتقه إنقاذ الأمة الإسلامية من خطر المغول.

فعلًا، لو رجعنا إلى سيرة الرجل ونظرنا إلى تفاصيل هذه الشخصية، فقد قام بعمل مُشرف وعمل لا يقوم به كثير من الرجال في كثير من الأزمان والأحداث التي تقع. ولكن هكذا كان عمل هذا الرجل العظيم في تكوين الجيش من جديد وشحذ همم الشعوب الإسلامية وانتمائه وولائه لأمة الإسلام. فكانت تلك المعركة المشهودة التي قام بقيادتها وكان هو السلطان على المسلمين في ذلك الوقت، وهي معركة عين جالوت.

معركة عين جالوت، هي بداية النهاية لخطر وشبح المغول في العالم جميعًا. هذه المعركة التي وضعت اللبنة في إنهاء خطر ودمار المغول، الذي بدأ منذ 60 سنة وهم يجتاحون العالم الإسلامي بل العالم أجمع في تدميره وخرابه. هذه المعركة التي أسس لها وقام على صناعتها هذا الرجل الفذ، وهو سيف الدين قطز.

يا سبحان الله، الشيء بالشيء يذكر. لماذا سمي قطز؟ الذي سماه قطز هم المغول. كان شرسًا في معاملته لهم لما كانوا يريدون بيعه في الأسواق حتى أنه لم يرضى أن يلمسه أحد من المغول، فسموه المغول أنفسهم في لغتهم قطز، أي الكلب الشرس. فكان هذا الملقب بالشرس هو الذي فتك بهم، وهو الذي أنهى خطرهم على العالم كله وخاصة عالم المسلمين.

كان بجانب سيف الدين قطز، رجل لا يقل عن قطز من الشجاعة والقوة والولاء والانتماء للمسلمين، وهو ركن الدين بيبرس. ركن الدين بيبرس، الذي هو تركي بالأصل، وكان هو الذراع الأيمن للسلطان سيف الدين قطز في قيادة الجيوش المصرية التي انطلقت من مصر وانضم إليها بعض الجنود والجيوش من بقايا بلدان الشام.

كانت تلك المعركة المشهودة التي تمت سنة 658 هجري (1260 ميلادي)، حيث هزم فيها الجيش المغولي بأكمله. كانت تلك المعركة التي كان يصيح فيها سيف الدين قطز: *وا إسلاماه، وا إسلاماه، إن هزمنا أو قتلنا في هذا اليوم لم يبق للإسلام والمسلمين قائمة*. كان يشحذ همم المسلمين في تلك المعركة، فاستبسل المسلمون جميعًا في دحر المغول. وكان ركن الدين بيبرس هو المخطط لهذه المعركة، وهو الذي بكتيبته التي يقال عنها *كتيبة الموت*، أول من اصطدم بالجيش المغولي ودخل مع 100 فارس اختارهم بعناية أن يدخل ويستفز الجيش المغولي حتى يتبعهم، بعد أن يهربوا منه بخطة ذكية حتى يدخلهم هذا المكان الذي يسمى عين جالوت، وهو عبارة عن جبال متراصة، يريد أن يدخلهم حتى يطبق عليهم بخطة الكماشة. فكانت تلك المعركة المشهودة التي هزم فيها المغول.

إعادة السيطرة على الشام:

بدأ الجيش الإسلامي المملوكي بعد ذلك يدخل بلدان الشام مدينة تلو الأخرى، يطهرها ويقتل المغول الذين بقوا فيها كحراس أو معسكرات، حتى وصل إلى حلب. ثم عاد في الطريق إلى مصر.

سبحان الله، سيف الدين قطز هذا الشجاع... هذا القائد، لم يتمكن من السلطنة والبقاء كسلطان إلا سنة واحدة. ففي الرجوع إلى مصر، كانت هناك حادثة اغتيال له، قال بعض المؤرخين إن القائم عليها هو ركن الدين بيبرس، والعلم عند الله.

عندما تفتش في هذه الحادثة وتجد أن هؤلاء الشجعان... هؤلاء القادة... هؤلاء الذين نصر الله بهم الإسلام والمسلمين، كيف أنه سرعان ما حصلت بينهم هذه الحادثة؟ منهم من يرجع هذه الحادثة إلى أن سيف الدين قطز وعد بيبرس بعد معركة عين جالوت بأنه يوليه على حلب وأنه سيصبح الوالي والحاكم لحلب، ولكنه بعد ذلك تراجع عن هذا القرار. يقال إنه تراجع حتى لا تكون قوة بيبرس في حلب لربما ينشق عنه ويشكل له دولة بكاملها في الشام وينفصل عن مصر. فقال الواجب أن يكون مثل بيبرس معي في مصر تحت عيني وقريبا مني حتى لا ينشق علي. وقالوا إن بيبرس حقد عليه لما واعده ثم نكث بوعده. فكان في الرجوع إلى مصر، أراد سيف الدين قطز الصيد والقنص، فجاءه سهم أرداه قتيلًا رحمه الله.

بيبرس: المؤسس الحقيقي لدولة المماليك:

عمومًا، نحن نقول إن سيف الدين قطز على قلة الوقت والزمن الذي حكم به، ولكنه أعاد وتسبب في عودة العزة والتمكين للمسلمين بعد هذه المعركة العظيمة. وكان هو السبب الرئيسي في جمع المسلمين جميعًا على قلب رجل واحد في دحرِ هذا الشر المستطير، وهو شر المغول.

لم يكن ركن الدين بيبرس، أقل حماسة وأقل عزمًا من سيف الدين قطز. بل يصفه المؤرخون أن المؤسس الحقيقي لدولة المماليك هو هذا الرجل الفذ، ركن الدين بيبرس.

إنجازات ركن الدين بيبرس:

حكم بيبرس ما يقارب 30 سنة، وهو الذي دحر بقية فلول المغول، وقتل ابن هولاكو. مات هولاكو كمدًا وحقدًا على ما فعله بيبرس في الجيوش المغولية. هذا الرجل الذي حرر كثيرًا من بلدان الشام من احتلال الصليبيين، وهو الذي حرر أنطاكية بالكامل، ولم يبق مكان أو أراض يحتلها الصليبيون إلا القليل الذي قام بدوره من جاء بعده المسمى بالناصر محمد قلاوون، الذي طهر بلدان الشام وأولاده من خطر الصليبيين ووجودهم في بلاد الشام جميعًا وبلاد المسلمين.

استمرارية حكم المماليك:

استمر حكم المماليك بعد ركن الدين بيبرس ما يقارب 135 سنة، ابتداء من سنة 650 هجري (1250 ميلادي) حتى سنة 784 هجري (1382 ميلادي). وكان هناك مماليك بحريون ومماليك برجيون. البحريون نسبة إلى جزيرة الروضة في النيل، حيث كانوا يقيمون، والبرجيون نسبة إلى أبراج القلاع.

التأثير الثقافي والمعماري لدولة المماليك:

إذا نظرنا إلى آثار دولة المماليك، نجد أنهم خلفوا إرثًا عظيمًا من العمارة والآثار، خصوصا في القاهرة والشام. فقد كانت دولتهم تعتمد على الجهاد وحماية المسلمين بغض النظر عن اختلاف العقائد. ومن المعارك المشهودة، معركة شقحب سنة 702 هجري (1303 ميلادي)، التي شارك فيها شيخ الإسلام ابن تيمية.

نهاية دولة المماليك:

انتهت دولة المماليك على يد الدولة العثمانية في معركة مرج دابق سنة 1516 ميلادي، ثم في معركة الريدانية سنة 1517 ميلادي. استمر المماليك بعد سيطرة العثمانيين كولاةٍ لمصر تحت الحكم العثماني، ولكن انتهى وجودهم كحكام مستقلين.

ختامًا، حاولنا بقدر المستطاع اختصار هذه الحقبة من التاريخ، وهي حقبة دولة المماليك التي استمرت وسيطرت ما يقارب 267 سنة.

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا وإياكم العلم النافع والعمل الصالح، وأن يرزقنا فهمًا دقيقًا للتاريخ. ونحن إذ ندرس التاريخ، علينا أن نتحدث عنه من منظورين: منظور العقيدة وصحة المنهج، ومنظور الإنصاف والعدل والأمانة في نقل الأحداث.

نسأل الله أن يرحم من كان محسنًا ويعفو عمن أساء.

 

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين  

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply