الديوث


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

الدَّيُّوْث كما ورد في «الصحاح في اللغة» هو «القُنْذُعُ، وهو الذي لا غَيرةَ له»، وفي تعريف الدياثة قالت "الموسوعة الفقهية" (21/ 96): "الدياثة لغة: الالتواء في اللسان، ولعله من التذليل والتليين، وهي مأخوذة من داث الشيء ديثا، من باب باع: لان وسهل، ويعدّى بالتثقيل فيقال: ديث غيره. ومنه اشتقاق الديوث، وهو الرجل الذي لا غيرة له على أهله، والدياثة بالكسر: فعله، وعرفت الدياثة بألفاظ متقاربة يجمعها معنى واحد لا تخرج عن المعنى اللغوي وهو عدم الغيرة على الأهل والمحارم. وفي المصباح: أن الديوث هو الرجل الذي لا غيرة له على أهله.

وقد كان أهل الجاهلية الأولى - رغم جاهليتهم – كانوا يرفضون الزنا، ويرونه عارًا، ولم يزِد الإسلام ذلك إلا شِدّة، إلا أن الإسلام تمم مكارم الأخلاق وضبطها بضوابط الشريعة.

فالرجل الجاهلي كانت تحمله الغيرة على دفن ابنته وهي حيّـة، فجاء الإسلام وأقرّ الغيرة، وحرّم وأد البنات.

ومن هنا كانت غيرة الرجل على زوجه ومحارمه محمودة، وعلامة على كمال الرجولة والشهامة، وتركها دياثة مذمومة شرعًا وطبعًا، وهذا ما جعل الدفاع عن العرض مشروعًا، ومن مات في سبيل ذلك عد شهيدًا، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: من قتل دون أهله فهو شهيد. رواه أحمد وصححه الأرناؤوط.

 

ففي الصحيحين من حديث الْمُغِيرَةِ بْنِ شُعْبَةَ قَالَ: قَالَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ: لَوْ رَأَيْتُ رَجُلًا مَعَ امْرَأَتِي لَضَرَبْتُهُ بِالسّيْفِ غَيْرُ مُصْفِحٍ عَنْهُ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللّهِ صلى الله عليه على آله وسلم فَقَالَ: أَتَعْجَبُونَ مِنْ غَيْرَةِ سَعْدٍ؟ فَوَ الله لأَنَا أَغْيَرُ مِنْهُ، وَالله أَغْيَرُ مِنّي، مِنْ أَجْلِ غَيْرَةِ الله حَرّمَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَلاَ شَخْصَ أَغْيَرُ مِنَ الله، وَلاَ شَخْصَ أَحَبّ إِلَيْهِ الْعُذْرُ مِنَ الله، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ بَعَثُ الله الْمُرْسَلِينَ مُبَشّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَلاَ شَخْصَ أَحَبّ إِلَيْهِ الْمِدْحَةُ مِنَ الله، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ وَعَدَ الله الْجَنّةَ.

قال علي رضي الله عنه: أما تغارون أن تخرج نساؤكم؟ فإنه بلغني أن نساءكم يخرجن في الأسواق يزاحمن العلوج. رواه الإمام أحمد

قال ابن القيم رحمه الله: فَجَمَعَ هذا الحديثُ بين الغيرةِ التي أصلُها كراهةُ القبائح وبُغضُها، وبين محبةِ العُذرِ الذي يوجبُ كمالَ العدلِ والرحمةِ والإحسانِ

فالغيورُ قد وافقَ ربَّهُ سبحانه في صفةٍ من صِفاتِه، ومَنْ وافقَ الله في صفه من صفاتِه قادته تلك الصفة إليه بزمامه وأدخلته على ربِّه، وأدنته منه وقربته من رحمته، وصيّرته محبوبًا له. انتهى.

 

والمعروف أن الديوث هو الذي يرضى الفاحشة في أهله، يرضى بأن تزني، يرضى بفعلها الفاحشة، هذا هو الديوث الذي يرضى بالمعصية، والشر في أهله، أي الفساد في أهله، يقرهم على ذلك، وربما دعا إلى ذلك، وأخذ عليه الفلوس، نسأل الله العافية والسلامة.

وعندما سئل الإمام ابن باز رحمه الله عن حكم الذي يرضى لزوجته بالنظر إلى الفساد في التلفاز، أو الفيديو، أو يسمح لها بالخروج متبرجة؟ فهل يعتبر ديوثًا؟ كان جوابه أن إقرار الرجل على المعاصي التي تدعو إلى الزنا نوع من الدياثة، إقراره على رؤية العراة من الرجال، أو سماع الأغاني، أو آلات الملاهي، قد يدعو إلى الدياثة، قد يدعو إلى الفساد هذا، لكن ليس الدياثة، لكنه وسيلة إلى الدياثة، ووسيلة إلى الشر.

وقد سئل الإمام عمن يحضر سائقًا لسيارة منزله، ليأخذ الزوجة والبنات من غير محرم، هل يعتبر هذا الرجل ديوثًا، وقد يكون أحيانًا غير مسلم؟

فكان جوابه أن هذا عمل قبيح لا ينبغي، لكن لا يقال: إنه ديوث؛ لأنه قد يكون شُبّه عليه، وأحسن ظنه بأهله، ما يعتبر ديوثًا، لكن يخشى عليه من الإثم، وينبغي له أن يكون عنده غيرة، وعنده احتياط، وحرص على سلامة أهله، ولا يقال له: ديوث، إلا إذا تعمد الباطل، وتساهل حتى صار يرسل امرأته مع الأجنبي من دون محرم.

وروى أحمد عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاثة قد حرم الله تبارك وتعالى عليهم الجنة: مدمن الخمر، والعاق، والديوث الذي يقر في أهله الخبث».

وروى الطبراني عن عمار بن ياسر رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ثلاثة لا يدخلون الجنة أبدًا: الديوث، والرجُلَة من النساء، والمدمن الخمر، قالوا: يا رسول الله: أما المدمن الخمر فقد عرفناه، فما الديوث؟ قال: الذي لا يبالي من دخل على أهله، قلنا: فما الرجُلَة؟ قال: التي تتشبه بالرجال»، قال الهيثمي في (مجمع الزوائد): (فيه مساتير، وليس فيهم من قيل إنه ضعيف). وروى البزار والطبراني عن مالك بن أحيمر رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:  «لا يقبل الله من الصقور يوم القيامة صرفًا ولا عدلًا، قلنا: يا رسول الله: وما الصقور؟ قال: الذي يدخل على أهله الرجال»، قال الهيثمي فيه أبو رزين الباهلي، ولم أعرفه، وبقية رجاله ثقات.

وحسب اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء بأن لفظ الديوث أطلق على كل من أقر الخبث في كل من له ولاية عليه؛ من زوجته وبنته وأخته ونحو ذلك، سواء كان الخبث زنًا أو وسائل إلى الزنا، من كشف عورة أمام أجنبي وخلوة به، وتطيب عند الخروج ونحو ذلك مما يثير الفتنة، ويغري بالفاحشة، ورأى أن الأحاديث الخاصة الواردة في هذا داخلة في عموم الحديث الأول، لكن هذه الأحاديث فيها من المطاعن ما تقدم بيانه، مع العلم بأن سكوت الإنسان عن المنكر محرم، سواء كان في أهله أم في غيرهم، إلا أن سكوته عن إنكاره فيمن ولاه الله أمرهم أشد نكرًا، وأعظم إثمًا؛ لكونه ولي أمرهم الخاص، سواء سمي ذلك السكوت دياثة أم لم يسم بذلك، فهو منكر على كل حال؛ للآيات والأحاديث العامة الدالة على ذلك.

فمن أهل العلم من قصر الديوث على من يقر الزنا في أهله.

ومنهم من جعله أعم من ذلك، فكل من لا يغار على أهله ويقر فيهم المنكرات كالتبرج والاختلاط فهو ديوث.

والدياثة من كبائر الذنوب، لما روى النسائي (2562) عن عبد الله بن عمر رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (ثَلَاثَةٌ لَا يَنْظُرُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: الْعَاقُّ لِوَالِدَيْهِ، وَالْمَرْأَةُ الْمُتَرَجِّلَةُ، وَالدَّيُّوثُ) وصححه الألباني في " صحيح النسائي ".

قال ابن حجر الهيتمي: " الكبيرة الثانية والثمانون والثالثة والثمانون بعد المائتين: الدياثة والقيادة بين الرجال والنساء" انتهى من "الزواجر عن اقتراف الكبائر" (2/ 346).

 

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "والديوث: الذي لا غيرة له". انتهى من "مجموع الفتاوى" ((32/ 141.

وقال ابن حجر الهيتمي رحمه الله: "قال العلماء: الديوث الذي لا غيرة له على أهل بيته". انتهى من "الزواجر عن اقتراف الكبائر" (2/347.)

وقال الملا على القاري رحمه الله: "(والديوث) بتشديد التحتية المضمومة (الذي يقر) بضم أوله أي يثبت بسكوته (على أهله) أي من امرأته أو جاريته أو قرابته (الخبث) أي الزنا، أو مقدماته. وفي معناه سائر المعاصي، كشرب الخمر وترك غسل الجنابة ونحوهما، قال الطيبي: أي الذي يرى فيهن ما يسوءه، ولا يغار عليهن ولا يمنعهن، فيقر في أهله الخبث". انتهى من "مرقاة المفاتيح" (6/ 2390).

 

وسئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "نحن نعلم بأن (الديوث هو: الذي يقر الفاحشة في أهله) -أعاذنا الله من ذلك- فهل تطلق كلمة ديوث على صاحب الدش، لأنه مقر بدخول الدش إلى بيته، ومعرفته أن أهله يشاهدون المحرمات؟

فأجاب: لا. ليس بديوث؛ لأن الفاحشة الزنا والعياذ بالله بأن يعلم بأن امرأته تزني فيقر الفاحشة" انتهى من " الفتاوى الثلاثية "( ص15).

وقال رحمه الله: "ما جاء ضمن السؤال: هل وجود الدش يعتبر من الدياثة؟ نقول: هذا ليس من الدياثة؛ لأن الديوث هو الذي يقر الفاحشة في أهله، وهذا الذي عنده الدش لو رأى رجلًا يحوم حول بيته، فضلًا عن أن يفعل الفاحشة في أهله لقاتله، فلا يمكن أن نقول: إن هذه دياثة، لكن نقول: إنه سببٌ للشر والفساد" انتهى من " لقاء الباب المفتوح " (48/ 2).

والذي يظهر والله أعلم أن الدياثة دركات، فأعلاها إقرار الزنا في أهله، ومنها إقرار غير الزنا مما يدخل في عدم الغيرة، كإقرار الاختلاط، ودخول الرجال على أهله.

وقد أجاب الشيخ مصطفى العدوي عندما سئل عن تكفير الديوث وتخليده في النار وهو مذهب أهل السنة لما ورد من أحاديث عن رسول الله فقال أن الديوث والزاني والقاتل والسارق والخمار كل هؤلاء داخلون في أهل الإسلام وفي عداد المسلمين، ومع اقترافهم الكبائر فأمرهم موكول إلى الله، إن شاء ربنا عذبهم وإن شاء غفر لهم.

والأدلة من القرآن قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ} [النساء:48].

وحديث الرسول عن عبادة بن الصامت الذي أخرجه البخاري ومسلم: (بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن لا نشرك بالله شيئًا ولا نقتل ولا نزني ولا نسرق ولا نأتي ببهتان بين أيدينا وأرجلنا) الحديث، وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فمن أصاب من ذلك شيئًا فعوقب به فهو كفارة له، ومن أصاب من ذلك شيئًا فستره الله فأمره إلى الله، إن شاء عذبه وإن شاء غفر له).

وقد تقرر عند أهل السنة أنه لا يلزم حتى يغفر لك أن تستغفر، فقد يغفر الله لك مع قولك: أستغفر الله، وقد يغفر الله لك أيضًا بدون قولك: أستغفر الله، ومن الأدلة على ذلك قصة المرأة الإسرائيلية التي كانت تبغي وتزني، فانطلقت ذات يوم خارجة لزناها، فوجدت كلبًا يلهث من العطش، فنزعت موقها فسقته فغفر الله لها، ولم يرد أنها قالت: أستغفر الله.

والديوث أو الزاني أو القاتل أو السارق أو الخمار كل هؤلاء وغيرهم من أصحاب الكبائر أمرهم موكول إلى الله، لكن أيضًا فإن النصوص من الكتاب والسنة على أنهم وإن دخلوا النار وإن لم يستغفروا، فمآلهم إلى الخروج من النار، لحديث: (أخرجوا من النار من قال: لا إله إلا الله وفي قلبه من الخير ما يزن ذرة)، وفي حديث: (أخرجوا من النار من قال: لا إله إلا الله فيخرج قوم لم يعملوا خيرًا قط).

فالشواهد تدل على أن أصول أهل السنة والجماعة ثابتة لا تترنح ولا تتزحزح، وهي أن صاحب الكبيرة قد يغفر له ابتداءً حتى بدون كلمة: أستغفر الله، إن قدر ودخل النار فمآله إلى الخروج منها، هذا هو منهج أهل السنة والجماعة في هذا الباب، والله سبحانه وتعالى أعلم.

قال ابن تيمية: نحن حقيقة قولنا أن التائب لا يعذب لا في الدنيا، ولا في الآخرة؛ لا شرعا، ولا قدرا. اهـ..

والتوبة النصوح - كما قال الإمام الشوكاني - هي التي: تنصَحُ صاحبها بتَرْك العَود إلى ما تاب عنه، وُصِفت بذلك على الإسناد المجازي، وهو في الأصل وصف للتائبين أن ينصحوا بالتوبة أنفسَهم، بالعزمِ على التَّرك للذنب، وترك المعاودة له، والتوبة فرض على الأعيان.

كما أن الاستغفار والمداومة عليه من موجبات التوبة ومغفرة الذنوب، قد أمَر الله بالتوبة النصوح، ووعد عليها بتكفير السيئات، ودخول الجنات، والفوز والفلاح، حين يسعى المُؤمِنون يوم القيامة بنُور إيمانهم، ويمشون بضيائه، ويتمتَّعون برَوحه وراحته، ويُشفقون إذا طُفئت الأنوار، التي لا تُعطَى المنافقين، ويسألون الله أن يُتْمِمَ لهم نورهم، فيستجيب الله دعوتهم، ويوصلهم ما معهم من النُّور واليقين إلى جنات النعيم، وجِوار الرب الكريم، وكل هذا من آثار التوبة النصوح، والمراد بها: التوبة العامة الشاملة للذنوب كلها، التي عقدها العبد لله، لا يريد بها إلا وجهه والقُرْب منه، ويستمر عليها في جميع أحواله.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply