أهوال الصراط وأسباب النجاة


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

 

مُقتَرَحُ خُطبَة الجُمُعَةِ الثَّانِيَة مِن شَهرِ المحرم، وَدُرُوسُ هذا الأُسبُوعِ، وَدُرُوسُ النِّسَاءِ:

1- حَقِيقَةُ، وَوَصفُ الصِّرَاطِ.

2- أَقْسَامُ النَّاسِ فِي المُرُورِ عَلَى الصِّرَاطِ.

3- أَسبَابُ النَّجَاةِ عَلَى الصِّرَاطِ.

الهَدَفُ مِنَ الخُطبَةِ: التذكير بهذا المشهد العظيم، وترقيق القلوب وتحفيزها على الاستقامة على الدين.

مُقَدِّمَةٌ ومَدَخَلٌ للمُوْضُوعِ:

أيُّهَا المُسلِمُونَ عِبَادَ اللهِ، فإن يوم القيامة يومٌ عظيم، يومٌ كان شره مستطيرًا، وكان يومًا عبوسًا قمطريرًا، وطول ذلك اليوم خمسون ألف سنة، وقد ذكَّرنا الله تعالى به كثيرًا في كتابه لنحذر شره ولنستعد له؛ ولا شك أن التفكر في أهوال الآخرة هو الضامن لإصلاح النفوس، وتغيير الحال إلى الأفضل.

وحديثنا اليوم بإذن الله تعالى: عن مشهد عظيم من مشاهد يوم القيامة، وموقف خطير جليل خافه الأنبياء وهم أصفياء الله؛ فكيف بمن دونهم من الناس؟! حديثنا اليوم: عن الصراط والجسر المنصوب على ظهر جهنم؛ الصراط، وما أدراك ما الصراط.!

والصِّرَاطُ: هو جسرٌ مَنْصُوبٌ عَلَى مَتْنِ جَهَنَّمَ، وَهُوَ الجِسْرُ الَّذِي بَيْنَ الجَنَّةِ والنَّارِ، يَمُرُّ النَّاسُ عَلَيْهِ على قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ:

قال الله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا} قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: إن المراد في الآية هو المرور على الصراط، ومِن استعمال الورود في غير الدخول قوله تعالى: {وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ} وقال النووي رحمه الله: "والصحيح أن المراد بالورود في الآية المرور على الصراط."

وهو من أمور الغيب التي نؤمن بها، وقد وردت بعض الأحاديث الضعيفة، وبعض الآثار الموقوفة في بيان دقة هذا الصراط.

فمن ذلك ما روي عن أبي سعيدٍ الخدري رضي اللهُ عنه، أنه قال: ((بَلَغَني أنَّ الْجِسْرَ أَدَقُّ مِنَ الشَّعْرَةِ، وأَحَدُّ مِنَ السَّيْفِ))[رواه مسلم].

وعن سلمان رضي الله عنه موقوفًا قال: ((ويوضع الصراط مثل حد الموسى، فتقول الملائكة: من تجيز على هذا، فيقول: من شئت من خلقي، فيقولون: سبحانك ما عبدناك حق عبادتك))[رواه الحاكم:، وصححه الألباني السلسلة الصحيحة].

وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: ((يوضع الصراط على سواء جهنم، مثل حد السيف المُرهف مدحضة مزلة عليه كلاليب من نار يخطف بها))[رواه الطبراني، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب].

وقد وصف النبي صلى الله عليه وسلم هذا الصراط، وأحوال الناس عليه بأدق التفاصيل.

ففي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ثمَّ يُؤْتَى بالْجَسْرِ فيُجْعَلُ بينَ ظَهْرَيْ جهَنَّمَ، قُلْنَا: يا رسولَ اللهِ وما الجَسْرُ؟ قالَ: مَدْحَضَةٌ مَزِلَّةٌ، [وهو الموضع الذي تنزل فيه الأقدام، ولا تستقر، قال ابنُ الأثير: أرَادَ أنه تزلَقُ عليهِ الأقدامُ ولا تَثْبُتُ]، عليهِ خَطَاطِيفُ وكَلاليبُ وحَسَكَةٌ مُفَلْطَحَةٌ لَها شَوْكَةٌ عُقَيْفَاءُ، تكونُ بنجْدٍ، يُقالُ لَها: السَّعْدَانُ، يمرُّ المؤمنُ عليها كالطَّرْفِ وكالْبَرْقِ وكالرِّيحِ وكَأَجاوِيدِ الخَيْلِ والرِّكَابِ، فَنَاجٍ مُسَلَّمٌ، وناجٍ مَخْدُوشٌ، ومَكْدُوسٌ في نارِ جَهَنَّمَ، حتَّى يَمُرَّ آخِرُهُمْ يُسْحَبُ سَحْبًا)).

وفي رواية: ((وَفِي حَافَّتَيْ الصِّرَاطِ خَطَاطِيفُ ‌وَكَلَالِيبُ [جمع كلوب وهو الحديدة معطوفة الرأس، والتي يعلق فيها اللحم إذا انغرزت فيه تُرسل في التنور] وَفيها حَسَكَةٌ مُفَلْطَحَةٌ [وهي الشوكة الصُلبة العريضة] لَهَا شَوْكَةٌ عُقَيْفَاءُ [أي منعطفة معوجة] مِثْلُ شَوْكٍ تَكُونُ بِنَجْدٍ يُقَالُ لَهَا: السَّعْدَانُ، قال: هَلْ رَأَيْتُمْ شَوْكَ السَّعْدَانِ؟ قَالُوا: نَعَمْ، قَالَ: فَإِنَّهَا مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ قَدْرَ عِظَمِهَا إِلَّا اللهُ، مُعَلَّقَةٌ، مَأمُورَةٌ بِأَخْذِ مَنْ أُمِرَتْ بِهِ، فَتَخْطَفُ النَّاسَ بِأَعْمَالِهِمْ)).

وقال صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: ((يُحْمَلُ النَّاسُ عَلَى الصِّرَاطِ يَوْمَ القيامةِ، فَتَقَادَعُ بهِمْ جَنَبَتَا الصِّرَاطِ تَقَادُعَ الفَرَاشِ في النَّارِ؛ [قال ابنُ الأثير: أيْ تُسْقِطهم فيها بعْضَهُمْ فوْقَ بَعْضٍ]، فَيُنْجي اللهُ برَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ، ثمَّ يُؤْذَنُ للملائكَةِ والنَّبيِّينَ والشُّهَدَاءِ أنْ يَشْفَعُوا))[رواهُ أحمد، وقال الهيثميُّ: رِجالُهُ رِجالُ الصَّحيحِ].

تأملوا عباد الله، هذه الأوصاف المرعبة لهذا الصراط؛ فهو حقًّا جسر الأهوال:

((مَدْحَضَةٌ مَزِلَّةٌ((

((تتقادعُ بهِم((

((عليهِ خَطَاطِيفُ وكلاليبُ وحَسَكَةٌ مُفَلْطَحَةٌ لَهَا شَوْكَةٌ عُقَيْفَاءُ))

وفي روايةٍ: ((وفي جَهَنَّمَ كلاليبُ مِثْلُ شَوْكِ السَّعْدَانِ، غيرَ أنهُ لا يَعْلَمُ قَدْرَ عِظَمِهَا إلاَّ اللهُ، تَخْطَفُ الناسَ بأعمالِهِمْ)) وفي رواية: ((وفي حَافَتَيِ الصِّرَاطِ كلاليبُ مُعَلَّقَةٌ مَأْمُورَةٌ بأَخْذِ مَنِ أُمِرَتْ بهِ)) وهذه الجسر أو الصراط مُظْلِمٌ شَدِيْدُ الظُّلْمَة.

ويدل على ذلك أنّه لما سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أَيْنَ يَكُونُ النَّاسُ يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأرض والسماوات؟ فقال صلى الله عليه وسلم: ((هُمْ فِي الظُّلْمَةِ دُونَ ‌الْجِسْرِ))[رواه مسلم] فدلَّ ذلك على أن العبور على الصراط يكون في ظلام إلا من أعطاه الله تعالى نورًا يمشي به.

وفي الحديث الصحيح: ((فيُعْطَوْنَ نُورَهم على قَدْرِ أعمالِهم، وقال: فمنهم مَن يُعْطَى نُورَه مِثْلَ الجبلِ بينَ يَدَيْهِ، ومنهم مَن يُعْطَى نُورَه فوقَ ذلك، ومنهم مَن يُعْطَى نُورَه مِثْلَ النخلةِ بيمينِهِ، ومنهم مَن يُعْطَى دون ذلك بيمينِه، حتى يكونَ آخر مَن يُعْطَى نُورَه على إبهامِ قَدِمِه، يُضِيءُ مَرَّةً ويُطْفِئُ مَرَّةً، وإذا أضاء قَدَّمَ قَدَمَه، وإذا طَفِئَ قام، قال فيَمُرُّ ويَمُرُّونَ على الصراطِ، والصراطُ كحَدِّ السَّيْفِ، دَحْضٌ، مَزَلَّةٌ، فيُقالُ لهم: امْضُوا على قَدْرِ نورِكم)).

((وَيُطْفَئُ نُوْرُ الْمُنَافِقينَ كَمَا طُفِئَ فِي الدُّنْيَا مِنْ قُلُوْبِهِمْ، فَيَقُولُونَ لِلْمُؤْمِنِيْن: قِفُوا وَانْتَظِرُونا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ، فَإِذَا انْطَفَأَ نُوْرُهُمْ؛ تَسَاقَطُوا في النَّار)).

وإذا رَأَى المُؤْمِنُونَ مَا لَقِيَ الْمُنَافِقُونَ دَعَوْا رَبَّهُمْ خَائِفِيْن: {رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَاغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ.{

من أشد وأخطر مواقف ومشاهد يوم القيامة؛ حَتَّى أنه لا يتكلم إلا الرسل، وكلامهم دعاء الله تعالى بالسلامة والنجاة.

قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((‌فَيُضْرَبُ ‌الصِّرَاطُ ‌بَيْنَ ‌ظَهْرَانَيْ ‌جَهَنَّمَ، [أي: على وسطها] فَأَكُونُ أَوَّلَ مَنْ يَجُوزُ مِنَ الرُّسُلِ بِأُمَّتِهِ، وَلَا يَتَكَلَّمُ يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ إِلَّا الرُّسُلُ، وَكَلَامُ الرُّسُلِ يَوْمَئِذٍ: اللَّهُمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ)).

قال معاذ بن جبل رضي الله عنه: "إن المؤمن لا يسكن رَوْعُه حتى يترك جسر جهنم وراءه".

والفقراء من هذه الأمة هم أول النَّاسِ مَن يجوز الصراط يوم القيامة:

ففي صحيح مسلم عن ثَوبانَ رَضِيَ الله عنه: أن يهوديًّا سأل النبي صلى الله عليه وسلم، فَمَنْ أَوَّلُ النَّاسِ إِجَازَةً؟ قَالَ: ((فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ)).

الوقفة الثانية: أَقْسَامُ النَّاسِ فِي المُرُورِ عَلَى الصِّرَاطِ.

أيها المسلمون عباد الله، ومرور الناس على الصراط يختلف بحسب اختلاف استقامتهم على الصراط المستقيم في الدنيا؛ وقد قسَّم النبي صلى الله عليه وسلم الناس على الصراط إلى ثلاثة أقسام:

قال صلى الله عليه وسلم: ((فَنَاجٍ مُسَلَّمٌ، وَنَاجٍ مَخْدُوشٌ، وَمَكْدُوسٌ فِي نَارِ جَهَنَّمَ؛ حَتَّى يَمُرَّ آخِرُهُمْ يُسْحَبُ سَحْبًا)).

1- نَاجٍ مُسَلَّمٌ؛ أي بلا خدش، وهم على درجات تتفاوت.

2- مَكْدُوسٌ فِي نَارِ جَهَنَّمَ؛ أي هالك من أول وهلة.

3- نَاجٍ مَخْدُوشٌ؛ أي متوسط بينهما يصاب ثم ينجو.

وكل قسم منها ينقسم أقسامًا تعرف بقوله: ((بقدر أعمالهم))

فأما القسم الأول: ناجٍ مُسلَّم؛ أي بلا خدش، فلا يصيبه شيء، وهم على درجات:

)) فَمِنْهُمْ مَنْ يَمُرُّ كَلَمْحِ البَصَرِ، وَمِنْهُم كَالبَرْقِ، وَمِنْهُمْ كَالرِّيحِ، وَمِنْهُمْ كَالفَرَسِ الجَوَادِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَعْدُو عَدْوًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي مَشْيًا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَزْحَفُ زَحْفًا)).

)) فيَمُرُّ أَوَّلُكُمْ كالْبَرْقِ، قالَ: قُلْتُ: بأبي أنتَ وأُمِّي، أيُّ شيءٍ كَمَرِّ البَرْقِ؟ قالَ: أَلَمْ تَرَوْا إلى البَرْقِ كيفَ يَمُرُّ ويَرْجِعُ في طَرْفَةِ عينٍ؟ ثمَّ كَمَرِّ الرِّيحِ، ثمَّ كَمَرِّ الطَّيْرِ، وشَدِّ الرِّجالِ، تَجْرِي بهِمْ أعمالُهُمْ، ونبيُّكُمْ قائمٌ علَى الصِّراطِ يقولُ: رَبِّ سَلِّمْ سَلِّمْ، حتَّى تَعْجِزَ أعمالُ العِبادِ، حتى يَجِيءَ الرَّجُلُ فلا يَستطيعُ السَّيْرَ إلاَّ زَحْفًا)).

القسم الثاني: مَكْدُوسٌ فِي نَارِ جَهَنَّمَ؛ والمكدوس هو الملقى فيها بقوة.

((وَمِنْهُمْ مَنْ يُخْطَفُ خَطْفًا وَيُلْقَى فِي جَهَنَّمَ)) لأن الكلاليب والخطاطيف والحسك، مأمورة بأخذ من أُمِرَت بأخذه.

القسم الثالث: نَاجٍ مَخْدُوشٌ؛ أي ناج من النار، لكنه مخدوش تنال منه الكلاليب والخطاطيف تناله وتنهش حتى يصل في النهاية إلى القنطرة، ثم يدخل الجنة.

وجاء في وصف آخر رجلٍ يجتازُ الصراط، قال: ((ثم يكونُ آخرهم رجلًا يتلبطُ على بطنه فيقول: يا ربِّ لماذا أبطأتَ بي، فيقول: لم أبطئ بك، إنما أبطأ بك عملك)).

وفي الحديث الصحيح: ((حتى يَمُرَّ الذي نورُه على إبهامِ قَدَمِه، تَخِرُّ يَدٌ، وتَعْلَقُ يَدٌ، وتَخِرُّ رِجْلٌ، وتَعْلَقُ رِجْلٌ، وتُصِيبُ جوانبَهُ النارُ فيَخْلُصُونَ، فإذا خَلَصُوا قالوا: الحمدُ للهِ الذي نَجَّانا منكِ بعدَ أن أَرَانَاكِ، لقد أعطانا اللهُ ما لم يُعْطَ أَحَدٌ)).

فهذا يُخلص يد فتعلق الأخرى، ويُخلص رجل ليتقدم فتعلق الأخرى، حتى يمر، كم يأخذ من الوقت؟ الله أعلم؛ لأن هذا عرض جهنم سيمر عليه من الطرف إلى الطرف، يُضرب على سواء جهنم ليس من وسط جهنم؛ بل من الطرف إلى الطرف، كل المسافة لابد أن يقطعها.

موقف رهيب وعظيم لابد أن نُعِد له العدة وذلك بالأعمال الصالحة.

كان عبد الله بن رواحة رضي الله عنه، واضعًا رأسه في حُجر امرأته فبكى، فبكت امرأته، فقال لها: ما يُبكيك؟ قالت: رأيتك تبكي فبكيت، قال: إني ذكرت قول الله تعالى: {وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا}، ولا أدري أأنجوا منها أم لا.؟

قال القرطبي رحمه الله: (تفكر الآن فيما يَحِلُّ من الفزع بالفؤاد، إذا رأيت الصراط ودقته، ثم وقع بصرُكَ على سوادِ جهنمَ من تحتِهِ، ثم قرع سمعَكَ شهيقُ النارِ وتغيظُها، وقد كُلِّفْتَ أن تمشي على الصراط مع ضعفِ حالك، واضطرابِ قلبك وتزلزُلِ قدمك، وثِقَلِ ظهرك بالأوزار، المانعةُ لك من المشي على بساطِ الأرضِ فضلًا عن حِدَّةِ الصراط؛ فكيف بك إذا وضَعتَ عليه إحدى رجليك، فأحسست بحدتِهِ، واضطرَرتَ إلى أن ترفع قدمَكَ الثاني، والخلائقُ بين يديك يَزِلُّونَ ويعثرون، وتتناولهم زبانيةُ النارِ بالخطاطيف والكلاليب، وأنت تنظُرُ إليهم كيف يُنكَّسُون، فتسفُلُ إلى جهة النار رؤوسُهُم، وتعلو أرجُلُهُم، فياله من منظرٍ ما أفضَعَهُ ومُرتقًا ما أصعَبُه، ومجَازٍ ما أضيقُهُ)[التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة].

 

الخطبة الثانية: أَسبَابُ النَّجَاةِ عَلَى الصِّرَاطِ:

أيها المسلمون عباد الله، فما هي أسباب النجاة، وما هي الأعمال التي نجوز بها بإذن الله تعالى هذا الصراط؟

1- السعي في حاجة المسلم.

عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((وَمَنْ مَشَى مَعَ أَخِيهِ فِي حَاجَةٍ حَتَّى أَثْبَتَهَا لَهُ، أَثْبَتَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَدَمَهُ عَلَى الصِّرَاطِ يَوْمَ تَزِلُّ فِيهِ الْأَقْدَامُ.)) وفي رواية: ((ومَنْ مَشَى مع أَخِيهِ في حاجَةٍ حتى تتَهَيَّأَ لهُ، أَثْبَتَ اللهُ قَدَمَهُ يومَ تَزُولُ الأَقْدَامِ))[رواه الطبراني، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب].

2- ومنها: نصرة المظلوم.

قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((وَمَنْ مَشَى مَعَ مَظْلُومٍ حَتَّى يُثبِتَ لَهُ حَقَّهُ؛ ثَبَّتَ اللهُ قَدَمَيْهِ عَلَى الصِّرَاطِ يَوْمَ تَزُولُ الْأَقْدَامُ))[رواه ابن أبي الدنيا، وحسنه الألباني في صحيح الترغيب] .

3- ومنها: مُلازمةُ المساجد.

عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((المسجدُ بيتُ كلِّ تقيٍّ، وتكفَّلَ اللهُ لمَن كان المسجدُ بيتَهُ بالرُّوحِ والرَّحمةِ، والجَوازِ على الصِّراطِ إلى رِضوانِ اللهِ، إلى الجنَّةِ))[صحيح الترغيب والترهيب].

4- الحذر من الخيانة، وقطيعة الرحم.

ففي صحيح مسلم عن أبي هريرة وحذيفة رضي الله عنهما، أن النبي صلى اللهُ عليهِ وسلَّم قال: ((وتُرْسَلُ الأمانةُ والرَّحِمُ، فتَقُومَانِ جَنَبَتَيِ الصِّراطِ يَمِينًا وشِمَالًا)) وفي رواية: ((وَتُرْسَلُ ‌الْأَمَانَةُ وَالرَّحِمُ، فَتَقُومَانِ جَنَبَتَيِ الصِّرَاطِ، يَمِينًا وَشِمَالًا، فَلَا يَجُوْزُ الصراطَ خَائِنٌ، وَلَا قَاطِعُ رَحِم)).

قال ابنُ حجر رحمه الله: (والْمَعْنَى: أنَّ الأمانةَ والرَّحِمَ لِعِظَمِ شَأْنِهِما، وفَخَامَةِ ما يَلْزَمُ العبادُ مِنْ رِعايةِ حَقِّهِمَا يُوقَفَانِ هُناكَ للأمينِ والخائنِ والْمُوَاصِلِ والقاطِعِ، فيُحَاجَّانِ عن الْمُحِقِّ ويَشْهَدانِ على الْمُبْطِلِ).

5- وخلاصة الأمر: هو الثبات على الاستقامة على الدين حتى الممات.

فإنّ مَنْ ثَبَتَ عَلَى صِرَاطِ اللَّهِ الْمُسْتَقِيمِ في الدنيا؛ ثَبَّتَ اللهُ قَدَمَهُ عَلَى الصِّرَاطِ الْمَنْصُوبِ عَلَى جَهَنَّمَ؛ لأن الجزاء من جنس العمل، (فعلى قدر لزوم العبد لهذا الصراط في الدنيا وسيرِه عليه سرعةً وبطئا، وثباتًا واستقامة؛ تكون حالُه يوم القيامة على الصراط).

فأسرع الناس سيرًا عليه هنا أسرعهم سيرًا عليه يوم القيامة، وأبطؤهم هنا أبطؤهم هناك.

فمن نكَب عن الصراط في الدنيا، وخَطِفَتْهُ كَلالِيْبُ الشَّهَوَاتِ وَالشُّبُهَاتِ عَنِ الصِّرَاطِ المُسْتَقِيم؛ فقد تخَطِفُه الكَلَالِيبُ على ذَاكَ الصِّرَاطِ، وَتعَيقُه عَنِ الْمُرُورِ عَلَيْهِ: {جَزَاءً وِفَاقًا}، {هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}.

قال سهلُ التُّستَري رحمه الله: (مَن دقَّ الصراط عليه في الدنيا عَرُضَ عليه في الآخرة، ومَن عَرُضَ عليه الصراط في الدنيا دقَّ له في الآخرة).

قال ابن رجب رحمه الله معلِّقًا على قول سهل التُّستَري: (ومعنى هذا: أن مَن ضيَّق على نفسه في الدنيا باتِّباع الأمر واجتناب النهي، وهو حقيقة الاستقامة على الصراط المستقيم في الدنيا؛ كان جزاؤه أن يتَّسع له الصراطُ في الآخرة، ومَن وسَّعَ على نفسه في الدنيا باتباع الشهوات المحرمة والشبهات المضِلَّة، حتى خرج عن الصراط المستقيم؛ ضاق عليه الصِّراط في الآخرة، بحسب ذلك، والله أعلم) .

وقال ابن القيم رحمه الله: (من هُدي في هذه الدار إلى صراط الله المستقيم، الذي أرسل به رسله، وأنزل به كتبه؛ هُدي هناك إلى الصراط المستقيم، الموصل إلى جنته ودار ثوابه، وعلى ثبوت قدم العبد على هذا الصراط، يكون ثبوت قدمه إلى الصراط المنصوب على متن جهنم، وعلى قدر سيره على هذه الصراط يكون سيره على ذاك الصراط).

نسأل الله العظيم أن يرزقنا الاستقامة على الدين، وأن يجعلنا من عباده الفائزين الناجين.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين  

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply