بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
اتصل عليّ رجلٌ وقال: إن قريبًا لي يرقد في المستشفى بسبب عارض صحي ألَمّ به، ولاحظت خلال مرافقتي له أنه لا يصلي، وأنا خائف عليه أن يموت وهو على هذه الحالة المهلكة، وعمره كبير تجاوز السبعين.
فهالني الأمر، وبادرت إلى الذهاب إليه -لأبذل الأسباب التي قد توقظه من سباته وتنبّهه من غفلته- فلما وصلت إليه سلّمت عليه ودعوت له وجلست عنده، فلم أرَ عنده ترابًا ليتيمّم للصلاة وهو عاجز عن القيام للوضوء، ولم أرَ عنده مصحفًا ليقرأ منه في بعض أوقاته، فأشفقت عليه وتأسفت لحاله، فزرته مرارًا، وكلّما دخلت عليه وجدته قد فتح التلفاز ينظر إلى مسلسلاتٍ فيها النساء السافرات المتبرجات والأغاني المصحوبة بالموسيقى والآت اللهو، أو الأخبار التي لا طائل من ورائها - وهو في هذا الوضع الصحي الأليم والعمر المتقدم -، فأجدها فرصة مناسبة لتذكيره بما ينفعه، فكنت أتلطّف معه وأطلب منه أن يغلق التلفاز، ثم أحدّثه عن عظم شأن الصلاة ووجوبها، وعن أهمية التعلق بالله واللجوء إليه ودعائه، رجاءَ أن يدَّكِرَ ويعود إلى ربه ويُقْبل على طاعته سبحانه وتعالى؛ فينطق بالشهادة بإخلاص ويقين، ويصلّي الصلوات المفروضة، ويرطب لسانه بذكر الله وتلاوة كتابه، لكن لم أرَ منه استجابة ولا تفاعلًا - ولاحول ولا قوة إلا بالله -.
والصلاة هيّنة ميسَّرة لمن امتلأ قلبه باليقين بلقاء الله تعالى {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ(45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} فالصلاة لا يطيقها إلا من يوقن بالموت ولقاء الله، فمن غفل عن الموت ولقاء الله كانت ثقيلة عليه ولا يكاد يُطيقها.
وقد لاحظت أنه كلما جرى الحديث عن الله تعالى وعن أمور الدين يحوّل الحديث مباشرة إلى الحديث بأمور الدنيا، وفي آخر زيارة عدته فيها أخبرني أنّ الأطباء قد قرّروا أن يخرج من المستشفى، وقال لي: سأخرج وأذهب إلى بيتي وأرتاح هناك من عناء المكث في المستشفى، وسأُحضر خادمة وسائقًا -وكان ممن أغناه الله-، وسأفعل كذا وكذا...
وبعد ثلاثة أيام من زيارتي له وصلتني هذه الرسالة:
"سيُصلّى على فلان بن فلان"!!.
فجعلت أقرأ اسمه مرارًا، واتصلت على أقاربه: أهو هو؟ قالوا: نعم، قلت: كيف مات؟
قالوا: خرج إلى بيْته، فما إنْ دخله حتى دخل عليه ملك الموت وقبض روحه، وأخذه إلى منزله الآخر دار الجزاء والحساب.
أُصبتُ – والله - بذهول وصدمة، وجلست أتذكر الذين ماتوا فجأة في بلدي، وإذا هم كُثُر، منهم من مات على فراشه، ومنهم من مات بين أصحابه، ومنهم من مات عند أهله، وكثير منهم في سن الشباب.
إنّ صورة وجهه لا تكاد تفارقني، أحقًّا لن أراه بعد اليوم في هذه الحياة؟
إنّ هذه الحياة الفانية الحقيرة لا أمان فيها لأحدٍ إلا ما شاء الله.
لقد مات هذا الإنسان فجأة بلا مقدِّمات.
مات وغادر الدنيا ولم يكن يتوقع ذلك بهذه السرعة وبهذه المفاجأة، لقد حال الموت بينه وبين أمانيه وطموحاته!
يا لهول الموت ما أفظعه، ويا لهول لحظات خروج الروح من الجسد ما أشدها {وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَٰلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيد}.
ويالهول انتقالها إلى عالَم البرزخ المختلف اختلافًا كليًا عن عالمنا الدنيوي، ولن يكون الحديث هناك مع أمثالنا من البشر، بل مع جنس آخر لم نلتق بهم من قبل، إنهم الملائكة الذين وكَّلهم الله بذلك، فما هي أشكالهم وأحجامهم وأعدادهم؟؟
ويا لهول القبر وضمته، ومن سيكون جليسك فيه؟
ما هو النعيم الذي أُعدّ لأهل الصلاح والتقوى؟
وما هو العذاب الذي ينْتَظر تاركي الصلاة والغافلين اللاهين عن ربهم؟
فمتى نستعد للموت وما بعده؟ ومتى نُدرك أنّ الموت قد يأتينا بغتة؟
إنّا لنفرح بالأيّام نقطعها *** وكلّ يوم مضى من عدّة الأجل
فاعمل لنفسك قبل الموت مجتهدا *** فإنما الربح والخسران في العمل
إنَّ ما حدَث لهذا الإنسان فيه عِبَرٌ كثيرة للأحياء، منها:
أولا: أنّ مكثه مدة في المستشفى من إصابةٍ خطيرة وقعت عليه، فسِلم منها ولم تكن سببًا في موته، ولكنها كانت نذارة من الله تعالى لطفًا بعبده لعلّه يعود ويتوب، {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ(53)أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ}، فلما خرج إلى داره – دار الأمان بالنسبة له – مات فيها، فالموت لا يعرف مكانًا ولا زمانًا {فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ}.
ثانيًا: أنّ من شبّ على شيء عاش ومات عليه، فمن شبّ على الإيمان واليقين بلقاء الله تعالى وإقامة الصلاة عاش ومات على ذلك، ومن شبّ على الإعراض عن الله تعالى وحبّ الدنيا والانشغال بها وهجران الصلاة والقرآن عاش ومات على ذلك ولاحول ولا قوة إلا بالله.
ثالثًا: أنّ من أعرض عن الله وغفلَ عنه ختَم على قلبه فلم يقبل هدى الله، حتى يصل إلى حالةٍ لا يستطيع فيها سماع الحق ورؤيته، قالَ تَعَالَى {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السّمع وَمَا كَانُوا يبصرون} قال ابن القيم رحمه الله: "نفى عَنهُم استطاعة السّمع مَعَ صِحَة حواسهم وسلامتها، وَإِنَّمَا لفرْط بغضهم ونُفرتهم عَنهُ وَعَن كَلَامه صَارُوا بِمَنْزِلَة من لَا يَسْتَطِيع أن يسمعهُ وَلَا يرَاهُ".
رابعًا: أنّ الحياة قصيرة تافهة، فهذا الرجل قد ملأها بالترحال والسفر والمتع الزائفة، وجابَ أصقاع الأرض، ثم رجع إلى حفرةٍ وحيدًا، ولم يأخذ منها شيئًا، {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ} وقال تعالى: {أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ حَتَّىٰ زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ}، فما أشقى من جعل الدنيا همّه، واتخذ إلهه هواه، وغفل عن خالقه ومولاه.
خامسًا: أهمية المبادرة إلى نفع الناس وتبليغهم دين الله دون تأخر، فقد شعرت بالسعادة حينما بلَّغْته الدين ونصحته ووعظته قبل أن يموت، ولو أني تأخرت حتى مات لأنَّبَني ضميري، وكنت مقصرًا ومفرطًا، وقد يلازمني هذا الشعور طول حياتي.
اللهم أحسن ختامنا، وارحمنا عند انقضاء آجالنا، وأعنّا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، إنك ربنا برّ رحيم رؤوف كريم غفور.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد