بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
تعددت أساليب القرآن وتنوعت في إيصال رسالته إلى البشر، فتارةً يعتمد الحوار وتارةً أخرى التربية النفسية، وتارةً ضرب المثل، وغيرها من الأساليب الأخرى والإعجاز البياني في القرآن.
والقصص في القرآن كان لها عناية خاصة وبالغ الأثر في نفوس المؤمنين لما لها من عنصر التشويق والاتعاظ والعبر، والآيات التي تبين اعتماد القرآن للقصص كثيرة منها:
- {إِنَّ هَـٰذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَـٰهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} [٦٢ آل عمران].
- {وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـٰكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّٰلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [١٧٦ الأعراف].
- {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَـٰذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} [٣ يوسف].
- {فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [٢٥ القصص].
- {لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَىٰ وَلَـٰكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [١١١ يوسف].
- {قَالَ ذَٰلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَىٰ آثَارِهِمَا قَصَصًا} [٦٤ الكهف].
ومن هذه الآيات هي آيات سورة النور، وهي سورة مدينة، ركزت على حماية المجتمع وصيانته مما يشوبه ويعتريه، فيذكر فيها جريمة الزنا وجريمة القذف، وأحكام الملاعنة وغيرها من الأحكام، قال تعالى:
{إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّىٰ كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [11 النور].
وبدايةً، فإن الله سبحانه وتعالى قد برّأ أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها مما قيل عنها من المنافقين أهل الإفك والكذب، ولقد أجمع علماءنا على أن من اتهمها مما برأها الله منه وبعد نزول براءتها فهو كافر.
وحادثة الأفك معروفة ومنتشرة في أغلب كتب السنة، فعَنْ حَديثِ عَائِشَةَ، حِينَ قالَ لَهَا أهْلُ الإفْكِ ما قالوا، وكُلٌّ حدَّثَني طَائِفَةً مِنَ الحَديثِ، قالَتْ: فَاضْطَجَعْتُ علَى فِرَاشِي وأَنَا حِينَئِذٍ أعْلَمُ أنِّي بَرِيئَةٌ، وأنَّ اللَّهَ يُبَرِّئُنِي، ولَكِنِّي واللَّهِ ما كُنْتُ أظُنُّ أنَّ اللَّهَ يُنْزِلُ في شَأْنِي وحْيًا يُتْلَى، ولَشَأْنِي في نَفْسِي كانَ أحْقَرَ مِن أنْ يَتَكَلَّمَ اللَّهُ فِيَّ بأَمْرٍ يُتْلَى، وأَنْزَلَ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: {إنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنكُمْ} العَشْرَ الآيَاتِ كُلَّهَا.
وسنتحدث ابتداءً عن المنافقين وانتشارهم في المدينة باختصار، ثم كيف حاكوا هذه الحادثة المقيتة، واتهام عائشة رضي الله عنها وجمعنا بها مع حبيبنا ﷺ، ثم سنتحدث عن فتح مكة باختصار أيضًا.
انتهت غزوة الخندق بانتصار المسلمين، وانتصر النبي ﷺ على أبو سفيان وعلى المشركين بل على كل الأحزاب الذين تحزبوا ضد النبي ﷺ. نحن الآن في أواخر السنة الخامسة.
وفي أواخر السنة الخامسة خرج رأس المنافقين عبدالله بن أبي سلول، وقد كان يكره النبي منذ دخوله المدينة يوم الهجرة. ولما دخل النبي المدينة عليه الصلاة والسلام، كان أهل المدينة الكفار قد رشّحوا منهم ابن أبي سلول ليكون ملكًا على المدينة، وكانوا يستعدون على أن يلبسوه تاج الملك. ولما دخل النبي المدينة، ترك الناس ابن أبي سلول وذهبوا للنبي ﷺ. ثم تركوه ومُلكه ولم يتوج على المدينة. ومنذ ذلك اليوم هو حاقد وحانق على النبي ﷺ.
لقد علم المنافقون وابن أبي سلول تحديدًا أن الرسول ﷺ لا يمكن أن يُواجه بالسلاح ولا بالسيف ولا بالقوة. فكل ما أرادوا أن يفعلوه كانوا قد فعلوه. فتحزبت قبائل اليهود مع قبائل العرب وحاولوا أن يهزموا النبي ﷺ، ومع ذلك ما استطاعوا هزيمته. فوجدوا ألا طريق لهم إلا أن يشتغلوا في جانب الإشاعات والافتراءات.
وبالطبع فالمنافقين اضطروا على الإسلام اضطرارًا، متى؟ بعد غزوة بدر. لأن الإسلام بعد غزوة بدر كان قد تمكن وأصبحت الفرقان حقيقةً، فما كان للمنافقين بُدًا إلا أن يدخلوا مظاهرة أو يتظاهروا بأنهم قد أسلموا وهم على نفاق. وعلى كره، لكنهم أظهروا ذلك حتى يستطيعوا أن يخترقوا صفوف المسلمين. وكان النبي ﷺ يعلم أن المنافقين موجودون.
ففي غزوة أحد خرج مع النبي قرابة ألف مجاهد، ثلث الجيش أرجعهم ابن أبي سلول هذا -ما يقرب من 300 محارب- ورجعوا بسبب المنافقين. وبقي مع النبي 700 شخص فقط. فالرسول عليه الصلاة والسلام يعرف الآن أن حزب المنافقين متواجدين في المدينة وأن لهم تأثيرًا، وأن لهم صوتًا كما قال الله: {وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ} [ 4 المنافقونٍ].
سمع النبي ﷺ أن بني المصطلق يريدون غزو المدينة. فأخذ النبي مجموعة من الصحابة، وطبعًا كان في الغزوة ممن خرج مع الرسول عدد من المنافقين. وخروجهم في الغزوة يريدون أن ينخروا في المجتمع. أوقف النبي الجيش لما هزمهم. أوقف الرسول الجيش في عودته لكي يستريح الجند ويشربوا الماء ويناموا. وخرج غلام مولى لعمر بن الخطاب وخرج كذلك أحد الموالي من الأنصار. وذهبوا البئر يأتون بالماء حتى يشرب الجيش. فحدث بين الموليان حدة في الكلام. هذا يقول لماذا تأخذ الماء قبلي، والآخر يقول لماذا تأخذ الماء قبلي. وارتفعت الأصوات. فقال المولى الأنصاري *يا للأنصار*، وقال مولى عمر *يا للمهاجرين*. فقام بعض المهاجرين والأنصار، فسمعوا الكلام ودخلوا معهم في المشكلة وارتفعت الأصوات بين الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم. وغضب النبي ﷺ، وقام وقال "دعوها فإنها منتنة".
طبعًا فالمنافقين يريدون أن يحاولوا في كل مرة. تخيلوا ابن أبي سلول هذا من مواقفه المنتنة. وطبعًا الرسول الآن لابد أن يحل الموضوع. وهو عظيم في كل شيء ﷺ، في سياسته، في تخطيطه، في مراعاته للوضع، في محاولته أن يقطع الطريق على مثل هذه الأشكال.
قال ﷺ: قوموا، فأكملوا مسيركم. أين يا رسول الله؟ لم نرتح بعد! قال: قوموا. الرسول يريد أن يشغلهم بالمسير. قال الصحابة: فقمنا في النهار، فقلنا لعله يريحنا في آخر الليل، في آخر النهار يعني وقت المساء. فمشينا، فدخل الليل علينا، قلنا نرتاح الآن. قال: اكملوا المسير. قلنا لعله يجلسنا ونرتاح في آخر الليل. قال: فدخل الفجر علينا، صلينا، وقال: واصلوا مسيركم، قلنا لعله نرتاح فجاء الضحى. فإذا بالرسول واصل المسير حتى ارتفعت الشمس واحتر الجو وتعب الناس. فأمرهم النبي أن يبقوا وأن ينزلوا وأن يناموا. حتى قال الصحابة: والله ما إن لمست أجسادنا الأرض إلا ونمنا مباشرة. وهذا ذكاء، حتى يشغلهم.
تقول عائشة رضي الله عنها تروي: قالت عائشة: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد سفرا أقرع بين أزواجه، فأيتهن خرج سهمها خرج بها رسول الله صلى الله عليه وسلم معه، قالت عائشة: فأقرع بيننا في غزوة غزاها فخرج فيها سهمي.
قصة الإفك:
تكمل أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: فخرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ما أنزل الحجاب، فكنت أحمل في هودجي وأنزل فيه، فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته تلك وقفل، ودنونا من المدينة قافلين، آذن ليلة بالرحيل، فقمت حين آذنوا بالرحيل، فمشيت حتى جاوزت الجيش، فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي، فلمست صدري فإذا عقد لي من جزع ظفار قد انقطع، فرجعت فالتمست عقدي فحبسني ابتغاؤه، قالت: وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلون لي، فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري الذي كنت أركب عليه، وهم يحسبون أني فيه، وكان النساء إذ ذاك خفافا لم يهبلن، ولم يغشهن اللحم، إنما يأكلن العلقة من الطعام، فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه وحملوه، وكنت جارية حديثة السن، فبعثوا الجمل فساروا، ووجدت عقدي بعد ما استمر الجيش، فجئت منازلهم وليس بها منهم داع ولا مجيب، فتيممت منزلي الذي كنت فيه، وظننت أنهم سيفقدوني فيرجعون إلي، فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيني فنمت.
وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني من وراء الجيش، فأصبح عند منزلي، فرأى سواد إنسان نائم فعرفني حين رآني، وكان رآني قبل الحجاب، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني، فخمرت وجهي بجلبابي، والله ما تكلمنا بكلمة، ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه، وهوى حتى أناخ راحلته، فوطئ على يدها، فقمت إليها فركبتها، فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش موغرين في نحر الظهيرة وهم نزول، قالت: فهلك من هلك، وكان الذي تولى كبر الإفك عبدالله بن أبي ابن سلول. قال عروة: أخبرت أنه كان يشاع ويتحدث به عنده، فيقره ويستمعه ويستوشيه. وقال عروة أيضا: لم يسم من أهل الإفك أيضا إلا حسان بن ثابت، ومسطح بن أثاثة، وحمنة بنت جحش، في ناس آخرين لا علم لي بهم، غير أنهم عصبة، كما قال الله تعالى، وإن كبر ذلك يقال له: عبدالله بن أبي ابن سلول.
قال عروة، كانت عائشة تكره أن يسب عندها حسان، وتقول: إنه الذي قال:
فإن أبي ووالده وعرضي *** لعرض محمد منكم وقاء
فهلك من هلك، ورميت المحصنة البريئة بما رُميت. ودخلت رضي الله عنها في الظهيرة اليوم الثاني مع صفوان، والظهر قد خرج، فراها المنافق ابن أبي سلول، ورآها المنافقون. فقالوا فيها رضي الله عنها ما قالوا: الفرية. لماذا تأخرت؟ لماذا بقيت مع صفوان بن المعطل؟ لماذا صفوان تأخر معها أيضًا في آخر الصف؟ لماذا نحن نصل في الليل وهي لا تصل إلا في النهار؟ والله ما ضرها، كما يقول شيخ الإسلام، إنما مما يثبت براءتها قبل نزول القرآن أنها جاءت مع صفوان على دابته أو على راحلته في النهار، في وضح النهار. فأقبلت ودخلت على القوم، ربيبة عفة وحياء وطهر. معاذ الله أن تأتي الفاحشة، ولكن الله جل وعلا أراد شيئًا فكان، والطاهرة غافلة عما أراده أولئك المنافقون.
ولكن الخبر ظهر وانتشر الكلام، أن عائشة رضي الله عنها تأخرت مع صفوان لأنها تريد أن تفعل الفاحشة معه. أصيبت رضي الله عنها وذلك ومن أقدار الله أنها تقول: أصبت بحمى فجلست في بيتي. والله ما علمت الخبر وما علمت أن الناس تحدثوا فيني. الرسول لم يخبرها، وأبو بكر ما أخبرها، وأمها ما أخبرتها. تقول: فبقيت على هذا الحال، إلا أنني استنكرت لطف النبي.
تقول: أنا استنكرت الرسول. كان النبي ﷺ لطيفًا حينما أمرض، أما هذه المرة فما رأيت منه ذلك اللطف وذلك الاهتمام الذي كان النبي يفعله معي حين المرض. فاستأذنته أن أمرض في بيت أبي، فأذن لي رسول الله ﷺ. فذهبت وتمرضت في بيت أبي.
معاناة أبي بكر:
سمع أبو بكر الصديق الفرية، ومرت عليه الليالي عظيمة، ومرت على آل بكر الليالي، يقول رضي الله عنه: والله ما علمت أحدًا من أهل المدينة مرت عليه ليالي كما مرت علينا آل أبي بكر حينما رميت عائشة رضي الله عنها بما رميت. لكنه يحسن الظن في ابنته، وينتظرون الفرج من السماء. والرسول صابر، ومن حكمة الله انقطع الوحي عن رسول الله، وينقطع جبريل لمدة شهر، والفريه تنتشر، والمنافقين يتحدثون، والنبي ﷺ يتألم، ويصعد على المنبر فيقول: يا أيها الناس، إني سمعت رجلًا آذاني في أهلي وقال في أهلي ما ليس فيهم. والله إني ما علمت عنهم إلا خيرًا، وأنتم تشهدون بذلك. ولكن الفرية تنتشر، والنبي يحاول أن يكون حكيمًا حازمًا، يحسم الإشاعة ويظهر البراءة.
والرسول عليه الصلاة والسلام عند حسن الظن بزوجته، لكنه بشر، والوحي لم ينزل. فذهب إلى أسامة، فقال: يا أسامة، ماذا تقول في عائشة؟ قال: يا رسول الله، ما علمنا عن أهلك إلا خيرًا. وذهب النبي يسأل زينب بنت جحش، لأن أخت حمنة بنت جحش إحدى اللواتي نشرت الفرية. هي لم تصدق، لكنها قالت هذا الكلام كما قال غيرها. قال: ماذا تقولين في عائشة؟ قالت: والله أحمي سمعي وبصري، والله ما علمت عنها إلا خيرًا. فإذا برسول الله يسأل الجارية، قال: ماذا تقولين في عائشة؟ قالت: يا رسول الله، إن زوجك كالذهب الأحمر، والله لو أنها فعلت ما قيل فيها لأخبرك الله من فوق سبع سماوات.
الثبات والصبر:
قال الصحابة: يا رسول الله لقد زوجك الله أياها، ولن يدلس عليك فيها. ولو فعلت ما فعلت لأخبرك الله جل وعلا. وأبو بكر مهموم، قلبه تنهشه السباع لا يدري ماذا يفعل.
انقسم الناس إلى أربعة أقسام: منهم الذين صدقوا وهم ساكتون، ومنهم الذين كذبوا وهم ساكتون، ومنهم من شاع خبرهم وأخذوا يتحدثون وهم ليسوا بمصدقين، لكنهم من باب الفضول فقط. ومنهم أفاكين منافقين ينشرون الفرية. تقول عائشة: خرجت في ليلة بعد أن نشطت وطابت من الحمى التي جاءتها، ولم تعلم رضي الله عنها بما قيل فيها. خرجت مع أم مسطح.
فأخبرتها بقول أهل الإفك، فأخذت تبكي حتى كاد أن يُغشى عليها. وأبو بكر كان في سطح البيت يصلي، فسمع صوتها وبكاءها، فنزل. فقال لأمها: لم تبكي عائشة؟ قالت: إنها علمت ما يقول عنها الناس، وتفطرت كبدها من البكاء. فقام أبو بكر رضي الله عنه الشريف الطاهر وبكى رضي الله عنه وأرضاه، وقال: والله ما من أهل بيت أصابهم مصيبة كما أصيب بيت آل أبي بكر. والله ما رمينا بها في الجاهلية، أفنرمى بها في الإسلام؟
فقال عمر لرسول الله: يا رسول الله، لقد زوجك الله إياها. والله إن الله لا يدلس عليك. فبكى رسول الله، وقال: قل لهم يا عمر، قل لهم يا عمر. فقام النبي ﷺ وصعد على المنبر. فوقف، وقال: يا أيها الناس، بلغني أن رجلًا يؤذيني في أهلي، وما علمت عن أهلي إلا خيرًا. وقد شهد الناس بذلك. وقد ذكروا لي رجلًا ما علمت عنه إلا خيرًا، ولا دخل بيته إلا بإذني، وقد شهد بدرًا معنا. فمن يعذروني في حقي من هذا الرجل؟ قولوا أنتم أيها الناس.
فقام أسيد بن حضير من الأوس، فقال: يا رسول الله، والله ما علمنا عن أهلك إلا خيرًا. إن كان من الأوس قمنا وقطعنا رأسه، وإن كان من الخزرج فأمرنا فنقطع رأسه. فقام سعد بن عبادة، وقال: اسكت يا أسيد، لن تستطيع أن تقطع رأسه. -أخذته الحمية-، وقال أسيد: اسكت يا منافق، إنك تسكت على من يتكلم في عرض رسول الله. فقام رسول الله وأسكتهم، وقال: اسكتوا أو اصمتوا. دعوة الجاهلية وأنا بين ظهرانيكم.
لقاء النبي بعائشة:
قام النبي ﷺ، فدخل على عائشة. تقول: دخل علي النبي، وكانت الجلسة الأخيرة بعد قرابة الشهر من انتشار الفرية. وقال: "أَمَّا بَعْدُ يَا عَائِشَةُ! فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي عَنْكِ كَذَا وَكَذَا، فَإِنْ كُنْتِ بَرِيئَةً فَسَيُبَرِّئُكِ اللَّهُ، وَإِنْ كُنْتِ أَلْمَمْتِ بِذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرِي اللَّهَ وَتُوبِي إِلَيْهِ، فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا اعْتَرَفَ بِذَنَبِهِ، ثُمَّ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ".
تقول أم المؤمنين عائشة: فأجهشت بالبكاء، والتفت إلى والدي أبي بكر، فقلت: يا أبتي، أجب رسول الله. يا أبتي، أجب رسول الله. كانت تقول: دافع عني يا رسول الله، يا أبي. فقام أبو بكر، فقال: والله لا أدري ماذا أقول. فالتفت إلى أمها، وقالت: يا أم، أجيبي عني رسول الله ﷺ. قالت: والله لا أدري ماذا أقول. فقمت وأنا أبكي، فقلت: أما أنا، فسأقول له ما قال يعقوب والد يوسف: {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَىٰ مَا تَصِفُونَ}[18 يوسف].
تقول: والله ما قلتها إلا وعلمت أن الله سيبرئني. وكنت أظن أن الله جل وعلا سيرى رسوله رؤيا في المنام فيها براءتي. وما علمت أنه سينزل فيَّ قرآنًا إلى قيام الساعة. قالت: فنظرت إلى رسول الله ﷺ، فتغشاه ما تغشاه، وعلمت أن الوحي ينزل عليه. فإذا برسول الله ينحدر عرقه، ثم أخذ يتبسم، وشكر الله، وسجد، وأخذ يدرج لها البشارة، فقال: يا عائشة، أبشري، أبشري، إن الله برأك من فوق سبع سماوات.
براءة عائشة:
إن الله برأك من فوق سبع سماوات. فأخذ يتلو ﷺ:
{إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّىٰ كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ * لَّوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَٰذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ} [11-12 النور].
ثم ختم الله الآيات: {يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [17 النور].
إعلان البراءة:
نزلت الآيات، واستبشر النبي ﷺ، وخرج عليه الصلاة والسلام وصعد المنبر، وأخذ يخطب الناس ويتلو عليهم هذه الآيات. آيات تنزه وتطهر، وتطهر هذه الصحابية الجليلة رضي الله عنها وأرضاها، وتطهر كذلك، أو تجبر أسرة آل الصديق رضي الله عنهم، وجبرًا لمصابهم، وزيادة في أجرهم. وقد توعد الله من وقع فيها رضي الله عنها. وقد أجمع المسلمون خاصة وعامة أن من تكلم في عائشة رضي الله عنها عاقبه الله ولعنه، وعليه لعنة الله وله عذاب شديد. بل كما قال الله جل وعلا: {لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ} [11 النور].
هذه الإفك، وهذه حادثتها، وهم هم المنافقون في كل زمان ومكان، والذين جاؤوا بالإفك ليسوا واحدًا ولا اثنين بل جماعة، إنما يتقدمهم رأس المنافقين ابن أبي سلول، وفي حادثة الإفك من الدروس والعبر الخير الكثير، وحديث الإفك لم يكن فريةً لأم المؤمنين وحدها، بل يتجاوزها إلى الأمة بأكملها المتمثلة برسولنا الأعظم عليه صلوات الله وتسليمه، وفي الصحيح عن الصحابي عمرو بن العاص: "قلتُ: يا رسولَ اللَّهِ أيُّ النَّاسِ أحبُّ إليْكَ؟ قالَ: عائشةُ. قلتُ: ومنَ الرِّجالِ؟ قالَ: أبوها".
فمن أبغض أحب الناس إلى رسول الله ﷺ فهو حريّ أن يكون بغيضه ﷺ يوم القيامة.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد