بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
يروي ابن الجوزي في "صيد الخاطر" أنّه قد جاء في الأثر دعاء غاية في الحسن وفيه: اللهم! أرنا الأشياء كما هي!
(1) أرنا الأشياء كما هي! هذا دعاء ذكي، بسيط ومباشر، لأنّ الذهن عقرَب قادرة على لدغ نفسها!
كثيرًا ما أقول للأصدقاء، أنّ الفتنة حين تأتي فإنّها لا تأتيك، وهي تُفصحُ عن نفسها بأنّها فتنة! إنّها تأتي ناعمة، هادئة، تأتيك على هيئة حاجة، على هيئة ظروف، تأتيك على هيئة استثناء! تقول لنفسك: أنا شخص جيّد، لن أقع بما وقع به الآخرون! كان درويش ذكيًا غاية الذكاء حين قال: كم كذبنا حين قُلنا نحنُ استثناء!
هل كان علينا أن نسقط من عُلُوٍّ شاهق، ونرى دمنا على أيدينا، لنُدرِك أنّنا لسنا ملائكة... كما كُنّا نظن؟
كما كان ابن الجوزي شديد الملاحظة، إذ قال في موضع آخر من كتابه: تأمّلتُ وقوع المعاصي من العُصاة! فوجدتهم لا يقصدون العصيان، ولكن موافقة هواهم!
ملاحظة ذكية، فالطريق إلى جهنّم مُعبّد بالنيات الحسنة كما يُقال، قلّما نذهب بأرجلنا إلى الجحيم بكامل وعينا وإرادتنا فالأشياء تأتينا على هيئة تبريرات وظروف واستثناءات مُؤقّتة، وضمانات نفسية بأنّنا سنرتكب هذه، مرّة واحدة فحسب!
وقد قال الإمام الجُنيد من قبل: حقيقة الصدق، أن تصدُقَ في مَوطنٍ، لا يُنجيكَ منه... إلّا الكذب!
(2)أرِنا الأشياء كما هي! لأنّنا حَمقى ونغفل عن عطاياك!
قبل فترة كنت قد توقّفت على حديث الرسول ﷺ: "مَن كانت الدُّنيا همَّه... فرَّق اللهُ عليه أمرَه، وجعل فقرَه بين عينَيه!"
حديث مدهش... لماذا قال: وجعلَ فقره بين عينيه؟ ولم يقل: وجعله فقيرًا!
وكأنّ عقابه أن جُعِلَ كلّ ذهنه، كُلّ تركيزه، كلّ انتباهه... إلى حاجته التي يلهث خلفها، فلا يعودُ قادرًا على رؤية شيءٍ سوى حاجته المفقودة، فيلازمه على الدوام شعورٌ عميق بأنّه فقير! بأنّه مَحروم!
قال شُرّاح الحديث: جعَل اللهُ احتِياجَه "بينَ عينَيه"، أي: أمامَه، ولو كان من الأغنياء!
(3) "واقدر ليَ الخيرَ حيثُ كانَ... ثمَّ رضِّني بهِ" دعاء الاستخارة.
غالبًا ما يغفل النّاس عن مفهوم (الخير)، يظنّ النّاس أنّ (الخير) تحقيق ما أتمناه! حصول ما أريد حصوله! لماذا علّمك النبي ﷺ أن تقول "حيث كان... ثُمّ رضّني به!" لأنّ الخير أحيانًا يأتي على هيئة غير التي كنتَ تتمنّى!
غالبًا ما نتصوّر الخير بطريقة أحادية البُعد: وكأنّ الخير يجب أن يكون دائمًا (الحصول على الشيء) كما أنّه يجب أن يكون الأقصى والأكثر الـ maximum الأقصى الأعلى الأكبر الأجدد مثل النجاح والقبول في البرنامج وتحصيل الوظيفة!
بينما يرسم لنا القرآن الخير بطريقة مختلفة بوصفه: الأمثل بالنسبة إلى الظروف الراهنة optimum وبأنّه ما يأخذ بعين الاعتبار أبعاد مُتعدّدة multi-dimensional، فيكون الأمثل حالة متوازنة تضمّن سلامة بقيّة الجوانب. لذلك يُمكن أن يأتي (الخير) على هيئة السلب، مثل الرفض وفوت المطلوب والإبعاد وخسارة الفرصة!
ليسَت كلّ عطية ومال ووظيفة خير، أحيانًا ما يحول بينك وبين الطغيان عدم تمكّنك منه (accessibility) وأحيانًا أنت معافىً في دينك وأخلاقك لأنّك لم تُوضَع مواضع التجربة مع التمكين، لذا قال ابن عطاء في حِكَمه:
من تمام النعمة عليك أن يرزقكَ ما يكفيك، ويمنعك ما يطغيك!
يستخدم السويديون كلمة "lagom" في اصطلاحات حياتهم اليومية، لوصف نوع من الاعتدال الذي يُعبّر عن "الكفاية"، وهو ملمح مثير للاهتمام، فكلمة "Lagom" في اللغة السويدية تعني: ليس الكثير، وليس القليل جدّا، وإنّما المقدار الصحيح!
أرنا الأشياء كما هي! لا كما نُريدها أن تكون، لأنّنا يائسون، ومَرضى بما نهوى!
أرنا الأشياء كما هي! لا كما نُظهرها لأنفسنا، لأنّنا مَحرومون، ونتعلّق بكلّ ما يروي عطشنا!
أرنا الأشياء كما هي! لأنّنا أسرى عواطفنا وعبيد مخاوفنا ومَدفوعون بالوَهم!
أرنا الأشياء كما هي! ذكّرنا بأنّها دُنيوية، بأنّها زائلة، وأنّ كلّ شيءٍ هالكٌ إلّا وَجهُكَ الكريم!
أرنا الأشياء كما هي! علّمنا أنّك الحقيقة المطلقة في هذا الوجود... وأنّ كُلّ شيءٍ سواكَ... باطلُ.
أرنا الأشياء كما هي! نبّهنا بأنّها لا تقدر، وأنّك الوحيد الذي تقدر، كي لا يذلُّ أحدنا نفسَه دون أن يدري!
أرنا الأشياء كما هي! علّمنا بأنّه لا يكون في كونك إلّا ما تُريد، كي لا نأسى على شيء فات! وكيلا ننهار ونحن نترقّب ما سيكون!
أرنا الأشياء كما هي! كي نشكر الرزق الذي يأتينا من أبواب غير تلك التي نترصّدها!
أرنا الأشياء كما هي! بكامل قُبحها، بعيدًا عن رغبتنا الطفولية في إنكار بشاعتها، كي تبقى في أذهاننا جميلة!
أرنا الأشياء كما هي! كي لا نصيرَ مُثيرين للشفقة، ونحن نُطارد ما ليس لنا!
أرنا الأشياء كما هي! ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين، ولا أقلّ من ذلك.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد