بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فالجدال منه ما هو محمود ومنه ما هو مذموم، فالجدال المحمود: ما كان لبيان الحق وهداية الخلق بحسن خلق، قال الله تعالى: ﴿ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن﴾ [النحل:125]، وقال جل وعلا: ﴿ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن﴾ [العنكبوت:46].
والمراء: الجدال المذموم وهو ما كان لمجرد المغالبة والمجادلة وحب العلو والظهور، وهو من أسباب ضلال الناس، فعن أبي أمامة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "ما ضلّ قوم بعد هُدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل ثم تلا رسول الله ﷺ هذه الآية: ﴿ما ضربوه لك إلا جدلًا بل هم قوم خَصِمون﴾ [الزخرف:58]" [أخرجه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح] قال الإمام ابن الأثير الجزري رحمه الله: الجدل المراد به في الحديث الجدل على الباطل وطلب المغالبة المراء وإن كان قائله محقًا فتركه أفضل، فعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أنا زعيم بيت في ربض الجنة لمن ترك المراء وإن كان محقًا..." [أخرجه أبو داود رحمه الله، وحسنه العلامة الألباني رحمه الله].
قال فضيلة الشيخ صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ: النبي ﷺ تكفل لمن ترك المراء وإن كان محقًا، ببيت في الجنة، لأن لمراء أحيانًا، وأنت تماري يأتيك الحق، لكن تغلبك نفسك للانتصار لنفسك لا للحق، والإنسان بين هذه وهذه، يكون بين الانتصار للحق وبين الانتصار لنفسه، وكثيرًا ما تشتبه على أكثر الناس، يعني تنتصر لنفسك أو تنتصر للحق.
للسلف رحمهم الله أقوال في المراء والجدال، يسّر الله الكريم فجمعتُ بعضًا منها، أسأل الله أن ينفع بها الجميع.
• قال الإمام مالك بن أنس رحمه الله: ليس هذا الجدال من الدين في شيء.
• قال مسلم بن يسار رحمه الله: إياكم والمراء، فإنها ساعة جهل العالم، وفيها يلتمس الشيطان زلته.
• قال إسحاق بن عيسى: سمعت مالك بن أنس يعيب الجدال في الدين، ويقول: كلما جاءنا رجل هو أجدل من رجل، أردنا أن نترك ما جاء به جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم.
• قال الحسن البصري رحمه الله: إنما يخاصم الشاك في دينه.
• قال معروف الكرخي رحمه الله: إن الله عز وجل أذا أراد بعبده خيرًا فتح له باب عمل، وأغلق عنه باب الجدل، وإذا أراد بعبده شرًا فتح عليه باب الجدل، وأغلق عنه باب العمل.
• قال الإمام البربهاري رحمه الله: العجب كيف يجترئ الرجل على المراء والخصومة والجدال، والله تعالى يقول: ﴿ما يجادلُ في آيات الله إلا الذين كفروا﴾ [غافر:4] فعليكم بالتسليم والرضى بالآثار، وأهل الآثار، والكف والسكوت.
• قال الإمام ابن مفلح المقدسي رحمه الله: سأل الإمام أحمد رجل فقال: أكون في المجلس فتذكر فيه السنة لا يعرفها غيري أفأتكلم بها؟ فقال: أخبر بالسنة ولا تخاصم عليها، فأعاد عليه القول، فقال: ما أراك إلا رجلًا مخاصمًا.
وهذا المعنى قاله مالك، فإنه أمر بالأخبار بالسنة، وقال: فإن لم يقبل منك فاسكت.
• قال الإمام العبكري رحمه الله: إياك والمراء والجدال في الدين.
• قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: ومما أنكره أئمة السلف: الجدال والخصام والمراء في مسائل الحلال والحرام أيضًا، ولم يكن ذلك طريقة أئمة الإسلام، وإنما أُحدث ذلك بعدهم.
وقد فتن كثير من المتأخرين بهذا، فظنوا أن من كثُر كلامه وجداله وخصامه في مسائل الدين، فهو أعلم ممن ليس كذلك، وهذا جهل محض.
وقال رحمه الله: السؤال عن العلم إنما يحمد إذا كان للعمل، لا للمراء والجدال.
• قال العلامة السعدي رحمه الله: المُتعلم... ليحذر من طلب العلم للأغراض الفاسدة والمقاصد السيئة، من المباهاة والمماراة.
• قال العلامة بكر بن عبدالله أبو زيد رحمه الله: كُن سلفياُ على الجادة، طريق السلف الصالح من الصحابة رضي الله عنهم، فمن بعدهم ممن قفا أثرهم في جميع أبواب الدين، من التوحيد، والعبادات، ونحوها، بالتزام آثار رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتوظيف السنن على نفسك، وترك الجدال والمراء، والخوض في علم الكلام، وما يجلُبُ الآثام، ويصُدُّ عن الشرع.
وقال رحمه الله: إياك والممارة فإنها نقمة، أما المناظرات في الحق فإنها نعمة، إذ الناظرة الحقة فيها إظهار الحق على الباطل، والراجح على المرجوح فهي مبنية على المناصحة، والحلم، ونشر العلم، أما المماراة في المحاورات والمناظرات فإنها تحجج ورياء، ولغط وكبرياء، ومغالبة ومراء، واختيال وشحناء، ومجارة للسفهاء، فاحذرها واحذر فاعلها تسلم من المآثم وهتك المحارم.
عدم الدخول في الجدال والمراء:
• قال ابن أبي ليلى ما ماريتُ أخي لأن أرى إن ماريته إما أن أكذبه وإما أن أُغضبه.
• عن معن بن عيسى، قال: انصرف مالك بن أنس رحمهما الله، يومًا من المسجد، وهو متكئ على يدي، قال فلحقه رجل... كان يتهم بالإرجاء، فقال: يا أبا عبدالله، اسمع مني شيئًا أكلمك به، وأحاجك، وأخبرك برأيي، قال: فإن غلبتني؟ قال: فإن غلبتك اتبعني قال فإن رجل جاء آخر فكلما فغلبنا؟ قال نتبعه فقال مالك: يا عبدالله بعث الله محمدًا ﷺ بدين واحد وأراك تنتقل من دين إلى دين.
• جاء رجل إلى الحسن، رحمه الله فقال: يا أبا سعيد، تعال حتى أخاصمك في الدين، فقال الحسن: أما أنا فقد أبصرت ديني، فإن كنت أضللت دينك فالتمسه.
• الحسن البصري رحمه الله كان ينهي عن الخصومات في الدين.
الباعث على المراء والجدال:
• قال الإمام الغزالي رحمه الله: أما الباعث على هذا فهو الترفع بإظهار العلم والفضل، والتهجم على الغير بإظهار نقصه. وهما شهوتان باطنتان للنفس قويتان لها.
• قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: ما سكت من سكت -عن كثرة الخصام والجدال من سلف الأمة- جهلًا ولا عجزًا، ولكن سكتوا عن علم وخشية لله. وما تكلم من تكلم وتوسع من توسع بعدهم لاختصاصه بعلم دونهم. ولكن حبًا للكلام وقلة ورع.
الجدال والمراء المذموم:
• قال الإمام ابن الأثير الجزري رحمه الله: المراء: الجدالُ، والتماري والمماراةُ: المُجادلة على مذهب الشك والريبة.
• قال الإمام ابن بطة العبكري رحمه الله: المراء الذي يحذره المؤمنون، ويتوقاه العاقلون، المراء الذين بين أصحاب الأهواء وأهل المذاهب والبدع، وهم الذي يخضون في آيات الله، ويتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة، وابتغاء تأويله، الذي لا يعلمه إلا الله، والراسخون في العلم، يتأولونه بأهوائهم، ويفسرونه بأهوائهم، ويحملونه على تحمله عقولهم، فيضلون بذلك، ويضلون من اتبعهم عليهم.
• قال الإمام الغزالي رحمه الله: وحدّ المراء هو كل اعتراض على كلام الغير بإظهار خلل فيه، إما في اللفظ، وإما في المعنى، وإما في قصد المتكلم.
• قال الإمام ابن أبي العز الحنفي رحمه الله: ولا نماري في دين الله، معناه: لا نخاصم أهل الحق بإلقاء شبهات أهل الأهواء عليهم، التماسًا لامترائهم وميلهم، لأنه في معنى الدعاء إلى الباطل، وتلبيس الحق، وإفساد دين الإسلام.
• قال العلامة السعدي رحمه الله: المماراة المبنية على الجهل والرجم بالغيب، أو التي لا فائدة فيها، إما أن يكون الخصم معاندًا، أو تكون المسألة لا أهمية فيها، ولا تحصل فائدة دينية بمعرفتها.
• قال فضيلة الشيخ عبدالرحمن بن ناصر البراك: المراء: الجدال، وأكثر ما يطلق المراء على الجدال بالباطل، إما من جهة القصد، أو من جهة ما يجادل به ويحتج به، من الحجج الباطلة الداحضة فالاحتجاج بالحجج الباطلة كالاحتجاج والاستدلال بالشبه العقلية والروايات المكذوبة، أو الجدال على وجه التعصب، لا لقصد إظهار وبيان الحق والوصول إليه، كل هذا من الجدال بالباطل، ومن المراء في الدين، ومن ذلك الجدال أو المراء على وجه المعارضة لما جاءت به النصوص، فكل هذا من المراء في الدين.
• قال العلامة صالح الفوزان: في دين الله لا نماري، أي نجادل، ونقول: هذا نؤمن به وهذا نتوقف في الإيمان به فما دام ثبت في الكتاب والسنة فليس فيه مجال للخوض، بل نؤمن به ونسلم، وإن كانت عقولنا ما لا يدرك هذا الشيء، فعقولنا قاصرة.
• قال فضيلة الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ: المراء ضابطه هو: أن يورد الشيء لقصد الانتصار للنفس، أو إضعاف من أمامه، يعني المغالبة، والتشكيك، وإيراد الشبه.
• قال فضيلة الشيخ سعد بن ناصر الشثري: المراد بالمراء المجادلة فيما لا فائدة فيه، ولا يُوصلُ إلى تحقيق حكم شرعي، سواء كان في المعتقد أو في غيره. ومنه المناقشات التي تكون لإظهار صفات النفس ولإعلان الإنسان لنفسه على غيره. وقد ورد في النصوص النهي عن المراء،... والمؤمن مطالب بإبراز الحق وإظهاره، وأما المناقشة العقيمة فيه فليست من شأن المؤمن.
وقال: قد يغلب لفظ المراء على المجادلة بالباطل، أو على جهة التعصب.
من الآثار الخطيرة للمراء والجدال:
• قال جعفر بن محمد رحمه الله: إياكم والخصومة في الدين، فإنها تشغل القلب، وتورث النفاق.
• قال بلال بن سعد: إذا رأيت الرجل لجوجًا مماريًا يعجب برأيه فقد تمت خسارته
• قال مالك بن أنس رحمه الله: المراء يُذهب بنور العلم، ويقسي القلوب، يورث الضغائن.
• قال لقمان رحمه الله: يا بني، لا تجادل العلماء فيمقوتك.
•قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله من كثرت خصوماته لم يزل ينتقل من دين إلى دين.
• قال الإمام الأوزاعي رحمه الله: إذا أراد الله عز وجل بقوم شرًا فتح عليهم الجدال ومنعهم العمل.
• قال الإمام الشافعي رحمه الله: المراء في العلم يقسي القلوب ويورث الضغائن.
• قال محمد بن علي بن الحسين رحمه الله: الخصومةُ تمحقُ الدين، وتثبت الشحناء في صدور الرجال.
• قال الإمام البربهاري رحمه الله: اعلم رحمك الله أنه ما كانت زندقة قط ولا كفر ولا شك ولا بدعة ولا ضلالة ولا حيرة في الدين إلا من الكلام وأصحاب الكلام، والجدال والمراء والخصومة. وقال رحمه الله: الكلام والخصومة والجدال والمراءُ محدث يقدح الشكّ في القلب، وإن أصاب صاحبه الحق والسنة.
• قال الإمام العبكري رحمه الله: المراء والجدال في الدين.... يخرج صاحبه وإن كان سنيًا إلى البدعة، لأن أول ما يدخل على السنيّ من النقص في دينه إذا خاصم المبتدع مجالسته للمبتدع ومناظرته إياه، ثم لا يأمن أن يدخل عليه من دقيق الكلام، وخبيث القول ما يفتنه أو لا يفتنه، فيحتاج أن يتكلف له من رأيه مما يرد عليه قوله مما ليس له أصل في التأويل ولا بيان في التنزيل ولا أثر من أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم.
• قال الإمام الغزالي رحمه الله: الخصومة مبدأ كل شر، وكذا المراء والجدال.
وقال: معاصي اللسان... الغيبة والكذب والمراء والثناء على النفس تعريضًا وتصريحًا.
وقال: الأسباب المهيجة للغضب: الزهو، والعجب، والمزاح، والمماراة، والغدر.
• قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: المتكلمين... تجدهم أعظم الناس شكًا واضطرابًا وأضعف الناس علمًا ويقينًا... وإنما فضيلة أحدهم باقتداره على الاعتراض والقدح والجدل، ومن المعلوم أن الاعتراض والقدح ليس بعلم ولا فيه منفعة.
• قال العلامة ابن القيم رحمه الله: معاصي اللسان فاكهة الإنسان كالنميمة والمراء.
• قال الإمام الشوكاني رحمه الله: أسباب الخروج عن الإنصاف والوقوع في موبقات التعصب:... السبب الثالث: الجدال والمراء.
• قال العلامة السعدي رحمه الله: المماراة... فإن كثرة المناقشات فيها,... تضيعًا للزمان، وتأثيرًا في مودة القلب بغير فائدة.
• قال فضيلة الشيخ صالح بن عبد العزيز آل الشيخ: من صفة أهل السنة والجماعة ومن سماتهم أنهم لا يمارون في دين الله... لأن المراء يورث العداوة.
ترك المراء سبب لوجود حلاوة الأيمان:
• قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: ثلاث من كنّ فيه يجدن بهن حلاوة الإيمان: ترك المراء في الحق، والكذب في المزاحة، ويعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه، وأن ما أخطأه لم يكن ليصيبه.
من أسباب الفلاح ترك المراء:
• قال عمر بن عبد العزيز رحمه الله: قد أفلح من عصم من المراء، والغضب، والطمع.
من أسباب علاج المراء:
• قال الإمام الغزالي رحمه الله: أما علاجه: فهو بأن يكسر الكبر الباعث له على إظهار نفسه. وكل من اعتاد المجادلة مدة، وأثنى الناس عليه، ووجد لنفسه بسببه عزًا وقبولًا، قويت فيه هذه المهلكات، ولا يستطيع عنها نزوحًا إذا اجتمع عليه سلطان الغضب والكبر والرياء وحب الجاه والتعزز بالفضل، وآحاد هذه الصفات يشق مجاهدتها فكيف بمجموعها؟
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد