بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
طلب الملك عبدالعزيز من الشيخ محمد بن إبراهيم رحمهما الله أن ينتخبَ له من حلقته اثنينِ ليبعثَ أحدَهما قاضيًا لبلدة للمجمعة والآخر قاضيًا للدلم، وكان الشيخ ابن إبراهيم دقيق الرأي خبيرًا بتلاميذه واسعَ النظر فيهم، يعرف مراتبَهم كما يعرف الحائكُ الثيابَ والصائغُ الجواهرَ، فانتخَبَ له من طلبَتِه شابَّينِ لامِعَين لم يبلُغا سنَّ الثلاثين، وقال عن الأول: هذا بعيد غاية! -يريد فطنتَه وذكاءَه- وقال عن الثاني: هذا أوسع عِلمًا وأكثر عطفًا عن الفقراء والمساكين. فكانت عبارته مطابقةً لحال الرجلين مع الناس، يشهد على صحَّتها ويبصِم على دقَّتها كلُّ من عرفهما عن كَثَب، فأما الأول فابن حميدٍ وعمره آنذاك 28 سنة، وأما الثاني فابن بازٍ وعمره آنذاك 27 سنة!
وكثير من الأشياخ عبر التاريخ العلمي أطلقوا تقويمات معرفيَّة متعددة لطلابهم الذين ثَنَوا ركبهم بين أيديهم، وذلك بحسب المناسبات المختلفة الباعثة للتقويم، فهذا أبو المعالي الجويني يقول عن تلاميذه إذا تناظروا أمامه: التحقيق للخوافي، والجرَيان للغزالي، والبيان للكيّا الهراسي.
وهذه المعرفة الدقيقة بالتلاميذ ومواهبهم ما هي إلا إرثُ حسن الاتصال بهم وطول معايشتهم، وكثير من طلاب المعارف اليوم لم يحظوا بأمثال هذا الاتصال الروحي مع معلِّمين بارعين يفرغون لهم فسيح أوقاتهم ويفتحون لهم أبواب قلوبهم قبل أن يسكبوا المعارفَ في أسماعهم.
وربما كان لبعض هؤلاء الأقران من التلاميذ فضلُ موهبةٍ أو تأخرُ وفاةٍ أو مواصلةُ إنتاجٍ أو احتفافُ أسبابٍ شتى، فأخمل ذكر مجايليه بعد ذيوع، وأطفأ ضوءَهم بعد انتشار، وهذا يصدق بشكلٍ أو بآخر على حياة هذين الجبلين الضريرين الذين ثَنَيا ركبتيهما في حلقة مفتي الديار السعودية الشيخ محمد بن إبراهيم، وهما ألمع من أنجبت أرض الجزيرة العربية في العلم والعمل والبذل والنصح للأمة، ولأنَّ سيرةَ الجبلِ الأشَمَّ ابن باز لا تكاد تخفى اليوم على أحد، فنحن نتناول طرفًا يسيرًا من سيرة قرينِهِ الموهوب عبدالله ابن حميد رحمهما الله.
وقد أغفلت في هذه الإلماعة ذكر عمل الشيخ في القضاء ونباهَتَه المدهشة في ذلك الشأن، حتى غدت مضرب الأمثال، وذلك لاشتهار هذا الجانب من جوانب شخصية الشيخ، بل قال عنه بعض الباحثين بأنه (خُلِقَ قاضيًا)، فأحببت أن أضع قليلا من الضوء على جوانب أخرى.
الظروف القاسية:
مرّ الشيخ عبدالله ابن حميد في طورِ النشأة بظروفٍ قاسية قيل عنها بأنها: (تُشِيب الولدان، وتزلزل الأركان من عقل الإنسان)، فمن تلك الظروف أن والدَه غادر الدنيا وهو في السنة الثانية من عمره، وبعدها بسنةٍ واحدة يصاب الطفل الصغير بمرض الجدري فيذهب نور عينيه، فصار - وعمره ثلاث سنين - طفلا أعمى يتيمَ الأب، ثم في السنة السادسة توفيت أمه، فاكتمل عقد الأحداث المقلقَة المحيطة بهذا الطفل، فما هذه المصائب المتتابعة في نظر الناس إلا مقدِّمات طبيعية لحياة بائسة، وكأنه مشهدٌ في خيالِ روائي وليس حقيقة واقعية، فَلَكَ أن تتخيل صورةَ طفلٍ ضريرٍ يدرج في حدود السنة السادسة من عمره ملقًى في بيداءِ الحياة لا أمّ ترعاه بحنانها ولا أبَ يحوطه بعنايته.
ولكن شاء الله أن يُخرج من هذه الظروف القاسية شيخًا وقورًا يسعى في مصالح أمةٍ من الناس
قوة الله إن تولَّتْ ضعيفًا *** تَعِبتْ في مِراسِهِ الأقوياءُ
وإذا استنطقنا تراجم الأكابر فليست هذه النتيجة بمستغربةٍ، فكثيرٌ من العظماء عبر التاريخ خرجوا من رَحِم ظروفٍ شديدةِ الحُلْكة، وكأنَّما في الأهوال الشديدة مصانع خفيَّة للرِّجال، وما أجمل ما قاله الدكتور السنهوري ملاحِظًا هذا الجانب المتكرِّر: (إنَّ شيئًا يشترك فيه أكثر العظماء: حياة الشظف والفاقة التي عاشوها أول حياتهم، فنفخت في أخلاقهم روح الصلابة، فأذاقوا الحياة بأسهم بعد أن أذاقتهم بأساءها)، فإذا كانت الظروف القاسية تقضي على الضعفاء، وتحول بينهم وبين بلوغ الآمال، إلا أنه من الملاحظ أنها تزيد صلابةَ الأقوياء بإذن الله، وتصنع منهم رجالًا أفذاذًا يحسنون مكابدة العوارِض.
حكاية النسب:
يعود نسب الشيخ ابن حميد إلى قبيلة بني خالد بلا خلاف، وثمة ما يشير إلى كونه ينتسب إلى حكام الأحساء قديمًا، وهم من بني خالد الذين استمرَّ حكمهم في تلك المناطق أزيدَ من قرنين من الزمان، ولكن الشيخ لم يكن يكترث مطلقًا بهذه الأحاديث التي يتباهى بها في العادة العاطِلون عن المفاخِر، يقول تلميذه الشيخ العبودي: سألته عمَّا إذا كانوا من أمراءِ بني خالد؟ فمَنَعَه ورعه بأن يجزم بشيء من ذلك، بل لم يتحمس له مطلقًا، وإنما قال لي: (إن والدي مات وأنا صغير، وكذلك عمِّي، ولذلك لم أسأل أحدًا هذا السؤال، إلا أنني كنت وأنا صغير أقرأ على شيخي صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ قاضي الرياض، فكان كثيرًا ما يقول لي إذا رآني: أهلا بابن عريعر! يشير إلى حكام الأحساء). ثم يقول الشيخ عبدالله: (ولا أعرف غير ذلك).
ربما يتوهَّم القارئ من خلال ردّ الشيخ ابن حميد أنه كان جاهلًا بالأسر والأنساب، أو على الأقلّ معرضًا عن معرفةِ هذا الجانب إعراضًا كلِّيًّا، والحقيقة أن الشيخ بخلاف ذلك، فقد كان يعرف الأسر والقبائل معرفةً تامة، بل له أمالٍ متفرِّقة فيها انتفع بها أهل الشأن، فعلى سبيل المثال يذكر صاحب كتاب كنز الأنساب أن ابن حميد (له عناية كبيرة بالأنساب، خاصة الأنساب الحديثة، فهو يعرف الأسر والقبائل في الجزيرة العربية ويسرد ذلك، وقد استفدت منه في هذا الجانب عند تأليفي كتاب زهر الأدب، وكتاب كنز الأنساب).
ويقول الشيخ العبودي – وهو الذي صحَبَه عدَّة عقود-: (الغريب أن الشيخ عبدالله ابن حميد رغم حرصه على معرفة أحوال الناس، وإلى من يرجعون إليه؛ لم أسمعه ولا مرةً واحدةً طيلة السنين يحدِّث عن أصلِه! أو أنه من آل حميد حكام الأحساء، أو أنه من آل عريعر)، وهذا واللهِ شأن الكمَلة من الرِّجال في كل عصر، وهو يذكِّرنا على الفورِ بعبارة يحيى من معين: (صحبتُ أحمد بن حنبل خمسين سنة ما افتخر علينا بشيء!) وقال عامر للإمام أحمد: (يا أبا عبدالله بلغني أنك رجل من العرب، فمن أي العرب أنت؟ فقال: يا أبا النعمان نحن قوم مساكين، وما نصنع بهذا؟!).
الاجتهاد في الطلب:
كان الشيخ حازمًا في طلب العلم، وقد رزقه الله همَّةً عجيبَةً في اغتنام الأوقات، فكان يستمرُّ في الدراسة دون كللٍ، وقد درس في أول نشأته العلمية كل المتون العلمية الدارجة في ذلك الزمان، ثم قرأ على الشيخ ابن إبراهيم في كل العلوم الممكنة، وذلك كرسائل ابن تيمية، وردّ الإمام أحمد على الزنادقة والجهمية، وعمدة الأحكام، ومصطلح الحديث، وزاد المستقنع، وكلُّ هذه المتون حفظها عن ظهر قلب، بل وجدتُّ بعضَ من ترجم له يذكر أنه حفظ (غاية المنتهى) من أوّلِه إلى كتاب الصَّداق! وهذه إن ثبَتَتْ مِن العجائب!
وفي النحو درَس متن الآجرومية وقطر الندى وشرحه وملحة الإعراب وشرحها وألفية ابن مالك وشرحها لابن عقيل، وعلومًا أخرى متعددة، وإذا استصحبنا ما نعلمه من المواهب الفِطريَّة لدى الشيخ ابن حميد علِمنا أن احتشادَ الاجتهاد مع الموهبة في إهابِ هذا الشابِّ الضرير حتمًا سيلفت نظرَ شيخِه إليه، ولذلك فإن الشيخ محمد بن إبراهيم بادر بتعيينه مساعدًا له في تدريس العلوم في المسجد، وما أسعد العالِم وهو يرى ثمارَ غرسِه تتفتح في حياته وتتدلى بين عينيه!
وهكذا كان الأكابر في كل عصر يجتهدون في تحصيل أصول العلوم التي يطلبونها، ويبلغون فيها الغايةَ الممكنة، بخلافِ من يرضى منها بالفُتات ويكون حظُّه من أصول المعارف مراكمة الكتب ومعرفة العناوين، مع التبحُّر من المُلح واللطائف، وإنَّ شيوعَ هذه الحالِ مُؤذِنٌ بذهابِ العلوم واندثارِ حملتِها وانقطاعِ أسباب وراثتِها، وهي شكوى قديمة موغِلَة في غيابةِ التاريخ، يقول الجويني في بيانِها: (عاينت في عهدي الأئمة ينقرضون ولا يخلفون، والمتسمَّون بالطلب يرضون بالاستطراف، ويقنعون بالأطراف وغاية مطلبهم مسائل خلافية يتباهون بها، أو فصول ملفَّقَة، وكَلِم مرتَقَة في المواعظ يستعطفون بها قلوب العوام والهمج الطغام، فعلمت أن الأمر لو تمادى على هذا الوجه لانقرض علماء الشريعة على قربٍ وكَثَب).
وأكثر ما يميِّز العلماء الكبار في كل مجالٍ، أو قُلْ بالمعنى الأدقّ: أكثر ما جعلهم كِبارًا على الحقيقة هو مواصلة طريق العلم والعمل والتعليم من مراتع صباهم إلى آخرِ أيامهم، فغيرُهم يطلب العلم زمنًا ثم ينقطع، والعلم لا يدني رقبته الشريفة لمن يتعامل معه تعاملا موسميًّا بحسب قانون العرض والطلب، فكان الشيخ ابن حميد شَغُوفًا بطلبِ المعارف وبثِّها طيلة عمره، وكان حَفِيًّا باغتنام جميع الأوقات حتى تلك الفواصل الضائعة بين البرامج، وقد قام في تلك المرحلة المبكِّرة بتسجيل بعض أمهات الكتب المختلفة تسجيلا صوتيًّا، ثم يقوم بالاستماع إليها قبيل الإخلاد إلى النوم، ويقول مغتبطًا بهذه الفكرة التي أتيحت له: (المتعة العظمى أن أفتح المسجل على بعض الكتب قبل أن أنام حتى يغلبني النوم، فأنا استفدت من الوقت الضائع ما بين الاضطجاع والاستغراق في النوم).
وبهذا الإقبال التام نفهم ما قيلَ في تضاعيف تَرْجَمته من كونِه إذا درَّس واحدًا من علوم الشريعة والعربية يتوهّم الناظر أنه لا يحسن غيره، فَمَن صَدَقَ في الإقبال على شيءٍ ووُجِدَ لديه الاستعداد الملائم؛ فإنه بالغٌ منه غايتَه بعونِ الله لا محالَة!
كان في مستهلِّ هذا القرن الهجري نفرٌ من الشيوخ في شتى البلدان، أقامهم الله تعالى حجة على أهل هذه القرون المتأخِّرة، وجعلهم دلائلَ متحركةً شاهدةً بأن أنهار النفعِ باقية متدفقة، وأن الأوقات تتسع لجلائل الأعمال، وأن إيثارَ الآخرة ممكن، وأن وَصْلَ ما مضى من سير النبلاءِ وارِد، وأن كثيرًا من الوقائع التي ترويها كتب التراجم والطبقات إن لم تكن صحيحة فليست بعيدة، وإن لم تكن واقعة فليست ممتنعة، وأنه لم تزل في جَعْبة التاريخ لحكايا الأكابر بقيَّة!
حينما أزمعت الوقوفَ مع شيءٍ من تراجمِ الأعلام، لم يكن مقصودي استقصاء ما في بطون الكتب، أو الإتيان على فوائتِ الأخبار من مشافَهة الرواة، أو الإغراب بالحكايا النادرة للمسامرات، وإنما قصدتُّ استنطاق الأحداث المعلومة، واستكناهَ الوقائع المتداولَة، ثم البحث في كوامنها، واستخراج مخبآتِها، ونحو ذلك مما يزيد في الإيمان ويذكي فتيل المطامح، كما قال ابن الجوزي: (رأيت الاشتغال بالفقه وسماع الحديث لا يكاد يكفي في صلاح القلب؛ إلا أن يمزَج بالرقائق والنظر في سير السلف الصالحين)، وإلا فقد وضِع في تراجم هؤلاء الجبالِ الذين نعرض لهم في هذه المقالات مصنفاتٌ عِدَّة، وسُوِّدت أوراق كثيرة تُطلب في مظانِّها لمن رامَ الوقوف على الخبايا في الزوايا.
العالم النافع:
وغاية نفع العالم أن يكون واسع الأفق مضطَلِعًا بحاجات الناس الدينية والدنيوية، يسعى في صلاح حالهم ومآلهم، لا يحصر حركته في أُطُرٍ تقليدية ضيقة، وإنما يمتد نفعه حيثما قامت بالناس حاجة، فهذا الجانب أكثر ما يميّز الشخصيات العظيمة من سادة الأمة عبر العصور، وهو ما حفر لهم في قلوب الناس أخاديدَ من المودة، ثم بنى لهم فوقها شواهق من الولاء، فكما قيل في ترجمة ابن تيمية: (له محبون من العلماء والصلحاء، ومن الجند والأمراء، ومن التجار والكبراء، وسائر العامة تحبه، لأَنَّه منتصب لنفعهم ليلًا ونهارًا بلسانه وقلمه)، وهذه الحال من السعي في مصالح الناس الدينية والدنيوية على حدٍّ سواء هي تمام وراثة النبوة، فأنفع الخلق للخلق هم الأنبياء عليهم السلام.
وهكذا كان دأب الشيخ ابن حميد -رحمه الله- فقد وصل حياتَه بحياة الناس من حَولِه، وعلَّق على جدران قلبه مشاجِب لهمومِهم، وصَيَّر نفسه جسرًا لآمالهم، ولم يحدَّ نشاطَه في إطار التعليم وميدان القضاء وبَاحَة الفتوى، وإن كان في هذه الثلاثة قد أوفى على الغاية، وإنما كان الشيخ فوق ذلك (متصلا بالحياة والأحياء والمجتمع، ومن أهم أغراضه في ذلك الاستماع لحوائج الناس والسعي في قضائها، ورفع المظالم عنهم، وإيصال الحقوق إلى أهلها، ومن أجلِ هذا كان بيته مفتوحًا ومقصدًا للقاصي والداني والصغير والكبير).
المشاريع الباقية:
لم يكتفِ الشيخ ابن حميد في سبيل نفع الناس بتقديم الحلول المؤقتة، ورفع المشاكل القائمة، وإطفاء الحرائق العارضة، وقضاء الحوائج الحادِثَة، وإنما كانت له في سبيل السعي لمصالحهم مبادراتٌ عامة مستمرَّة، وبعض مبادرات الشيخ ما زال قائمًا إلى هذا اليوم، مما يكشف أن الشيخِ كان يحمل في رأسه عقلا تحديثيًّا سابِقًا لأوانه.
فمن ذلك أنه كتب إلى الملك عبدالعزيز -رحمه الله- في عام 1363ه، يشرح في هذا الكتاب حال طلبة العلم في مدينة بريدة، ويبيِّن فيه مدى حاجتهم لدخلٍ ثابت، وأنهم بحاجة ماسّة لعمارة أوقاتهم في طلب العلم وعدم الانشغال في طلب المعاش، فكانت نتيجة ذلك أن أمسى لطلبة العلمِ في ذلك الحين رواتب شهريَّة ثابتة!
وهذا السعي في كفاية طلبة العلم من أعظم القربات، وهو من أكبر الشواهد على إدراكِ أهمية العلوم وتحصيل أسباب بقائها في المجتمعات، وكما يقول حافظ إبراهيم:
كم طوى البؤس نفوسًا لو رَعَت *** منبتًا خصبًا لكانت جوهرا
ولهذه المبادرة من الكفاية لطلاب العلم نظائر مشهورة في التاريخ، من ذلك أن ابنَّ طاهر لمَّا رأى كتاب (غريب الحديث) لأبي عبيد القاسم بن سلام رحمه الله رتَّب له عشرة آلاف درهمٍ كلَّ شهر، وقال: (إن عقلا يعين صاحبه على عملِ هذا الكتاب حقيقٌ ألا يحوج إلى المعاش)، وهذا الإمام سفيان بن عيينة لما بَلَغَه وفاة جعفر البرمكي استقبل القبلة ثم قال: اللهم إنَّ جعفرًا كان قد كفاني مؤنةَ الدنيا، فاكفِهِ مؤنةَ الآخرة.
والعجيب أني حين نظرت في تاريخ هذا الخطاب السالِف الذي بعثه الشيخ ابن حميد، ثم قمتُ بحساب عمرهِ، فوجدتُّه زهاء أربع وثلاثين سنة فحسب، فانظر كيف يوفَّق الإنسان لأن يكون سببًا في نفع الناس وهو في هذا المرحلة المبكِّرة من عمره
وإذا رأيت من الهلال نموّه *** أيقنت أن سيكون بدرًا كاملا
ولم يقتصر نفع الشيخ العامُّ على ذلك، وإنما كان له مبادرات أخرى في مراحل مختلفة، فمن ذلك إنشاء هيئة عقاريَّة في ذلك الزمن المبكر تهدف إلى تحديد الأملاك ومعرفة حدود العقارات عند الخصومات، وسماها هيئة النظر، ومن ذلك السعي في حفر بئرٍ ارتوازي في القصيم لتأمين توفر المياه للأهالي، وغير ذلك من المبادرات العامة.
وهكذا يلتحم العالم بهمومِ الناس، ويبذل ما يستطيع في نفعهم، ولذلك حينما أقام الشيخ في بريدة كانت له مع أهلها عمومًا ومع طلبة العلم خصوصًا قصة كبيرة مفعمة بالحبّ، ولمَّا تسامع الناس بأن الشيخ استدعي ليشغل وظيفةً في الرياض، بادروا بإرسال وفدٍ كبير لمقابلة الملك عبدالعزيز رحمه الله، والتمسوا منه إبقاء شيخهم عندهم حتى لطف الله بهم ووافق الملك.
تحقيق المسائل:
وعلى صعيد العلوم فقد أحدث الشيخ في بريدة حركة علميةً لافتةً، وكان قرةَ عينِ طلاب العلوم في تلك المدينة الصغيرة، وهو مولعٌ بتحقيق المسائل، وإزالةِ الإشكال، ورفعِ الإبهام، فمن شأنه في التعليم أنه (لا يترك المسألة تمرُّ وفي نفسه أو نفوس طلابه شيء منها غير واضح).
وللشيخ طريقة لطيفةٌ مفيدةٌ في ضبط المسائل المشكلة بعد بحثِها، وهي أن يجرِّدها من لباس العبارة، ثم يعبِّر عن معانيها بعبارَتِه وألفاظه، ثم يذكر لها صورًا جديدة، وذلك حتى تثبت في ذهنه وأذهان الطلبة، وهذه طريقة التلخيص الذهني للمعنى، وفرز المدخَلات العلمية الجديدة قبل استقرارِها.
دهشة التلاميذ:
بينما يمتح طلاب العلم من نبع معارف الشيخ كان يجول في أذهانهم ويضطرم في أعماقهم هذا التساؤل المتكرر: كيف يجد الشيخ ابن حميد كل هذه الأوقات الواسعة للتعليم رغم قيامه بواجبات كثيرة؟
يقول الشيخ العبودي -رحمه الله- شارحًا قصة هذه الدهشة في نفوس طلاب العلم: (كثيرًا ما تذاكرنا نحن طلبة العلم بركة الوقت عند شيخنا الشيخ عبدالله بن حميد، وكيف يستطيع أن يتسع وقته لكلِّ الأعباء التي يفرضها عليه وضعه قاضيًا ومرجعًا في كثير من شؤون المدينة، وقد فرض على نفسه برنامجًا مكثَّفًا للتعليم قلَّ أن يتحمله شيخ آخر..)، وإذا أردنا أن نحلِّلَ هذه الظاهرة العجيبة في الإنجاز لدى الشيخ من خلال النظر في ترجمته، فإننا نجد أن وراءَها عدة أسباب، منها ما عُرِفَ به الشيخ من طبيعة الحزم في كلِّ أموره التي يعزم عليها، ومِنها قوة التحصيل العلمي ورسوخه في زمن الطلب، وهذا بلا ريب يختصر على العالِم زمانًا طويلا في زمن العطاء، وذلك لأنه يقلِّص حاجته للتحضير المستمرّ لمادّته العلمية، ومنها الذكاء الفطري الحادّ الذي يجعل الشيخ يدرك سريعًا.
وبهذا الذكاء الفطري كان الشيخ يعرف الناس سواءً الخصوم في المحكمة أو غيرهم، وكانت للشيخ طريقة في معرفة مقادير عقولِهم، وهي أن يسألهم عن أشياءَ يعرفها، فإذا أجابوا عرف مدى دقتهم فيما لا يعرف، وهي طريقة حسنة لطيفة.
والحقيقة أن الشيخ على رسوخه التام في علوم الشريعة وما يتصل بها من العربية كان واسعَ النظر في أبوابٍ ربما تخفى تفاصيلها على بعض طلبةِ العلم، فمن ذلك المعرفة الواسعة بالتاريخ وأحوال الناس، والاهتمام البالغ في معرفة أحوال الأمم والشعوب، وكان يُفْضِي إلى بعضِ جلَّاسِهِ بأنَّ في صدرِه تاريخًا يودُّ لو أملاه! فهذا التفنُّن المحمود لا يحصل إلا بتظاهر الشغف وتكامل الموهبة وصِدقِ الطلب، وهكذا كان ابن حميد!
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد