ط
الخوف من الوقوع في الشر - محمد بن التجاني المدنيني
يا أيّها المؤمنون الكرام، فعن حذيفة بن اليمان قال: "كَانَ النّاس يَسْأَلُونَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ عَنْ الْخَيْرِ وَكُنْتُ أَسْأله عَنْ الشرّ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إنّا كُنَّا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَشرّ فَجَاءَنَا اللَّهُ بِهَذَا الْخَيْرِ فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الْخَيْرِ مِنْ شرّ قَالَ نَعَمْ قُلْتُ وَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الشرّ مِنْ خَيْرٍ قَالَ نَعَمْ وَفِيهِ دَخَنٌ قُلْتُ وَمَا دَخَنُهُ قَالَ قَوْمٌ يَهْدُونَ بِغَيْرِ هَدْيِي تَعْرِفُ مِنْهُمْ وَتُنْكِرُ قُلْتُ فَهَلْ بَعْدَ ذَلِكَ الْخَيْرِ مِنْ شرّ قَالَ نَعَمْ دُعَاةٌ عَلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا قَالَ هُمْ مِنْ جِلْدَتِنَا وَيَتَكلّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا"[1] فما وجه الحاجة للوقوف عند هذا الحديث؟
وكيف هي أحوالنا وأوضاعنّا وعلاقاتنا بالنّظر إلى وصف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؟ ولماذا تشهد الأمّة اليوم أسوأ وضع عرفته على مدى التّاريخ وأشدّ المراحل صعوبة وإحراجا؟
عباد الله، ورد في بعض لفظ الحديث تنبيّه الرّسول عليه الصلّاة والسّلام إلى ما يهدّد الأمّة من أخطار، حتى في حالة الخير، واصفا ذلك بقوله: فيه دخن. والدّخن يعبّر عن الضّبابية وغياب الصّفاء والنّقاء، فهناك وضع معكّر أقربّ إلى السّواد، فقد يراد بالدّخن القلوب غير الصّافية والعلاقات غير النّظيفة، والحقد.
نجد صلّاة ونجد صوما وحجّا وكثرة مساجد وكثرة سماع القرآن وتلاوته... لكن لا يوجد صفاء، لا يوجد حبّ، لا توجد علاقات نقيّة جدًا، لا توجد صلّة قويّة ومتينة بالله.
يقول عزّ وجلّ: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النّاس لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [الروم: 41]. فما نتيجة ذلك؟ لقد تمّ العدول عن هدي رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، والتّفريط في سنّته من جهة، والمبالغة في تقليد الغربّيّين والانبهار بنهجهم من جهة أخرى، فلو دخلوا جحر ضبّ لدخلناه.
فلم يعد هناك اعتزاز إلاّ بالغرب: لقد أضحت تقاليدنا وعاداتنا، واحتفالاتنا وأفراحنا وأتراحنا، ولباسنا وثيابنا، وكلّ مظاهر حياتنا مقتبسة من الثقافة الغربّيّة.
يقول تعالى: ﴿الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعزّةَ فَإِنَّ العزّةَ لِلّهِ جَمِيعًا﴾[النساء:139]، وفي سورة العنكبوت ﴿مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاء كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ [العنكبوت41].
كلّ ذلك يقع تحت عنوان واحد: الحداثة، ومنه تأتي الدّعوة إلى المعصية وإلى الإباحيّة، والدعوة إلى نهب الأموال وإلى القهر والظلم: "دُعَاةٌ عَلَى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ، مَنْ أَجَابَهُمْ إِلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا".
يا رسول الله صفهم لنا: "هُمْ مِنْ جِلْدَتِنَا وَيَتَكلّمُونَ بِأَلْسِنَتِنَا" يتكاثر عددهم، كما نرى اليوم، وهم الدّعاة إلى النّار وإلى المعاصي والآثام.
وعن عامِر بن سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: كُنَّا مَعَ النبيّ ﷺ بِمَسْجِدِ بَنِي مُعَاوِيَةَ، فَدَخَلَ فَرَكَعَ فِيهِ رَكْعَتَيْنِ ثُمَّ قَامَ يُنَاجِي ربّهُ، تَبَارَكَ وَتَعَالَى، ثُمَّ انْصَرَفَ، فَقَالَ: "سَأَلْتُ ربّي عزّ وَجَلَّ ثَلاثًا فَأَعْطَانِيَ اثْنَيْنِ وَمَنَعَنِي وَاحِدَةً، سَأَلْتُ ربّي أَنْ لا يُهْلِكَ أُمَّتِي بِالْغَرَقِ وَلا يُهْلِكَهُمْ بِالسِّنَةِ فَفَعَل، وَسَأَلْتُهُ أَنْ لا يَجْعَلَ بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ فَمَنَعنِيهَا"[2]. فما الذي أحدثته الأمّة حتى أصابها ما أصابها؟
لا شكّ أنّ الغرب عرف كيف يغزو العالم الإسلاميّ بالغزو الفكريّ، وهو: أن يسلّط على المسلمين فكره وخلقه وسلوكه، فيقتنع المسلمون بكلّ ما لديه. الغزو الفكريّ: أن يجعلك تنظر للغربّ بإنّه هو الأعلى وإنّه هو الأكمل وأن ما عنده هو الأحسن، وتشعر في قرارة نفسك بالذلّة والمهانة! فإذا ما حصلّ هذا، وقد حصلّ كلّ هذا، وأكثر من ذلك؛ سلّم المسلمون ديارهم وأموالهم للغربّيّين يلعبون فيها وبها كيفما شاءوا، ويأخذون ما شاءوا، دون حسيب ولا رقيب، وصارت خيرات هذه الأمّة تستنزف لتصبّ في جيوب أعدائها وبطونها.
لقد سُلِّط على العالم الإسلاميّ إعلام متكامل، مقروء ومسموع ومشاهد، وكلّه يصبّ في قناة واحدة وهي تقبُّل فكر الغربّ وخلقه وسلوكه وإظهاره بمظهر الأفضل، وانتقاد كلّ ما له تعلّق بالدّين من جهة أخرى!. لكن ما أصاب الأمّة في مقتل هو أن يتولّى البعض من ذوينا، إن لم يكن الكثير من بني جلدتنا، تمجيد الغزو الغربّيّ والترّويج له تحت عنّاوين من كثرة ما أوهمنا بها جعلها تعلو على ما هو مقدّس بل وتتقدّم على كلّ العنّاوين الدّينيّة. أفلا نرى ذلك صريحا واضحا في مواقف بني جلدتنا وأقوالهم؟ الديموقراطيّة تمنع ارتداء الحجاب، والحريّة تمنع الدّعوة إلى الله والأمر بالمعروف.. والمدنيّة تقضي باستبعاد الدّين وجعله أمرا شخصياّ.. وحقوق الإنسان تمنع الشّريعة.. وتمنع إعلاء صوت الآذان ورفعه.
فكلّ ما له علاقة بالدّين ممنوع باسم الديموقراطيّة والحداثة وحقوق الإنسان، لكن ليس أيّ دين، وإنّما الإسلام على وجه التّحديد.. أليس هذا ما نسمعه كلّ حين وفي كلّ مناسبة من بني جلدتنا، حتّى كدنا نسمع من يدافع عن الإسلام من بعض الغربّيين أنفسهم ما لا نسمعه عندنا من إخواننا وأبناء مجتمعنا؟ أليست خلافاتنا كلّها وخصوماتنا مردّها الاحتكام إلى شرّع الله أو الاقتداء بكلّ ما يصنعه الغربّ فكرا وسلوكا وعقيدة وحياة؟ ألم يعد بأسنا كلّه، اليوم، بيننا كما أخبر عن ذلك الرّسول صلّى الله عليه وسلّم؟
يا أمّة الحقّ إن الجرح متّسع *** فهل ترى من نزيف الجرح نعتبر؟
ماذا سوى عودة لله صادقة *** عسى تغيّر هذه الحال والصور
أيّها المؤمنون الكرام، فإنّ اللّه تعالى يقول:﴿وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ﴾[الشورى: 3] وعَنْ عبدالرحمن بْنِ عَبْدِ ربّ الْكَعْبَةِ، قَالَ: دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ، فَإِذَا عبدالله بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ جَالِسٌ فِي ظِلِّ الْكَعْبَةِ، وَالنّاس مُجْتَمِعُونَ عَلَيْهِ، فَأَتَيْتُهُمْ فَجَلَسْتُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: "كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ فِي سَفَرٍ، فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا فَمِنَّا مَنْ يُصلّحُ خِبَاءَهُ، وَمِنَّا مَنْ يَنْتَضِلُ، وَمِنَّا مَنْ هُوَ فِي جَشرّهِ إِذْ نَادَى مُنَادِي رَسُولِ اللَّهِ ﷺ الصلّاةَ جَامِعَةً، فَاجْتَمَعنّا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم، فَقَالَ: إنّه لَمْ يَكُنْ نبيّ قَبْلِي إِلَّا كَانَ حَقًّا عَلَيْهِ أَنْ يَدُلَّ أُمَّتَهُ عَلَى خَيْرِ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ، وَيُنْذِرَهُمْ شرّ مَا يَعْلَمُهُ لَهُمْ، وَإِنَّ أُمَّتَكُمْ هَذِهِ جُعِلَ عَافِيَتُهَا فِي أَوَّلِهَا، وَسَيُصِيبُ آخِرَهَا بَلَاءٌ وَأُمُورٌ تُنْكِرُونَهَا، وَتَجِيءُ فِتْنَةٌ فَيُرَقِّقُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ هَذِهِ مُهْلِكَتِي ثُمَّ تَنْكَشِفُ، وَتَجِيءُ الْفِتْنَةُ فَيَقُولُ الْمُؤْمِنُ هَذِهِ مُهْلِكَتِي فَمَنْ أَحَبَّ أَنْ يُزَحْزَحَ عَنِ النَّارِ، وَيُدْخَلَ الْجَنَّةَ، فَلْتَأْتِهِ مَنِيَّتُهُ وَهُوَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ"[3]،
عباد الله، هُزمتِ الأمّة هزائم كثيرة، وها هي اليوم تواجه هزائم جديدة أفظع وأعتى: فهي مهزومة في فكِرها، وفي وجدانها، وتواجه هزائم في كلّ ميادين الحياة: انهزمت عسكرياّ وفكريّا وسياسيّا وإعلاميّا. لكن هل هناك أشدّ خطرا وتدميرا من أن يعترينا، ولو مجرّد شكّ، فيما يحدث تحت عنوان الإسلام؟ هل الإسلام هو سبب ما يحدث في ليبيا من تمزّق وعنف وتقتيل طال حتى الأرحام والأقاربّ؟ هل ما تشهده مصر من تقسيم وترهيب مصدره الإسلام؟ هل ما يحصلّ في العراق وفي سوريا بسبب الإسلام؟ هل الإسلام هو الذي يمزّق اليمن وفلسطين؟ لماذا هذا الذي يحدث ويصيب الأمّة العربّية في مقتل يحملنا على الشكّ في أنفسنا وفي بعضنا؟ فإذا كنّا نحن الذي نملك قرارنا ونحن الذين نتحكّم في خياراتنا، فهل ترانا نقبل بما يحصلّ في أيّ قطر عربّي؟ هل أدركتم المغزى من حديث الرّسول صلّى الله عليه وسلّم؟ هل عرفتم أنّنا نحن المعنيّون بهذا الحديث قبل غيرنا؟ ويؤكّد هذا الأمر الآية القرآنيّة الكريمة ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النّاس لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ [الروم:41].
فعندما وقعت الحروب الصلّيبيّة التي استمرّت حوالي مائتي عام، ثمّ هجوم التّتار على المسلمين كان ذلك بسبب الانشغال عن الإسلام الصّحيح ببدع وخرافات ومعاص، وتواكلّ وتقاعس وقعود عن الأخذ بالأسباب، غير أنّ الإسلام ذاته لم يكن موضع نقاش، لا بوصفه عقيدة ولا بكونه نظام حكم أو نظام حياة! كان النّاس يشعرون بأنّ تقاعسهم وانحرافهم وتفريطهم في جنب الله وفي سنّة رسوله كانت وراء سقوطهم وضعفهم وفقدان عزّتهم. لذلك لم يهنوا حتى وهم مهزومون أمام أعدائهم فترة غير قصيرة من الزمن، ولم يشعروا إنّهم أدنى من أعدائهم! بل كان يتمثل فيهم قول الله تبارك وتعالى: ﴿وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأْعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ﴾ [آل عمران:139]. وحريّ بنا أن نتدبّر ونتمعّن، كأفضل ما يكون وإلى أبعد ما يكون، قوله تعالى: ﴿وَأَنَّ هَٰذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَٰلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [الأنعام-153].
ألا وصلّوا عباد الله، على رسول الهدى؛ فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: ﴿إِنَّ اللهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصلّونَ عَلَى النبيّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ صلّواْ عَلَيْهِ وسلّمواْ تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب:56].
اللّهمّ صلّ وسلّم على عبدك ورسولك محمّد، وارضَ اللّهمّ عن الخلفاء الأربّعة الرّاشدين وعن التّابعين ومن تبعهم بإحسان، إلى يوم الدّين، وعنّا معهم برحمتك يا أرحم الرّاحمين.
اللّهمّ إنا نعوذ بك من الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللّهمّ اجعل لنا من كلّ همّ فرجا، ومن كلّ ضيق مخرجا، ومن كلّ عسر يسرا، ومن كلّ بلاء عافية. اللّهمّ احقن دماءنا، واحفظ بلادنا، وألّف بين قلوبنا.
اللّهمّ أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الدّنيا زيادة لنا في كلّ خير، والموت راحة لنا من كلّ شرّ، اللّهمّ احفظنا بالإسلام قائمين، واحفظنا بالإسلام قاعدين، واحفظنا بالإسلام راقدين، ولا تُشمت بنا أعداء ولا حاسدين يا ربّ العالمين، اللّهمّ ألّف بين قلوب المؤمنين وأصلح ذات بينهم، واهدهم سبل السّلام ونجّهم من الظلمات إلى النّور يا ذا الجلال والإكرام، اللّهمّ ارفع البلاء عن المستضعفين من المؤمنين، اللّهمّ احقن دماء المسلمين، اللّهمّ نجّ إخواننا المستضعفين في كلّ مكان يا ربّ العالمين، اللّهمّ ليس لهم حول ولا قوّة إلا بك، اللّهمّ ليس لهم إلا أنت فانصرهم على من ظلمهم وعاداهم، اللّهمّ اشف مرضانا، وعاف مبتلانا، وارحم موتانا، واجعل الجنّة مأواهم ومأوانا، اللّهمّ احفظ لهذه البلاد دينَها وعقيدتَها وأمنها وعزّتها، اللّهمّ اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنّك سميع قريب مجيب الدّعوات. سبحان ربّك ربّ العزّة عمّا يصفون وسلام على المرسلين والحمد للّه ربّ العالمين.
الإسراء والمعراج (1)
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى وأراه من آياته الكبرى ما ارتفع به قدرا، أحمده وهو المحمود أزلا وأبدا بما أثنى، وأشكره شكرا يخوّل لنا ترادف نعمه الحسنى، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده، لا شريك له، لَهُ خَالِصُ العِبَادَةِ كَمَا يُحِبُّ ويَرْضَى، وأشهد أنّ سيّدنا ومولانا محمّدا عبده ورسوله المخصوص بالمقام المحمود والحوض المورود، والمرفوع فوق الأنبياء حسّا ومعنى، صلّى الله وسلّم عليه وعلى آله وصحبه أعلام الهدى﴿أُولَٰئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [البقرة:218]
أما بعد، أيّها المؤمنون الكرام، فيقول سبحانه وتعالى في محكم بيانه:﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ۚ إنّه هُوَ السّميع الْبَصِيرُ﴾[الإسراء:1]. وكان الإسراء والمعراج بالرّسول ﷺ حدثا عظيما، يعلّم الإنسان أنّ المِنْحَة تَكْمُنُ فِي المِحنَةِ، وأنّ بعد العُسْر يُسْرا، و بعد الضِّيق سَعَةً، وبعد الكَربّ فَرَجا، كلّما كان شعار المؤمن التوكلّ على الله واليقين في اللّجوء إليه وحسن الظّنّ به، وهل يوجد ما هو أبلغ في التعبير عن ذلك من قوله صلّى الله عليه وسلّم: «اللّهمّ إِلَيْكَ أَشْكُوْ ضَعْفَ قُوَّتِيْ، وَقِلَّةَ حِيلَتِي، وَهَوَانِي عَلَى النّاس، أَنْتَ أرحم الرّاحمين... أَعُوْذُ بِنُوْرِ وَجْهِكَ الَّذِي أَشرّقَتْ لَهُ الْظُّلُمَاتُ، وَصلّحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدّنيا وَالآَخِرَةِ، أَنْ يَنْزِلَ بِيَ غَضَبُكَ، أَوْ يَحِلَّ عَلَيَّ سَخَطُكَ، لَكَ العُتْبَى حَتَّى تَرْضَى، وَلا حَولَ وَلا قُوَّةَ إِلاَّ بِكَ«[4].كانت المساندة والتّكريم والدّعم من الله في منتهى السّرعة:إِنْ كَانَ أَهلُ الأَرْضِ آذَوكَ، فَهَا أنَّ أَهلَ السَّمَاءِ يَستَقْبِلُونَكَ، وَإِنْ كَانَتِ الأَرْضُ ضَاقَتْ عَلَيْكَ بِظُلْمِ ناسِها، فَهَا هِيَ السَّمَاءُ تَفْتَحُ لَكَ أَبْوَابَهَا. هذا معنى من معاني الإسراء والمعراج. فأيّة دروس نستلهمها من هذه الحادثة؟ ولماذا نحتاج إلى التّذكير بها في حياتنا؟
أيها المؤمنون: إننّا بمقدار التجائنا إلى الله وصدق اتّكالنا عليه وولائنا لهذا الدّين؛ سيجعل الله بعد عسرٍ يسرا. وإنّ هذا اليسر لن يكون ببرنامج خارجيّ أو دونما سعي وبذل، وإنما يكون بإخلاص منّا، جميعا، وبعزّم صادق للوصول إلى ما نحتاج إليه من استقرار وتماسك وتكافل تلقائيّ، وبصفاء
السريرة في العلاقات والمعاملات، وبإخلاص العمل.
فممّا نتعلّمه من الإسراء والمعراج أن للمحن والمصائب حِكمًا جليلة، أبرزها إنّها تسوق أصحابها إلى باب الله تعالى، وتلجئهم إلى طلب العون من الله. لا نلجأ إلى بشرّ يستغلّنا ويتبجّح علينا ويعتقد أنّ ناصيتنا بيده، لا نلجأ إلى طرف خارجيّ نتوسّل إليه المساعدة، لا نتّكلّ على من يتحيّن الفرص ويوهمنا بالتحكّم في مصيرنا ومقدّراتنا، وإنّما نتوجّه إلى الله عزّ وجلّ. ﴿أَمَّن يُجِيبُ ٱلْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ ٱلسُّوء وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاء ٱلأرْضِ﴾ [النمل:62]
يعلّمنا الإسراء والمعراج إنّه لا ينبغي أن تصدّنا المحن والعقباتُ عن متابعة السّير في استقامة وثبات، ويعلّمنا إنّه مادام الله هو الآمر فلا شك إنّه هو الضّامن والحافظ. فهل نحن ممّن يتعلّم من الدّين ويستفيد من سيرة سيّد المرسلين؟ هل ترانا اليوم في ظلّ ما نعيشه من ابتلاءات الدّنيا بصدد التّعويل على العبر التي أغنى بها الإسلام حياتنا؟ أتدرون ماذا حلّ بنا في هذه المحن؟ هل تشعرون بحجم تداعيات صرف اهتمامنا عن قضايانا الرئيسيّة في مجتمعاتنا الإسلاميّة ومجتمعنّا بوجه خاص؟ تفكّكت الأسرة وتصدّعت أركانها. انهارت التّربية وتقهقر التّعليم وانحلّت الأخلاق وتفشّت أمراض اجتماعيّة لم نسمع بها ولم يكن لآبائنا بها عهد. ضاعت الأمانات واحتجبت مظاهر الحياء وخُلُق الحشمة والاحترام... انتشرّت الرشاوى والاختلاسات والتحيّل. تعاظم الإقبال على المنكرات من خمر وزنا وهتك للأعراض وعبث بالقيم الدّينيّة.. أصبحت القلوب قاسية والنفوس متجافية. أفلا نطمح وهذه أوضاعنّا في إصلاحها، وفي أن يوجد أجيال جديدة مسؤولة وقادرة على تحقيق الإقلاع المنشود للأمّة؟ ألا يحدونا الأمل في تغيير واقعنّا وتنوير شبابنا والأخذ بأيديهم، كي تكون الأجيال القادمة أفضلَ حالا منّا؟
أيها المؤمنون: نحن نواجه، اليوم ومنذ زمن، صنوفا من المحن والمصاعب. أفلم يحن الوقت كي نعمل على تجاوزها؟ أما آن لنا أن ندرك مدى حاجتنا إلى الإخلاص لله في الأقوال والأفعال والقصد؟ ألم ندرك، بعد، أنّ في الإسلام، بقيمه ومعانيه ومقاصده، ما يؤمّن لنا الحلول وما يمنحنا آليات تخطّي المحن؟ ألم نتعلّم، بعد، ممّا نراه وما نعيشه وما نواجهه من محن وآفات وانحرافات أنّ الطريق إلى الله هو أنجع طريق لاستعادة توازن الأفراد وتوازن المجتمع وصلّاح حال الأمّة؟ هل يخالجنا العزّم، فعلا، على الإنابة إلى الله والتوكلّ عليه؟
إن كان هذا صحيحا، وإن كنّا نسعى فعلا إلى مصالحة أنفسنا ونعمل على استعادة استقامتنا وصلّاح حالنا، فَلْنَعملْ من أجل البلاد والعباد، لعلّنا بذلك نسهم في إرساء سبل الصلّاح والرّشاد لأمّتنا وأبنائنا. لِنَهجرْ أساليب التّمويه والخداع وادّعاء الفطنة والحرص الذي لا يقيم اعتبارا إلاّ لما نجنيه من أربّاح وما نغنمه من فوائد، مهما كانت عواقب ذلك وتداعياته على الأفراد الآخرين والمجتمع. لِنتيقَّنْ بأنّ الإخلاص لله والتمسّك بتعاليمه في القول والفعل والعلاقات، واستشعار مراقبة الله في السرّ والعلن، هي المسالك الوحيدة التي علّمنا إياها المصطفى، صلّى الله عليه وسلّم، للصلّاح والفلاح والاستقرار.
أيها المؤمنون: إن لم نتعلّم من السّيرة النبوية ومن دروس الإسراء والمعراج فكيف نواجه محننا وكيف نصبر لتخطّيها وكيف نتعامل مع بعضنا بعضا لتحقيق ما هو أفضل لنا ولغيرنا؟ إنّ انتفاء ذلك يدلّ على أنّ الإنسان أبعد ما يكون عن العبادة التّعاملية، مهما كان حجم عباداته الشعائرية. فأين نحن من الدّروس النّبويّة ومن العبر التي نقشتها مواقف النبيّ وسلوكه وأعماله؟
هل تخلّينا عن الردّ على الإساءة بالإساءة؟ هل أقلعنّا عن منطق التّعامل بالمثل ومقابلة الضّرر بضرر أكبر منه؟ أفكّرنا إيجابيا في بعضنا البعض، عسى الله أن يأخذ بناصيتنا ويفتح لنا دروب الفرج؟ هلاّ تعلّمنا من المصطفى، صلّى الله عليه وسلّم، من خلال موقفه حين عرض عليه مَلَكُ الجبال أمره بإطباق الأخشبين على قومه، وهو تحت وطأة المعاناة والشّعور الأليم بالظّلم وثقل المحنة التي يمرّ بها؟ قال صلّى الله عليه وسلّم:«بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللهُ مِنْ أَصلّابِهِمْ مَنْ يَعبدالله وَحْدَهُ لا يُشرّكُ بِهِ شَيْئًا«.[5]
وهلاّ تعلّمنا من السّيرة النبوية ومن دروس الإسراء والمعراج كيف نواجه أزماتنا وسوء أحوالنا ومعاملاتنا ونعقد العزّم على التخلّص منها؟
فاللّهمّ خذ بنواصينا إليك أخذ الكرام عليك، اللّهمّ استخدمنا فى الخير واغفر لنا أجمعين، واجمع كلّمتنا على الحقّ يا ربّ العالمين.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كلّ ذنب فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرّحيم ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم.
الخطبة الثّانية
الحمد لله الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وفضّله واصطفاه وخصّه من المواهب بما لا يوصف ولا يستقصى. أحمده وأشكره على ما أظهر من عجيب آياته لسيّد الأنام ﴿لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ ربّهِ الْكُبْرَىٰ﴾ [النجم:18]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، ذو الفضل والجلال والإكرام، وأشهد أنّ سيّدنا ومولانا محمّدا عبده ورسوله خاتم الرّسل الكرام. اللّهمّ صلّ وسلّم على سيّدنا محمّد وعلى الآل والأصحاب والأتباع والأحباب﴿لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَٰذِهِ الدّنيا حَسَنَةٌ ۚ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ ۚ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ﴾[النحل: 30]
أمّا بعد، أيّها المؤمنون الكرام، فيقول عزّ من قائل: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ۚ إنّه هُوَ السّميع الْبَصِيرُ﴾[الإسراء:1].لقد جاءت رحلة الإسراء والمعراج، لتربّط بين المسجد الحرام في مكّة والمسجد الأقصى في القدس، حيث انطلقت هذه الرّحلة المباركة من البيت الحرام بمكّة وانتهت إلى المسجد الأقصى من الأرض المباركة. وفي هذا الربّط دلالة على منزلة هذين المسجدين، وما يحيط بهما من أرض مباركة شهدت مبعث النُّبُوّات ومهبط الوحي ومهدَ الرسالات. ولهذا كان المسجد الأقصى القبلة الأولى التي لا تُنسى بالنّسبة إلى المسلمين، وكان المسجد الحرام القبلة الدّائمة التي يتوجّهون إليها كلّ يوم، ويحجّون إليها كلّ عام.
لكن كيف هو حال أمّتنا اليوم، وحال فلسطين، وحال كلّ الأقطار العربّيّة دون استثناء؟ وهل يخفى عليكم ما نحن فيه من محن؟ هل تشعرون بحجم تداعيات صرف اهتمام العربّ والمسلمين كلّ قطر بمحنته وكلّ شعب بهمّه وغمّه؟ نُسِيَت بيت المقدس وخرجت فلسطين من خانة الأولويّات، وأصبح وعي المواطن العربّيّ مصروفا عن أولى القبلتين وثاني الحرمين الشّريفين... لم يعد لدينا أولويّات إيمانيّة وقضايا الأمّة الأساسيّة... كلّ ما نبحث عنه لا يزيد عن أمتعة الحياة الدّنيا وأشيائها الفانية.
أيها المؤمنون الكرام: إن حادث الإسراء والمعراج لَيضع في أعنّاق المسلمين في كلّ أنحاء العالم أمانة القدس الشرّيف، وسيَسأل اللهُ المسلمين عن هذه الأمانة لِمَ فرّطوا في حقّها وتقاعسوا عن نصرتها. فَعَلَى كلّ مسلم أن يعرف قدر المسجد الأقصى المبارك، وأن يرتبط به ارتباط إيمان وحبّ، مدافعًا عن طهره ومنافحًا عن كرامته، ما استطاع إلى ذلك سبيلا. روى ابن عبّاس عن رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، قال: «من أراد أن ينظر إلى بقعة من بقع الجنّة فلينظر إلى بيت المقدس« [6]، وعن أبي ذرّ - رضي الله عنه - قال:«قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَيُّ مَسْجِدٍ وُضِعَ فِي الْأَرْضِ أَوَّلَ؟ قَالَ: الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ. قَالَ:قُلْتُ ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ: الْمَسْجِدُ الْأَقْصَى. قُلْتُ: كَمْ كَانَ بَيْنَهُمَا؟ قَالَ:أَربّعُونَ سَنَةً ثُمَّ أَيْنَمَا أَدْرَكَتْكَ الصلّاةُ بَعْدُ فَصلّهْ فَإِنَّ الْفَضْلَ فِيهِ« [7]
واتّقوا الله الذي أنتم به مؤمنون ﴿إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ﴾ [النحل:128]. عباد الله: يقول الله، ولم يزل قائلا عليما ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصلّونَ عَلَى النبيّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صلّوا عَلَيْهِ وسلّموا تَسْلِيمًا﴾ [الاحزاب:56]
اللّهمّ صلّ وسلّم عَلَى سيّدنا محمّد وَعَلَى آلِ سيّدنا محمّد، صلّاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم الدّين، وَارْضَ اللّهمّ عَنْ المؤمِنِين وَالمؤمِنَاتِ، وَعنّا مَعَهُمْ بِرَحْمَتِكَ يَا أرحم الرّاحمين. اللّهمّ يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ يَا ذَا الجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ، لاَ إله إِلاَّ أَنْتَ سبحانك، بِكَ نَستَجِيرُ، وَبِرَحْمَتِكَ نَستَغِيثُ أَلاَّ تَكلّنَا إِلَى أَنفُسِنَا طَرفَةَ عِينٍ، وَلاَ أَدنَى مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ، وأصلح لَنَا شَأْنَنَا كلّهُ يَا مُصلّحَ شَأْنِ الصَّالِحِينَ. اللّهمّ اخْصُصِ وَالدّينا بالكرامة لَدَيْكَ، اللّهمّ اخْصُصْ آباءنا وأمّهاتنا بِأَفْضَلِ مَا خَصَصْتَ بِهِ آبَاءَ عِبَادِكَ الْمُؤْمِنِينَ وَاُمَّهَاتِهِمْ يَا أرحم الرّاحمين. اللّهمّ لاَ تُنْسِنِا ذِكْرَهُمْ، فِي أَدْبَارِ صلّوَاتِنا وَفِي كلّ آنٍ مِنْ آناءِ لَيْلنا وَفِي كلّ سَاعَة مِنْ سَاعَاتِ نَهَارِنا. اللّهمّ خَفِّض لَهُم أصواتنا، وَأَطِبْ لَهُم كلّاَمَنا، وَأَلِنْ لَهُم عَرِيكَتنا، وَاعْطِفْ عَلَيْهِم قَلوبنا، وَصَيِّرْنِا بِهِم رُفقاء، وَعَلَيْهِم شَفقاء. اللّهمّ اشْكُرْ لَهُم تَربّيَتنا وَأَثِبْهُم عَلَى تَكْرِمَتِنا، وَاحْفَظْ لَهُم مَا حَفِظوهُ مِنِّا فِي صِغَرِنا. اللّهمّ أغننا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك. اللّهمّ إنا نسألك إيمانا كاملا ويقينا صادقا ورزقا واسعا وقلبا خاشعا ولسانا ذاكرا وحلالا طيّبا وتوبة نصوحا وتوبة، قبل الموت، و راحة، عند الموت، و مغفرة بعد الموت، والعفو عند الحساب، يا أرحم الرّاحمين يا ربّ العالمين. ربّنَا آتِنَا في الدّنيا حَسَنَةً وَفي الآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ. اللّهمّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِين وَالْمُؤْمِنَاتِ، َالْمُسْلِمِين وَالْمُسْلِمَاتِ، الأَحْيَاء مِنْهُمْ وَالأَمْوَات، إنّك سَمِيعٌ قَرِيبٌ مُجِيبُ الدّعَواتِ.
سبحان ربّك ربّ العزّة عمّا يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله ربّ العالمين.
الإسراء والمعراج(2)
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى وأراه من آياته الكبرى ما ارتفع به قدرا، أحمده وهو المحمود أزلا وأبدا بما أثنى، وأشكره شكرا يخوّل لنا ترادف نعمه الحسنى، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده، لا شريك له، لَهُ خَالِصُ العِبَادَةِ كَمَا يُحِبُّ ويَرْضَى﴿إِنَّ اللَّهَ ربّي وَربّكم فَاعْبُدُوهُ ۗ هَٰذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ﴾ [آل عمران:51]،وأشهد أنّ سيّدنا ومولانا محمّدا عبده ورسوله المخصوص بالمقام المحمود والحوض المورود، والمرفوع فوق الأنبياء حسّا ومعنى.صلّى الله وسلّم عليه وعلى آله وصحبه أعلام إلهدى﴿أُولَٰئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [البقرة: 218]
أما بعد، أيّها المؤمنون الكرام، فلا يوجد ما هو أشدّ وقعا وأعمقُ تأثيرا في الإنسان من محنة عظيمة وابتلاء شديد، فماذا يمكن أن يكون موقفُ الإنسان حينئذ؟ بمن يستجير وممّن يطلب العون؟ ما عساه يقول حينئذ؟ «اللّهمّ إِلَيْكَ أَشْكُوْ ضَعْفَ قُوَّتِيْ، وَقِلَّةَ حِيلَتِي، وَهَوَانِي عَلَى النّاس، أَنْتَ أرحم الرّاحمين، إِلَى مَنْ تَكلّنِي، إِلَى عَدُوٍّ يَتَجَهَّمُنِي، أَمْ إِلَى قَرِيبٍ مَلَّكْتَهُ أَمْرِي، إِنْ لَمْ يَكُنْ بِكَ غَضَبٌ عَلَيَّ فَلا أُبَالِي، غَيْرَ أَنَّ عَافِيَتَكَ أَوْسَعُ لِي، أَعُوْذُ بِنُوْرِ وَجْهِكَ الَّذِي أَشرّقَتْ لَهُ الْظُّلُمَاتُ، وَصلّحَ عَلَيْهِ أَمْرُ الدّنيا وَالآَخِرَةِ، أَنْ يَنْزِلَ بِيَ غَضَبُكَ، أَوْ يَحِلَّ عَلَيَّ سَخَطُكَ، لَكَ العُتْبَى حَتَّى تَرْضَى، وَلا حَولَ وَلا قُوَّةَ إِلاَّ بِكَ«.[8]هكذا كان موقف المصطفى، صلّى الله عليه وسلّم، إبّان محنة الطّائف وما تعرّض إليه من إذاية أهل الطّائف، وهو الذي ذهب إليهم لدعوتهم إلى الحقّ؟
وكانت الإجابة سريعة جدّا، وفحواها غير مسبوق وغير معهود وغير منتظر. ويكفي أن نفهم منها إنّه إِنْ كَانَ أَهلُ الأَرْضِ آذَوكَ، فَهَا أنَّ أَهلَ السَّمَاءِ يَستَقْبِلُونَكَ، وَإِنْ كَانَتِ الأَرْضُ ضَاقَتْ عَلَيْكَ بِظُلْمِ ناسها، فَهَا هِيَ السَّمَاءُ تَفْتَحُ لَكَ أَبْوَابَهَا. وكان الإسراء والمعراج بالرّسول صلّى الله عليه وسلّم. فما هي المعاني التي يمكن أن نستلهمها من هذه الحادثة العظيمة الجليلة؟ وماهي الدّروس التي نتعّلمها منها لنستثمرها في واقع حياتنا؟
أيها المؤمنون الكرام: في الإسراء والمعراج دَلالات كبرى، ومواعظُ بليغة أكثر من أن تحصى. ومن أبرز ما يعلّمنا الإسراء والمعراج أنّ للمحن والمصائب حِكمًا جليلة، منها إنّها تسوق أصحابها إلى باب الله تعالى، وتلجئهم إلى طلب العون من الله. لا نلجأ إلى بشرّ يستغلّنا ويتبجّح علينا ويعتقد أنّ ناصيتنا بيده، وإنّما نتوجّه إلى الله عزّ وجلّ. ﴿أَمَّن يُجِيبُ ٱلْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ ٱلسُّوء وَيَجْعَلُكُمْ حُلَفَاء ٱلأرْضِ﴾[النمل:62]
يعلمنا الإسراء والمعراج إنّه لا ينبغي أن تصدّنا المحن والعقباتُ عن متابعة السّير في استقامة وثبات، ويعلّمنا إنّه مادام الله هو الآمر فلا شك إنّه هو الضّامن والحافظ. فهل نحن ممّن يتعلّم من الدّين ويستفيد من سيرة سيّد المرسلين؟ هل ترانا اليوم في ظلّ ما نعيشه من ابتلاءات الدّنيا بصدد التّعويل على العبر التي أغنى بها الإسلام حياتنا؟ أتدرون ماذا حلّ بنا في هذه المحن؟ هل تشعرون بحجم تداعيات صرف اهتمام العربّ والمسلمين كلّ قطر بمحنته وكلّ شعبه بهمّه وغمّه؟ نُسِيَت بيت المقدس وخرجت فلسطين من خانة الأولويّات وأصبح وعي المواطن العربّي مصروفا عن أولى القبلتين وثاني الحرمين الشرّيفين. بل ها أنّ الأمّة تفكّكت أوصالها وتمزّقت أراضيها واختلطت الأوراق فيها على كلّ نحو ومن كلّ جانب، وراحت الكثير من الدول الإسلاميّة تطلب موالاة الغربّ والتّحالف معهم، ولكن ضدّ من؟ ضد المسلمين وضدّ دول إسلاميّة كانوا ينضوون معهم تحت الحكم نفسه ويحتمون ببعضهم بعضا تحت الرّاية نفسها. لقد انسقنا فرادى وجماعات، حكّاما ومحكومين وراء مشاكلّ الدّنيا التي لا تنتهي ولا تتراجع.
لقد انغمسنا في صراعات داخليّة وانزلقنا في مستنقع الطّائفية والمذهبيّة المقيتة. لم يعد لدينا أولويّات إيمانيّة وقضايا الأمّة المصيريّة. كلّ ما نبحث عنه لا يزيد عن أمتعة الحياة، وحبّ السّلطة والتّهافت على الشّهوات والتجرّؤ على الدّين وثوابته.
أيّها المؤمنون الكرام: هل نحن بصدد إدراك حجم الأخطار المحدقة بنا أم لا نرى أبعد من موقعنّا ومن ذواتنا ولا نراعي سوى مصالحنا الفرديّة، هذا إن لم نتسبّب في إذاية غيرنا وتعطيل ما يعود بالنفع عليه وعلى الجميع؟ هل أُدْرك فعلا حقيقة هذا الأمر، وأنا الذي أتقلّد مسؤولية القرار؟ هل أضع في اعتباري كطبيب حالة المريض ووضع المجتمع الذي ليس في أحسن حال؟ هل تشغلني الحالة الهشة للاقتصاد والمجتمع فأحرص على الإسهام، في تحسينها من موقعي سواء كنت عاملا أو حرفيا أو صاحب رأس مال أو مستثمر؟ هل المهندس في بلادي والمربّي والتّاجر والفلاّح والموظّف والنّجّار والوزير والمدير وكلّ مسؤول، وهم كثر، يستشعرون أهمّية الاستقامة على الحقّ وأهمّية الاستلهام من الدّين ومن سيرة سيّد المرسلين في مواجهة التحدّيات والمحن التي ابتلينا به من الدّاخل والخارج؟ هل نضع مصلّحة البلاد والعباد في اعتبارنا، إيمانا منّا بدورنا في إصلّاح ما فسد ويقينا بأنّ حاجة الآخرين إلينا لا تقلّ عن حاجتنا إليهم؟ لماذا يصرّ بعض النّاس، اليوم، على جعل أوضاعنّا أصعب؟ لماذا يوجد من لا يفكّر سوى في نفسه وفي نفع ذاته، حتى يبلغ به الأمر إلى أن يلحق الضّرر بالمجتمع، لدفع الضّرر عن نفسه؟ أتدرون ما كان موقف المصطفى، صلّى الله عليه وسلّم، حين عرض عليه مَلَكُ الجبال أمره بإطباق الأخشبين على قومه، وهو تحت وطأة المعاناة والشّعور الأليم بالظّلم وثقل المحنة التي يمرّ بها؟.. قال صلّى الله عليه وسلّم: «بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللهُ مِنْ أَصلّابِهِمْ مَنْ يَعبدالله وَحْدَهُ لا يُشرّكُ بِهِ شَيْئًا«.[9]
أيّها المؤمنون الكرام: ألا يحدونا الأمل في تغيير واقعنّا وتنوير شبابنا والأخذ بأيديهم، كي تكون الأجيال القادمة أفضلَ حالا منّا؟ إذا كانت هذه بعض أهدافنا، فَلْنفكّرْ، حقيقة، فيهم ولنعمل، فعلا، من أجلهم، ولنضاعف اهتمامنا بالبناء ولنتخلّ عن منطق: «ما أحوزه لنفسي أفضل من أن يتمتّع به غيري«. لِنعملْ من أجل البلاد والعباد، لعلّنا بذلك نسهم في إرساء سبل الصلّاح والرّشاد لأمّتنا ولأبنائنا. قد يقول قائل: "وما حجم تأثيري في كلّ ما يحدث، وأنا لا أملك جاها ولا أحوز سلطة أو قدرة ولا إمكانات مادّيّة تساعدني على ذلك؟ ألم نقل، منذ البداية، يعلّمنا الإسراء والمعراج أن للمحن والمصائب حِكمًا جليلة، منها إنّها تسوق أصحابها إلى باب الله تعالى؟ قد يراودك الإحساس بالتّقصير في بذل الجهد، لكثرة العوائق، وقد تشعر بأنّ نصيحتك أو عملك لم يبلّغاك ما كنت تنتظره منهما. لكن اعلم أنّ الله، سبحانه وتعالى، لم يكتب علينا بلوغَ التّمكين؛ إنما أمرنا بإفراغ الطّاقة في العمل المشرّوع والمقدور عليه. هذه القاعدة تجعلُك تتذكَّر أن لله حِكمةً بالغة في كلّ شيء، وتنبِذ النّظرة المادّيّة المفرطة، التي تجعلك تتوهَّم التّلازمَ بين الدعوة والتمكين. فالمسار الصّحيح هو أن تعمل، وتبذل جهدك فيما تقدر عليه، ولا تضيّع وقتك فيما تَعجِز عنه. فمنزلتُك عند الله على قَدْر سعيك.
لِنهجرْ أساليب التّمويه والخداع وادّعاء الفطنة والحرص الذي لا يقيم اعتبارا إلاّ لما نجنيه من أربّاح وما نغنمه من فوائد، مهما كانت عواقب ذلك وتداعياته على الآخرين، سواء كانوا أفرادا أو جماعات. وَلْنُقِرَّ بأنّ التّجارة الموازية هدم لكيان المجتمع، وبأنّ التّهريبَ إفساد لأحوال المجتمع. أمّا الرّشوة والتحيّل، واستغلال السّلطة، والغشّ في المعاملات، والتّقاعس في العمل فهي أمور لا تصنّف إلاّ في خانة أمراض المجتمع المزمنة. فإن لم نتعلّم من السّيرة النبويّة ومن دروس الإسراء والمعراج، ولم نعقد العزّم على مواجهتها، فلا سبيل إلى التّخلّص منها. وعدم سعي الإنسان إلى مقاومة هذه الآفات يعتبر دليلا على إنّه أبعدُ ما يكون عن العبادة التّعاملية مهما كان حجم عباداته الشّعائرية.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كلّ ذنب فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرّحيم ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم.
الخطبة الثّانية
الحمد لله الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وفضّله واصطفاه وخصّه من المواهب بما لا يوصف ولا يستقصى. أحمده وأشكره على ما أظهر من عجيب آياته لسيّد الأنام ﴿لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ ربّهِ الْكُبْرَى﴾ [النجم:18]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، ذو الفضل والجلال والإكرام، وأشهد أنّ سيّدنا ومولانا محمّدا عبده ورسوله خاتم الرّسل الكرام. اللّهمّ صلّ وسلّم على سيّدنا محمّد وعلى الآل والأصحاب والأتباع والأحباب ﴿لِّلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَٰذِهِ الدّنيا حَسَنَةٌ ۚ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ ۚوَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ﴾[النحل: 30]
أمّا بعد، أيّها المؤمنون الكرام، فيقول عزّ من قائل:﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا ۚ إنّه هُوَ السّميع الْبَصِيرُ﴾[الإسراء:1] فقد جاءت رحلة الإسراء والمعراج لتربّط بين المسجد الحرام في مكّة، والمسجد الأقصى في القدس، حيث انطلقت هذه الرحلة المباركة من البيت الحرام بمكّة وانتهت إلى المسجد الأقصى من الأرض المباركة.
وفي هذا الربّط دلالة على منزلة هذين المسجدين، وما يحيط بهما من أرض مباركة شهدت مبعث النُّبُوّات ومهبط الوحي ومهدَ الرسالات. ولهذا كان المسجد الأقصى القبلة الأولى التي لا تُنسى بالنسبة إلى المسلمين، وكان المسجد الحرام القبلة الدائمة التي يتوجّهون إليها كلّ يوم، ويحجّون إليها كلّ عام.
وإذا كان المسلمون يتوجّهون في صلّاتهم، كلّ يوم، خمسَ مرّات لأداء الصلّاة المكتوبة، فمن المهمّ أن يدركوا إنّها عماد الدّين، وأنّ الله فرضها من فوق سماء بيت المقدس الّتي هي بوّابة الأرض إلى السماء. وفي هذه الفريضة اليوميّة
تذكير لهم بأهمية المسجد الأقصى ومكانته في عقيدتهم. عن أَبِي هُرَيْرَةَ أنّ النبيّ، صلّى الله عليه وسلّم، قال:«لَا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلَاثَةِ مَسَاجِدَ مَسْجِدِي هَذَا وَمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَسْجِدِ الْأَقْصَى« [10]،عن مَيْمُونَةَ، مَوْلَاةَ النبيّ ﷺ قَالَتْ:»يَا نبيّ اللهِ، أَفْتِنَا فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ« فَقَالَ: »أَرْضُ الْمَنْشرّ، وَالْمَحْشرّ، ائتُوهُ فَصلّوا فِيهِ، فَإِنَّ صلّاةً فِيهِ كَأَلْفِ صلّاةٍ فِيمَا سِوَاهُ«، قَالَتْ: »أَرَأَيْتَ مَنْ لَمْ يُطِقْ أَنْ يَتَحَمَّلَ إِلَيْهِ، أَوْ يَأْتِيَهُ« قَالَ: »فَلْيُهْدِ إِلَيْهِ زَيْتًا يُسْرَجُ فِيهِ، فَإِنَّ مَنْ أَهْدَى لَهُ كَانَ كَمَنْ صلّى فِيه« [11]. وإنّ إتيان المسجد الأقصى، بقصد الصلّاة فيه، يُكفّر الذنوب ويحطّ الخطايا، فقد طلب سليمان عليه السلام من ربّه لَمَّا فَرَغَ مِنْ بِنَاءِ بَيْتِ الْمَقْدِسِ»أَلاَّ يَأْتِيَ هَذَا الْمَسْجِدَ أَحَدٌ لاَ يُرِيدُ إِلاَّ الصلّاَةَ فِيهِ؛ إِلاَّ خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ«[[12] أيها المؤمنون الكرام: إنّ حادث الإسراء والمعراج لَيَضَع في أعنّاق المسلمين في كلّ أنحاء العالم أمانة القدس الشرّيف، وإنّ التّفريط فيه تفريط في دين الله، وسيَسأل اللهُ المسلمين عن هذه الأمانة لِمَ فرّطوا في حقها وتقاعسوا عن نصرتها. وعلى كلّ مسلم أن يعرف قدر المسجد الأقصى المبارك، وأن يرتبط به ارتباط إيمان وحبّ، مدافعًا عن طهره ومنافحًا عن كرامته، ما استطاع إلى ذلك سبيلا. قال عبدالله بن عمر رضي الله عنهما: «بيت المقدس بنته الأنبياء وعمرته، وما فيه موضع شبر إلا وقد سجد عليه نبيّ أو قام عليه ملَك«، وهذا سرّ بقاء هذا المكان الطّاهر صامدا شامخا أبيّا على الرغم من المحن التي عصفت وتعصف بأهله وساكنيه، من تضييق الأرزاق وكثرة الانتهاكات والاعتداءات من اليهود ومن غير اليهود.
واتقو الله الذي أنتم به مؤمنون ﴿إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ﴾[النحل:128].عبادَ الله: يقول الله ولم يزل قائلا عليما ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصلّونَ عَلَى النبيّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صلّوا عَلَيْهِ وسلّموا تَسْلِيمًا﴾[الأحزاب:56]
اللّهمّ صلّ وسلّم عَلَى سيّدنا محمّد وَعَلَى آلِ سيّدنا محمّد، صلّاة وسلاما دائمين متلازمين إلى يوم الدّين، وَارْضَ اللّهمّ عَنْ المؤمِنِين وَالمؤمِنَاتِ، وَعنّا مَعَهُمْ بِرَحْمَتِكَ، يَا أرحم الرّاحمين.
اللّهمّ اجْعَلْ جَمْعنّا هَذَا جَمْعًا مَرْحُومًا، وَاجْعَلْ انتشارنَا مِنْ بَعْدِهِ انتشارا مَعْصُومًا، وَلا تَدَعْ فِينا وَلا مَعنّا شَقِيًّا وَلا مَحْرُوْمًا. اللّهمّ إنّا نَسْأَلُكَ الهدى وَالتُّقَى وَالعَفَافَ وَالغِنَى.
اللّهمّ إنّا نَسْأَلُكَ أَنْ تَرْزُقَ كلًّا مِنَّا لِسَانًا صَادِقًا، وَقَلْبًا خَاشِعًا، وَعَمَلًا صَالِحًا، وَعِلْمًا نَافِعًا، وَإِيْمَانًا رَاسِخًا، وَرِزْقًا طَيِّبًا وَاسِعًا، يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ.
اللّهمّ أَعزّ الإِسْلاَمَ وَالْمُسْلِمِين، وَوَحِّدِ اللّهمّ صُفُوْفَهُمْ، وَاجْمِعْ كلّمَتَهُمْ عَلَى الحَقِّ، وَاكْسِرْ شَوْكَةَ الظَّالِمِينَ، وَاكْتُبِ السَّلاَمَ وَالأَمْنَ لِعِبادِكَ أَجْمَعِينَ، يا أرحم الرّاحمين يا ربّ العالمين.
اللّهمّ يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ يَا ذَا الجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ، لاَ إله إِلاَّ أَنْتَ سبحانك بِكَ نَستَجِيرُ، وَبِرَحْمَتِكَ نَستَغِيثُ أَلاَّ تَكلّنَا إِلَى أَنفُسِنَا طَرفَةَ عِينٍ، وَلاَ أَدنَى مِنْ ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ، وأصلح لَنَا شَأْنَنَا كلّهُ يَا مُصلّحَ شَأْنِ الصَّالِحِينَ.
اللّهمّ ربّنَا احْفَظْ أَوْطَانَنَا وَأَعزّ سُلْطَانَنَا وَأَيِّدْهُ بِالْحَقِّ وَأَيِّدْ بِهِ الْحَقَّ يَا ربّ العَالَمِين، اللّهمّ أَسْبِغْ عَلَيْهِ نِعمَتَكَ، وَأَيِّدْهُ بِنُورِ حِكْمَتِكَ، وَسَدِّدْهُ بِتَوفِيقِكَ، وَاحفَظْهُ بِعَينِ رِعَايَتِكَ.
اللّهمّ أَنْزِلْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِ السَّمَاء وَأَخْرِجْ لَنَا مِنْ خَيْرَاتِ الأَرْضِ، وَبَارِكْ لَنَا في ثِمَارِنَا وَزُرُوْعنّا وكلّ أَرزَاقِنَا يَا ذَا الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ. ربّنَا آتِنَا في الدّنيا حَسَنَةً وَفي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ.
اللّهمّ اغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِين وَالْمُؤْمِنَاتِ، َالْمُسْلِمِين وَالْمُسْلِمَاتِ، الأَحْيَاء مِنْهُمْ وَالأَمْوَات، إنّك سَمِيع قَرِيبٌ مُجِيبُ الدُّعَواتِ.
اللّهمّ اخْصُصِ وَالدّينا بِالْكَرَامة لَدَيْكَ، اللّهمّ اخْصُصْ آباءنا وأمّهاتنا بِأَفْضَلِ مَا خَصَصْتَ بِهِ آبَاءَ عِبَادِكَ الْمُؤْمِنِينَ وَاُمَّهَاتِهِمْ يَا أرحم الرّاحمين. اللّهمّ لاَ تُنْسِنِا ذِكْرَهُمْ فِي أَدْبَارِ صلّوَاتِنا وَفِي كلّ آنٍ مِنْ آناءِ لَيْلنا، وَفِي كلّ سَاعَة مِنْ سَاعَاتِ نَهَارِنا، اللّهمّ خَفِّض لَهُم أصواتنا، وَأَطِبْ لَهُم كلّاَمَنا، وَأَلِنْ لَهُم عَرِيكتنا، وَاعْطِفْ عَلَيْهِم قَلوبنا، وَصَيِّرْنِا بِهِم رُفقاء، وَعَلَيْهِم شَفقاء. اللّهمّ اشْكُرْ لَهُم تَربّيَتنا وَأَثِبْهُم عَلَى تَكْرِمَتِنا، وَاحْفَظْ لَهُم مَا حَفِظوهُ مِنِّا فِي صِغَرِنا. سبحان ربّك ربّ العزّة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله ربّ العالمين.
التديّن الحقيقي
الخطبة الأولى
الحمدُ لِلَّهِ ربّ العالَمِينَ، الذي أَحاطَ بِكلّ شيءٍ عِلْمًا ووَسِعَ كلّ شيءٍ حِفْظًا، وأَحاطَ بِكلّ شيءٍ سُلْطانه ووَسِعَتْ كلّ شيءٍ رحمتُهُ ﴿وَلاَ تُفْسِدُواْ فِى ٱلأرْضِ بَعْدَ إِصلّاٰحِهَا وَٱدْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ ٱللَّهِ قَرِيبٌ مّنَ ٱلْمُحْسِنِين﴾[الأعراف:56].اللّهمّ لكَ الحمدُ على حِلْمِكَ بَعْدَ عِلْمِكَ، ولكَ الحمدُ على عَفْوِكَ بَعْدَ قدرتِكَ. وأشهدُ أنْ لا إله إلاَّ اللهُ وحده، لا شريك له، العزّيزُ الغفّارُ، وأشهدُ أنَّ سيّدنا محمّدا عبدُهُ ورسولُهُ، أَفْضَلُ خَلْقِ اللهِ، أَكْمَلُ رُسُلِ اللهِ، خاتَمُ النبيّينَ وإمامُ المرسَلينَ. اللّهمّ صلّ وسلّم وبارِكْ عليهِ وعلى آله وأصحابِه ومن تبعه، بإحسان، إلى يوم الدّين.﴿فَأُولَٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾[40:غافر]
أيّها المؤمنون الكرام، يُروى عن عُمَر الْفَارُوق رضي الله عنه إنّه طَلَب مِن رَجُل أَن يَأْتِيَه بِمَن يَعْرِفه حَق الْمَعْرِفَة لِيِضمنه فِي مَسْأَلَة، فَلَمَّا جَاءَه بِالْرَّجُل ابْتَدَرَه الْفَارُوق سَائِلًا: «أَنْت جَارُه الأَدْنَى؟» قَال: «لا»، قَال: «إِذَن فَقَد رَافَقَتْه فِي سَفَر؟» قَال:«لا»، قَال: «فَلَعَلَّك عَامَلْتَه بِالدّرهْم وَالدّينار؟» قَال: «لا»، قَال:«إِذَن فَلَعَلَّك أَبْصَرْتُه فِي الْمَسْجِد يَرْفَع رَأْسَه تَارَة وَيَخْفِضُه تَارَة »؛ قَال: «نَعَم»، قَال: «اذْهَب فَإنّك لا تَعْرِفُه»[13].فماذا قصد الفاروق بقوله؟ لماذا قال للرّجل إنّك لا تعرفه؟
أراد الفاروق بكلّماته البسيطة أن يقدّم لنا حلولا مناسبة لمشكلّة التّدين، في عصرنا الحاضر، والتي تتجلّى في الصّراع بين الجوهر الروحيّ والخلقيّ الذي يمثّل حقيقة الإسلام وصفاءه، وبين المظاهر الشّكلّية الخارجيّة التي تصلّح أمارة وعلامة فقط على أنّ هذا الإنسان ينتمي إلى الإسلام ويمارس شعائره. فإذا لم يلحظ النّاس الفرقَ بين التّاجر المتديّنِ والتّاجرِ غير المُتديّن فما فائدة التّدينِ إذًا؟ وإذا لم تلحظ الزّوجةُ الفرقَ بين الزّوجِ المُتديّنِ والزّوجِ غير المتديّن، فما قيمة هذا التّديّن. والعكس بالعكس! وإذا لم يلحظ الأبوان الفرق بين برِّ الولد المُتدَيّنِ وغير المُتدَيّنِ فلماذا هذا التّديّن؟!
لقد أراد عمر، رضي الله عنه، أن يضع قواعد المعاملة بين النّاس، ملحّا على ضرورة عدم الانخداع بالمظاهر. كما أراد أن يجْعَل الْمُعَامَلَة مِعْيَار الحكم على أقدار النّاس، وليست المظاهر التعبّديّة التي قد يتظاهر بها ضعاف الإيمان، والّتي لا يمكن أن تقدّم الحكم الصّحيح عنهم، يقول تعالى:﴿وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصلّاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النّاس وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلًا﴾ [النساء:142].
لا شكّ أن التزام المسلم بإقامة الصلّاة في أوقاتها وصيام رمضان وأداء الزكاة... وسائر العبادات الشّعائريّة فيه من الجهد ومخالفة أهواء النفس وشهواتها ما لا يمكن أن يجادل فيه مسلم عاقل. إلا أنّ العبادة الأصعب - حسب واقع الحال - هو ترجمة أثر هذه العبادات إلى واقع في سلوك النّاس، وإظهار النّتائج من تلك العبادات في معاملاتهم وقضائهم ومجتمعهم، وتجسيّد مقاصد الشّريعة الإسلاميّة المكنوزة في الفرائض الشعائريّة، واقعا وسلوكا على أرض الواقع المعيش.
أيها المؤمنون: أتدرون لماذا نشهد، اليوم، ما نشهده من انحرافات وفقدان الثّقة وسوء المعاملة والتحيّل وأشكال الظّلم الفرديّ والاجتماعيّ وأنواع الفساد في شتّى المجالات؟ نجد كلّ ذلك، وأكثر، لأنّنا لا نجد إسلام المسلم في بيته، ولا في دُكَّانه، ولا في معمله، ولا في مكتبه، ولا في طريقه، لا نجد إسلام المسلم في سلوكه وممارسته وفي حياته... لأنّ الكثيرين يفصلّون بين عبادتهم ومعاملاتهم، ويجعلون من العبادة طقوسا مجرّدة وشعائر معلّقة لا تأثير لها في حياتهم، فيجعلون سلوكهم ومعاملاتهم بعيدة، كلّ البعد، عن إيمانهم. وإذا عدنا إلى كلّام الله عزّ وجلّ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا ربّكم وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ [الحج:77]، أدركنا أنّ نداء الله تعالى للمؤمنين يحضّهم على الإقبال عليه، سبحانه، بأعمال العبادات والمعاملات، في تلازم بينها وتكامل. فكيف نستطيع أن نقطف ثمار الدّين إذا لم يوجد تطابق بين قواعد عباداتنا وركائز إيماننا وبين ممارساتنا وأعمالنا؟ كيف يستقيم أمر ديننا إذا لم نجد انسجاما بين قولنا وفعلنا؟ ألم يمقت الله مخالفة الفعل للقول؟﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ﴾[الصفّ:2]
أيها المؤمنون: مدلول المعاملة واسع يشمل كلّ علاقات المسلم ومجالات تديّنه والتزامه، وهي بذلك تتضمن مقاصد الحديث النبويّ: «الدّين النّصيحة»[14]. والنّصيحة: إخلاص والتزام وإحسان في كلّ الأعمال والمعاملات: في علاقة المسلم بربّه فيجعل وجوده كلّه لله عبودية وعبادة:﴿قُلْ إِنَّ صلّاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ ربّ الْعَالَمِينَ لا شريك له وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ﴾[الأنعام: 162]
والدّين المعاملة في علاقة المسلم بالنّاس وسائر الخلق، ولذلك جعل النبيّ الكريم حسن المعاملة والعلاقة مع الآخرين من كمال الإيمان، فقال ﷺ «مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يُؤْذِ جَارَهُ، وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَه،ُ وَمَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أَوْ لِيَصْمُتْ»[15]وقال صلّى الله عليه وسلّم:«إنّكم لن تَسَعُوا النّاس بأموالكم ولكن يسعهم منكم بسط الوجه وحسن الخلق»[16].
وعن أَنَسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ النبيّ - ﷺ - لَقِيَ رَجُلًا يُقَالُ لَهُ: حَارِثَةُ، فِي بَعْضِ سِكَكِ الْمَدِينَةِ، فَقَالَ: «كَيْفَ أَصْبَحْتَ يَا حَارِثَةُ؟ » قَالَ:: «أَصْبَحْتُ مُؤْمِنًا حَقًّا ».قَالَ:«إِنَّ لِكلّ إِيمَانٍ حَقِيقَةً، فَمَا حَقِيقَةُ إِيمَإنّك؟» قَالَ: «عزّفَتْ نَفْسِي عَنِ الدّنيا، فَأَظْمَأْتُ نَهَارِي، وَأَسْهَرْتُ لَيْلِي، وَكَأَنِّي بِعَرْشِ ربّي بَارِزًا، وَكَأَنِّي بِأَهْلِ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّةِ يَتَنَعَّمُونَ فِيهَا، وَكَأَنِّي بِأَهْلِ النَّارِ فِي النَّارِ يُعَذَّبُونَ ». فَقَالَ النبيّ - ﷺ -:« أَصَبْتَ فَالْزَمْ، مُؤْمِنٌ نَوَّرَ اللَّهُ قَلْبَهُ »[17].
تصوّروا مجتمعًا غالب رجاله ونسائه وشبابه وشيوخه على هذه الشاكلّة من التحلّي بمقام الإحسان ومكارم الأخلاق، ثم أخبروني عن الأمانة فيه، وعن النظافة فيه، وعن النظام فيه، وعن الدّقّة والإتقان فيه، وعن شوارعه ومبانيه، وعن العلم والتعليم فيه، وعن التطوّر والرّقيّ فيه، وعن ظاهره وباطنه، وعن كلّ كبيرة وصغيرة فيه، ثم ابحثوا عن تعبير وافٍ عن تلكم الحالة
الراقية، سترون إنّها كلّمة واحدة: هي الإحسان.
أيّها المؤمنون الكرام: لقد تبيّنّا وجوه التّلازم بين الإيمان والعمل، أو بين العبادة والمعاملة، فما مدى تمظهر التلازم بين العبادات والمعاملات، في واقعنّا الحاضر وفي حياتنا اليوميّة؟ نرجئ الإجابة عن ذلك إلى الخطبة الثانية، بإذن الله تعالى. أقول ما سمعتم، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كلّ ذنب فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرّحيم، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم.
الخطبة الثّانية
إن الحمد لله؛ نحمده، تعالى، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، وأشهد أن محمّدا عبده ورسوله.﴿َيا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُن إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُون﴾[آل عمران:102]﴿يَا أَيُّهَا النّاس اتَّقُوا ربّكم الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبا﴾[النساء:1]﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصلّحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾[الأحزاب:70-71]
أيّها المؤمنون الكرام: لو كان الدّين إيمانا وعبادة فحسب، دون اعتبار المعاملات، ما كان لدعوة النبيّ، صلّى الله عليه وسلّم، صدى ولا أثر في ونفوس النّاس وحياتهم، لذلك يثني القرآن الكريم على الرّسول، صلّى الله عليه وسلّم، لسموّ أخلاقه وفاعليّتها بينهم، وهي مناط الإقناع والتّأثير: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر﴾ [آل عمران:159].
أيّها المؤمنون الكرام: إذا ألغينا العبادات التّعامليّة أو أهملناها، وركّزنا على العبادات الشّعائريّة فقط، ما الذي يحصلّ؟ يحصلّ أن يُفرّغ الدّين من مضمونه ويُفْسَح المجال للأزمات والمشكلّات في واقع النّاس وتحلّ بينهم الفرقة ويتنافسون في طلب حطام الدّنيا، ويقعون في الحسد والغيبة والنّميمة وتصيبهم مشاعر اليأس، والقنوت، والقهر، والذّلّ، والحقد، وما إلى ذلك. فهل يخلو واقعنّا، اليوم، وما نعيشه في حياتنا من هذه المظاهر؟ أين نحن من تلازم العبادات والمعاملات؟ أين نحن من تطابق الأفعال مع الأقوال؟
أين تجلّيات الأخلاق التّعامليّة في أسواقنا وفي مؤسّساتنا؟ أين أثر العبادات في طرقنا وشوارعنّا وفي بيوعنّا وتجارتنا؟ أين تجلّيات الإسلام في صلّتنا بأرحامنا وفي علاقاتنا بأجوارنا وفي أخلاقنا وفي تربّية أبنائنا وفي أسرنا؟ كيف يرضى اللّه عن علاقات النّاس، وفيهم من ينهش الأعراض زورا وبهتانا وعدوانا وظلما، ومنهم من يشتري الضّمائر من أجل مغانم دنيويّة ومصالح زائلة؟
أيها المؤمنون: إذا لم يتجلّ التديّن في سلوك الإنسان ومعاملته، فاعلم إنّه مفلس كما في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ النبيّ، صلّى الله عليه وسلّم، قَالَ: «هَلْ تَدْرُونَ مَنْ الْمُفْلِسُ؟» قَالُوا: «الْمُفْلِسُ فِينَا، يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَنْ لَا دِرْهَمَ لَهُ وَلَا مَتَاعَ». قَالَ: «إِنَّ الْمُفْلِسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ يَأْتِي يَوْمَ القيامة بِصِيَامٍ وَصلّاةٍ وَزَكَاةٍ وَيَأْتِي قَدْ شَتَمَ عِرْضَ هَذَا، وَقَذَفَ هَذَا، وَأَكلّ مَالَ هَذَا، فَيُقْعَدُ ، فَيَقْتَصُّ هَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، وَهَذَا مِنْ حَسَنَاتِهِ، فَإِنْ فَنِيَتْ حَسَنَاتُهُ قَبْلَ أَنْ يَقْضِيَ مَا عَلَيْهِ مِنْ الْخَطَايَا أُخِذَ مِنْ خَطَايَاهُمْ فَطُرِحَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ طُرِحَ فِي النَّارِ»[18]
وعندما تفسد الأخلاق، تنقلب الموازين وتهتزّ المبادئ وتضطربّ القيم. ولتتخيّلوا مجتمعا وصلّ إلى هذه الدّرجة من سوء الأخلاق كيف سيغدو أبناؤه؟ تخيّلوا معاملات بين النّاس تقوم على الظّلم وعلى الغشّ وعلى الخداع وعلى الكذب؟ قلت لكم تخيّلوا مع أنّ الأجدى أن أقول لكم انظروا إلى مجتمعنّا... تأمّلوا في معاملاتنا وفي علاقاتنا... ألا تلاحظون كم تدنّت الأخلاق وكم انحرف الشباب وكم انتشرّ الظلم وكم كثر الخداع والكذب؟ وكم أصابنا من الآفات والاختلالات التي تذهل العقل، لسرعة تفشّيها وتكاثرها وهول ما نجنيه منها، وتذكّروا ماذا قال ﷺ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ الله عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم:«تَأْتِي عَلَى النّاس سَنَواتٌ خَدَّاعَاتٌ، يُصَدَّقُ فِيهِنَّ الكَاذِبُ، وَيُكَذَّبُ فِيهِنَّ الصَّادِقُ، وَيَخُونُ فِيهِنَّ الأَمِينُ، وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الخَائِنُ، وَيَنْطِقُ فِيهِنَّ الرُّوَيْبِضَةُ.قَالَ الرَّجُلُ: يَا رَسُولَ اللهِ وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ؟ قَالَ الرَّجُلُ التَّافِهُ يَتَكلّمُ فِي أَمْرِ العامّة »[19].
أفلا نرى، اليوم، أناسا يصدّقون الكاذب؟ ألا نرى من النّاس من يخوّن المؤتمن؟ ألا نرى الكثير من الأدعياء الذي ينطقون في كلّ شيء ويتحدّثون عن أيّ شيء، كإنّهم يعرفون ويمهرون دونا عن غيرهم من النّاس وأوتوا من العلم ما لا قبل للناس به؟ ألم تروا مأساتنا في أخلاقنا ومصابنا في معاملاتنا؟ فللهّ الأمر من قبل ومن بعد، ولا حول لا قوّة إلاّ بالله.
واتقوا الله الذي أنتم به مؤمنون ﴿إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ﴾ [النحل:128]. عباد الله يقول الله ولم يزل قائلا عليما ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصلّونَ عَلَى النبيّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صلّوا عَلَيْهِ وسلّموا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب:56]
اللّهمّ صلّ وسلّم وبارك على نبيّنا محمّد، وارضَ اللّهمّ عن أزواجه وآل بيته الطيّبين الطّاهرين، وعن خلفائه الرّاشدين، وعن الصّحابة أجمعين، وعن التّابعين ومن تبعهم، بإحسان، إلى يوم الدّين، وارض عنّا معهم، بمنّك ورحمتك، يا أرحم الرّاحمين
اللّهمّ ازرع حبَّك في قلوبنا لنرى النّور في دروبنا، واغفر ذنوبنا وناد في الملأ إنّك تحبّنا لنعيش أعزّاء ونحيا سعداء، ونُكتب شهداء ونبعث سعداء.
اللّهمّ اهدنا فيمن هديت، وعافنا فيمن عافيت، وتولّنا فيمن تولّيت، وبارك لنا فيما أعطيت، وقنا واصرف عنّا شرّ ما قضيت، سبحانك تقضي ولا يقضى عليك. إنّه لا يَذّلّ من واليت ولا يَعزّ من عاديت، تباركت ربّنا وتعاليت، فلك الحمد يا الله على ما قضيت، ولك الشّكر على ما أنعمت به علينا وأوليت. نستغفرك يا ربّنا من جميع الذّنوب والخطايا، ونتوب إليك، ونؤمن بك ونتوكلّ عليك. اللّهمّ يا ذا الجلال والإكرام، يا بديع السّماوات والأرض، يا حيّ يا قيّوم، ارفع الضّرّ عن إخواننا في غزّة، وسلّم أنفسهم وأهليهم وأموإلهم وديارهم من الصّهاينة أعدائك وأعداء الدّين، اللّهمّ ادفع عنهم هذا البلاء الذي لا يدفعه سواك، اللّهمّ ارحم موتاهم، واشف مرضاهم وجرحاهم، واربّط على قلوبهم صغارًا وكبارًا رجالًا ونساءً فلا يقولون إلا ما يرضيك، ولا يفعلون إلا ما تحب. اللّهمّ اجبر مصيبة من أصيب منهم بشيء في بدنه أو أهله أو ماله، وتفضّل عليه بالخلف العاجل، والخير المدرار. اللّهمّ استرنا فوق الأرض وتحت الأرض. وأحسن وقوفنا بين يديك، ولا تخزنا يوم العرض عليك. اللّهمّ أحسن عاقبتنا في الأمور كلّها وأجرنا من خزي الدّنيا وعذاب الآخرة، اللّهمّ منّا الدّعاء ومنك الإجابة وصلّى اللّهمّ على سيّد الخلق أجمعين، سيّدنا ومولانا محمّد رسول الله. سبحان ربّك ربّ العزّة عما يصفون، وسلام على المرسلين والحمد لله ربّ العالمين.
الفجور في الخصومة
الخطبة الأولى
الحمد لله المبدِئ المعيد، الفعّال لما يريد، أنزَلَ القرآن المجيد فيه وعدٌ ووعيد وتَرغيبٌ وتهديد، ﴿لاَ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ [فصلّت:42]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، شهادةً أرجو بها النّجاةَ مِنَ الوعيد، وأشهد أنَّ محمّدا عبدالله ورسوله بشرّ الرّشيدَ، وحذَّر العنيدَ، ودلَّ على كلّ أمرٍ حميد، فصلّوات الله وسلامه عليه، وعلى آله الطيّبين الطّاهرين، وعلى أصحابه الغرِّ الميامين، وعلى التّابعين ومن تبِعهم،بإحسان، إلى يوم الدّين ﴿لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ ربّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالدّين فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾ [آل عمران:15]
أمّا بعد، فأيّها المؤمنون الكرام، يُروى أنّ أَهْلَ الكُوفَةِ شَكَوْا سَعْدًا إلى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عنْه، فَعزّلَهُ، واسْتَعْمَلَ عليهم عَمَّارًا، فَشَكَوْا حتَّى ذَكَرُوا إنّه لا يُحْسِنُ يُصلّي، فأرْسَلَ إلَيْهِ، فَقالَ: يا أَبَا إسْحَاقَ إنَّ هَؤُلَاءِ يَزْعُمُونَ إنّك لا تُحْسِنُ تُصلّي، قالَ أَبُو إسْحَاقَ: أَمَّا أَنَا واللَّهِ فإنِّي كُنْتُ أُصلّي بهِمْ صلّاةَ رَسولِ اللَّهِ ﷺ ما أَخْرِمُ عَنْهَا... قالَ: ذَاكَ الظَّنُّ بكَ يا أَبَا إسْحَاقَ. فأرْسَلَ معهُ رَجُلًا أَوْ رِجَالًا إلى الكُوفَةِ، فَسَأَلَ عنْه أَهْلَ الكُوفَةِ ولَمْ يَدَعْ مَسْجِدًا إلَّا سَأَلَ عنْه، مَعْرُوفًا، حتَّى دَخَلَ مَسْجِدًا لِبَنِي عَبْسٍ، فَقَامَ رَجُلٌ منهمْ يُقَالُ له أُسَامة بنُ قَتَادَةَ يُكْنَى أَبَا سَعْدَةَ قالَ: أَمَّا إذْ نَشَدْتَنَا فإنَّ سَعْدًا كانَ لا يَسِيرُ بالسَّرِيَّةِ، ولَا يَقْسِمُ بالسَّوِيَّةِ، ولَا يَعْدِلُ في القَضِيَّةِ، قالَ سَعْدٌ: أَما واللَّهِ لَأَدْعُوَنَّ بثَلَاثٍ: اللّهمّ إنْ كانَ عَبْدُكَ هذا كَاذِبًا، قَامَ رِيَاءً وسُمْعَةً، فأطِلْ عُمْرَهُ، أَطِلْ فَقْرَهُ، وعَرِّضْهُ بالفِتَنِ. وكانَ، بَعْدُ، إذَا سُئِلَ يقولُ: شيخٌ كَبِيرٌ مَفْتُونٌ، أَصَابَتْنِي دَعْوَةُ سَعْدٍ، قالَ عبدُ المَلِكِ: فأنَا رَأَيْتُهُ بَعْدُ، قدْ سَقَطَ حَاجِبَاهُ علَى عَيْنَيْهِ
مِنَ الكِبَرِ، وإنّه لَيَتَعَرَّضُ لِلْجَوَارِي في الطُّرُقِ يَغْمِزُهُنَّ»[20].
لقد اقتضت سنّة الله، عندما خلق البشرّ، أن يكون بينهم اختلاف وتباين في المواقف والأفكار والتّصوّرات والطّبائع والأعمال والأفهام... وأن ينتج عن هذا الاختلاف والتّباين نزاعات وخصومات، ومشاحنات وعداوات. ولكن من رحمة الله أنّ الإسلام عالج الخصومات والعداوات بين النّاس، إذا وقعت بينهم، بالرّجوع إلى الحقّ ومراقبة الله وتذكّر الثّواب والعقاب والعفو والتّسامح والصلّح وإقامة العدل﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْربّ لِلتَّقْوَى﴾[المائدة: 8] وكان النبيّ، صلّى الله عليه وسلّم، يسأل ربّه أن يوفّقه للحقّ والعدل، حتى في حال الغضب، لكي لا يظلم أحدا، وهو بذلك يعلّم أمّته ويربّيها على هذه القيم، حتى لا تنحرف عن الصّراط المستقيم، فكان يقول في دعائه: »اللّهمّ إِنِّي أسأَلُكَ كلّمَةَ الْحَقِّ فِي الرِّضَا والغضَبِ، وأسألُكَ القصدَ في الفقرِ والغِنَى« [21]
وإذا اقتضت سنّة الله أن تحدث بين النّاس خصومات ونزاعات وعداوات بسبب أهوائهم ورغباتهم
ومشاكلّهم، فإنّه من غير المقبول، شرّعًا، أن يتجاوز الفرد أو الجماعة في خصومته الحقّ والعدل.فقد يختلف أحدنا مع أخيه ويخاصمه في قضيّة ما، لكن هذا لا يجعله يكذب عليه أو يظلمه أو يقول عليه ما ليس فيه أو يطعنه في عرضه، أمام مرأى ومسمع من النّاس. قال تعالى:﴿وَمِنَ النّاس مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدّنيا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ﴾[البقرة:204]، وقال صلّى الله عليه وسلّم: »إنَّ أبغضَ الرجال إلى الله الألدُّ الخَصِمُ« [22]وقال ﷺ «مَنْ أَعَانَ عَلَى خُصُومَةٍ بِظُلْمٍ أَوْ يُعِينُ عَلَى ظُلْمٍ، لَمْ يَزَلْ فِي سَخَطِ اللهِ حَتَّى يَنْزِعَ»[23].
أيّها المؤمنون الكرام: الفاجر في الخصومة، من خلال ما نشاهده في حياتنا الاجتماعيّة والسياسيّة، هو من يَعلم أن الحقَّ ليس معه فيجادل بالباطل، يسبق لسانه عقلَه وطيشُه حلمَه وظلمُه عدله. لسانه بذيء وقلبه دنيء، يتلذّذ بالتّهم والتّطاول والخروج على المقصود. والفاجر في الخصومة قلبه مليء بالحقد والحسد وسوء الظّن بمن حوله، وتراه متشنّجا متوتّرا. وبسبب هذه الخصال المجتمعة فيه، ينال مقت الله وغضبَه في الدّنيا قبل الآخرة. عن عبدالله بن عمر قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «مَن خاصمَ في باطلٍ وَهوَ يعلمُهُ، لم يزَلْ في سَخطِ اللَّهِ حتَّى ينزِعَ عنهُ، ومَن قالَ في مؤمنٍ ما ليسَ فيهِ أسكنَهُ اللَّهُ رَدغةَ الخبالِ (وهي عصارة أهل النار)؛ حتَّى يخرجَ مِمَّا قالَ» [24].
عباد الله: ما أحوجنا، جميعا: أفرادا وجماعات، أحزابا وتنظيمات، إلى أن يدافع كلّ واحد عن حقوقه المشرّوعة بطريقة مشرّوعة، واضعا نصب عينيه العدالة مع الخصم حتى لا يفقد توازنه ويخرج عن الأدب الشرّعيّ الذي أمره الله به. اللّهمّ آت نفوسنا تقواها، وزكّها أنت خير من زكّاها، أنت وليّها ومولاها.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كلّ ذنب فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرّحيم. ولاحول ولا قوّة إلاّ بالله العليّ العظيم.
الخطبة الثانية
إن الحمد لله؛ نحمده، تعالى، ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، لا شريك له، وأشهد أن محمّدا عبده ورسوله..﴿يَا أَيُّهَا النّاس اتَّقُوا ربّكم الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبا﴾[النساء:1]﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصلّحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا
أمّا بعد، أيّها المؤمنون الكرام، فعنِ الزُّبَيرِ بنِ العَوَّامِ قال: لمَّا نزَلَتْ هذه السورَةُ على رسولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم:﴿إنّك مَيِّتٌ وَإنّهمْ مَيِّتُونَ ثُمَّ إنّكمْ يَوْمَ القيامة عِنْدَ ربّكم تَخْتَصِمُونَ﴾[الزّمر:31] قال الزُّبَيرُ: »أيْ رسولَ اللهِ ﷺ يُكَرَّرُ علينا ما كان بينَنا في الدّنيا معَ خَواصِّ الذُنوبِ؟» قال: »نَعَمْ لَيُكَرَّرَنَّ عليكم حتى يُؤَدَّى إلى كلّ ذي حقٍّ حقُّه فقال الزُّبَيرُ: واللهِ إنَّ الأمرَ لَشديدٌ» وقال ابن عبّاس، رضي الله عنهما، لما نزلت هذه الآية »يخاصم الصّادق الكاذب، والمظلوم الظّالم، والمهتدي الضّالّ، والضعيف القويّ، حتى تختصم الرّوح مع الجسد، فتقول الروح للجسد: أنت فعلت، ويقول الجسد للروح: أنت أمرتِ»
فكيف سيكون حال أولئك الّذين يفجرون في الخصومة، عبر وسائل الإعلام ومواقع التّواصلّ الاجتماعي؟ كيف سيكون حالهم، يوم يلتقي الخصوم عند الله، وهم الذين يستغلّون الفرص للفجور في الخصومات والتّنكيل بالخصوم، كذبا وتضليلا وتحريضا ونشرّا للتّهم، إلى أن يبلغ الأمر حدّ الاستهانة بالدّماء والأعراض وتعريض الوطن للفتن وتهديد السلم الاجتماعي؟ ومن أجل ماذا؟ من أجل مصالح ضيّقة وحسابات ماديّة ومآربّ سياسيّة.
عباد الله: إنّ الخصومات في الدّنيا ستُعرض، مرّة ثانية، يوم القيامة أمام جبّار السّماوات والأرض، وسيُطلب من المتخاصمين أن يعيدوا الكلّام نفسه الذي قالوه في الدّنيا، فإن كان حقًّا نجوا وإن كان باطلًا خُوصِموا.. عندئذ لن يجدوا حجّة أو عملا يدفعون به غضب الله وسخطه، فإن الدّنيا زائلة وعند الله يجتمع الخصوم..
ثمّ اعلموا أن الله، تبارك وتعالى، قال قولًا كريمًا تنبيّهًا لكم وتعليمًا، وتشرّيفًا لقدر نبيّه وتعظيمًا: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصلّونَ عَلَى النبيّء يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صلّوا عَلَيْهِ وسلّموا تَسْلِيمًا﴾[الأحزاب:56]
اللّهمّ بابك قصدنا، وقبولك أردنا، وعلى فضلك اعتمدنا، وإلى عزّتك استندنا، وفي مرضاتك اجتهدنا، وبهدايتك استرشدنا، فلا تكلّنا إلى أنفسنا طرفة عين وأصلح شأننا كلّه.
اللّهمّ أعنّا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، أجرنا من حقوق العباد، وارزقنا العدل والإنصاف، وأعذنا من الزّيغ والضّلال والعدوان والظّلم يا ذا الجلال والإكرام.
اللّهمّ أعنّا ولا تعن علينا، انصرنا على من بغى علينا، آثرنا ولا تؤثر علينا، اهدنا ويسّر الهدى لنا، اجعلنا لك ذاكرين، شاكرين، راغبين، راهبين، أوَّاهين، منيبين.
اللّهمّ تقبّل توبتنا، وثبّت حجّتنا، واغفر زَلّتنا، وأَقِل عثرتنا، اللّهمّ أَمِّنّا في أوطاننا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتّقاك واتّبع رضاك يا ربّ العالمين،
اللّهمّ لا تغضب علينا فلسنا أقوى لغضبك، ولا تسخط علينا فلسنا أقوم لسخطك، فلقد أصبنا من الذّنوب ما قد عرفتَ، وأسرفنا على أنفسنا بما قد علمتَ، فاجعلنا عبادًا إمّا طائعين فأكرمتَهم، وإمَّا عاصين فرحمتهم. اللّهمّ أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي إليها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كلّ خير، واجعل الموت راحة لنا من كلّ شرّ. ربّنا اغفر لنا ولوالدينا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلاّ للذين آمنوا. اللّهمّ اُنصر الإسلام والمسلمين في كلّ أرض يذكر فيها اسمك يا ربّ العالمين. اللّهمّ فرّج همّ المهمومين من المسلمين، ونفّس كربّ المكروبين واقض الدّين عن المدينين، واشف مرضانا ومرضى المسلمين.سبحان ربّك ربّ العزّة عمّا يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله ربّ العالمين.
عِبَادَ اللهِ: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيْتَاءِ ذِي القُربّى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُوْنَ﴾ [سورة التوبة 32]
المحتكر خاطئ
الخطبة الأولى
الحمد لله الذي نزّل القرآن هدى للناس وبيّنات من الهدى والفرقان، الحمد لله الذي جعل فيه منهج حياة الإنسان، ودعا، من خلاله، إلى إعمال النّظر والفهم والبيان،﴿إِنَّ هَٰذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشرّ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا﴾[الإسراء:9]. أحمده على لطفه وعفوه وغفرانه، وأشهد أن لا إله آلا الله وحده، لا شريك له، أمر بالتّدبّر في آياته﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالها﴾[محمّد:24]، وأشهد أن سيّدنا ومولانا محمّدا عبده ورسوله بلّغ عن ربّه أحكامه وتشرّيعاته، عليه أفضل الصلّاة وأزكى السّلام، وعلى آله وأصحابه وأتباعه وأحبابه. ﴿وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنهارُ خَالدّين فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ۚ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ۚ ذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾[التوبة:72]
أما بعد، أيّها المؤمنون الكرام، فإنّ الإسلام ليس مجرّد عقيدة، وإنما منهج حياة يقدّم للإنسان كلّ ما يحتاج إليه في معاشه ومعاده،﴿مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ﴾[الأنعام: 38] وعلى هذا الأساس، تناول التّشرّيع الإسلاميّ جميع مجالات الحياة البشرّيّة الاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة. وما دام موضوعنّا يرتبط بالمجال الاقتصاديّ، فإنّنا نشير إلى أنّ الإسلام حرص على حماية المال حتى لا يكون وسيلة للاستغلال والتّفاوت بين النّاس، ومدعاةً لأكلّ المال بالباطل. فأقام تشرّيعات اقتصاديّة وماليّة تنظّم حياة الفرد والمجتمع تهدف إلى جعل النّشاط الاقتصاديّ والمالي منسجما مع الغاية من خلق الإنسان.
يقول الله تعالى في محكم تنزيله:﴿وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ﴾[الأعراف:10]ويقول عزّ وجلّ، أيضا:﴿وَآخَرُونَ يَضْربّونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ﴾[المزمّل:20] فماذا نفهم من ذلك؟
أيها المؤمنون الكرام: أمرنا المولى، سبحانه وتعالى، بالسّعي نحو الكسب الطيّب والاجتهاد في طلب الرّزق الحلال، وفقا لمبادئ تفصلّ بين سبل الكسب المشرّوع والكسب غير المشرّوع. ومن بين الرّكائز التي سنّها الشّارع الحكيم، في هذا الإطار، هو السّماحة في البيع والشرّاء. قال النبيّ، صلّى الله عليه وسلّم،: «رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا سَمْحًا إِذَا بَاعَ وَإِذَا اشْتَرَى وَإِذَا اقْتَضَى« [25].وقال ﷺ في حديث عن أبي سعيد: «التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الْأَمِينُ مَعَ النبيّينَ وَالصَّدِيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ « [26]
والرّسول، صلّى الله عليه وسلّم، علّمنا أنّ أطيب المكاسب هي البيع المبرور، أي التّجارة، فعَنْ رَافِعِ بْنِ خَدِيجٍ قَالَ:
قِيلَ: « يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ الْكَسْبِ أَطْيَبُ؟« قَالَ: «عَمَلُ الرَّجُلِ بِيَدِهِ، وَكلّ بَيْعٍ مَبْرُورٍ«.[27]. وبما أنّ الإسلام اهتمّ بحماية المال والتّنافس الحرّ واضعا شرّوط المعاملات المشرّوعة، فإنّه قدّم قاعدة عأمّة في سائر مجالات الكسب والبيع وتحصيل الرّزق مفادها:«لا ضرر ولا ضرار« [28] وهذا يفرض على التّاجر أن يتحرّى الرّزق الحلال، تجنّبا لأن يكون ممّن ذكرهم رسول الله، صلّى الله عليه وسلّم، في حديث أبي هريرة، رضي الله عنه،:« يَأْتِي عَلَى النّاس زَمَانٌ لَا يُبَالِي الْمَرْءُ مَا أَخَذَ مِنْهُ أَمِنَ الْحَلَالِ أَمْ مِنْ الْحَرَامِ« [29]وأن يتجنّب إلحاق الضرّر بالنّاس، كأن يعمد إلى الغشّ في البيع أو التّطفيف في الكيل وبخس الميزان أشياءهم، أو يحبس السّلع الضّروريّة مع حاجة النّاس إليها، طمعا في تحقيق أعلى ربّح بارتفاع أسعارها.
أيها المؤمنون الكرام: لاحظوا مدى شموليّة الشّريعة الإسلاميّة وعمومها وصلّاحها لمختلف أحوال البشرّ: إنّها تنبّه إلى أعوص المشكلّات التي تواجهها اليوم أعتى النّظريّات الاقتصادّية، ألا وهي مسألة الاحتكار. إنّ التّشرّيع الإسلاميّ على دراية بما يحصلّ لأحوال البشرّ والمجتمعات من آفات، في مختلف الأزمان، وإلاّ كيف نفسّر تناوله لما يسبّب أزمات اقتصاد العالم اليوم بدءا من الربّا والمضاربّة وصولا إلى الاحتكار. أفلا يضع ذلك حدّا لدعاوى المبطلين الذين زعموا أنّ الشّريعة الإسلاميّة جامدة لا تصلّح للتطوّرات الحديثة وأنّ أحكامها لا تواكب العصر؟ أليس واضحا أنّ النّظام الاقتصاديّ الإسلاميّ يتّسع لجميع المشكلّات الاقتصاديّة، وإلاّ ما الذي دفع بالعديد من الباحثين الإنجليز نحو الاهتمام به، خاصّة لما لاحظوه من محدودية تأثير الأزمات الاقتصاديّة العالميّة على الدول التي تستلهم نظامها الاقتصاديّ من التّشرّيع الإسلاميّ؟ بل إنّ ما يسترعي النّظر هو أنّنا نجد أصلّ القواعد المعتمدة في مواجهة الاحتكار الذي يعتبر من أصعب المشكلّات الاقتصاديّة، في الفقه الإسلاميّ.
وبما أنّ الاحتكار من أخطر المظاهر على المجتمع وأشدّها سلبّية على علاقات أفراده، فإنّنا نتساءل: ما هي مظاهر الاحتكار؟ وما هي آثاره السيّئة في الفرد والمجتمع؟ نترك الإجابة عن ذلك في الخطبة الثانية، بإذن الله تعالى. أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كلّ ذنب فاستغفروه، إنّه هو الغفور الرّحيم، ولا حول ولا قوّة إلا بالله العليّ العظيم.
الخطبة الثّانية
الحمد لله الواحد المنّان، الفرد الصّمد، الكبير القدير، الرّحمن، نحمده ونشكره سبحانه وتعالى على نعمة الإسلام والايمان، ونسأله الاستقامة على سنن الهداية لنفوز بأعلى غرفات الجنان، ونعوذ به من شرور أنفسنا وسيّئات أعمالنا في الإسرار والإعلان. ونشهد أن لا إله إلاّ الله وحده، لا شرّيك له، ذكّر عباده بالاستعداد ليوم تشيب فيه الولدان، وحذّرهم من زخارف الدّنيا ووساوس الشيطان ﴿يَا أَيُّهَا النّاس اتَّقُوا ربّكم وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدّنيا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ﴾[لقمان:33]. ونشهد أنّ سيّدنا ومولانا محمّدا عبده ورسوله المبعوث بخاتم الأديان، فصلّ اللّهمّ وسلّم على سيّدنا محمّد وعلى آله وصحبه ومن تبعه، بإحسان، إلى يوم الدّين ﴿أُوْلَٰٓئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن ربّهِمْ وَجَنَّٰتٌ تَجْرِى مِن تَحْتِهَا ٱلْأَنهٰرُ خَٰلِدِينَ فِيهَا ۚ وَنِعْمَ أَجْرُ ٱلْعَٰمِلِينَ﴾[آل عمران:136]
أمّا بعد، أيّها المؤمنون الكرام، إذا كان الإسلام قد حثّ على حرّيّة التّجارة وحرّية التّنافس المشرّوع والتّعاون بين النّاس، فإنّه منع الغشّ في البيع والتّطفيف في الكيل وبخس الميزان وبخسَ النّاس أشياءهم... كما منع الاحتكار الذي يدور معنّاه حول الحبس والظلم في المعاملة وإساءة المعاشرّة، نتيجة لحبس الأشياء انتظارا للغلاء قال صلّى الله عليه وسلّم: « مَنْ دَخَلَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَسْعَارِ الْمُسْلِمِينَ لِيُغْلِيَهُ عَلَيْهِمْ كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ أَنْ يُقْعِدَهُ بِعُظْمٍ مِنْ النَّارِ يَوْمَ القيامة « [30]، أي يجعله بمكان عظيم من النار يشتد عذابه عليه فيه.
إنّ من تبعات الاحتكار الإضرار بالنّاس، وإذا عدنا إلى واقعنّا اليوميّ وإلى ما نعيشه هذه الأيام والأيام السابقة في الأسواق والمغازات وغيرها، ماذا نرى وماذا نسجّل؟ نلاحظ اختفاءَ بعض الموادّ الأساسيّة وندرة موادّ أخرى، مثل السّكّر والحليب والمياه وغيرها. بل يبدو أنّ تضخّم هذه الظاهرة بلغ أعلى المستويات في رمضان، شهر الرّحمة والصّدقة والإحسان ومضاعفة الأجر.. شهر العبادة والتحكّم في الشّهوات وتجنّب الإسراف؟ شهر تتغلّب فيه العبادة الخالصة على الشّهوة ويتفوّق فيه صدق الدّعاء على الضّغائن والاستغلال.. ماذا يفعل بعض النّاس في رمضان؟ وكيف هو سلوكهم؟ يتضاعف حبّهم للشّهوة ويضحّون من أجلها بالمال والجهد. وأحيانا، يفقدون زمام السّيطرة على النّفس فيتفوّهون ببذيء الكلّام ويشتدّ الخصام بينهم في الطّوابير، وهي من الظواهر التي أصبحت مألوفة في مجتمعنّا. ويتعمّد البعض الآخر إخراجَ سلع وموادّ، عند دخول هذا الشهر، للرّفع في ثمنها وتحقيق ربّح أوفر، وإخفاء سلع ضروريّة من السّوق العموميّ لتباع لمن يدفع أكثر... فمن الذي يعاني؟ من الذي يكون عرضة أكثر للضّرر والاحتياج؟ هل باستطاعة الفقير والمعسر مواجهة غلاء الأسعار؟ هل يمكنهما أن يتمتّعا بحقّ العيش باليسير والقليل، أم إنّ الاحتكار يحرمهما من هذا الحق؟ أليس من المفروض أن يكون الإحساس بالفقير عاليا في شهر رمضان؟
يا أيّها المؤمنون الكرام: إنّ المقتدر باستطاعته شرّاء حاجاته وتأمين طلباته، لكنّ الفقير والمعسر، كيف لهما أن يؤمّنا حاجاتهما؟ لهذا، فإنّ الاحتكار نوع من أنواع الظّلم، لذلك حكم الشرّع بتحريمه. قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: « مَنْ احْتَكَرَ فَهُوَ خَاطِئٌ« [31]، أي آثم ظالم.
واتّقوا الله الذي أنتم به مؤمنون﴿إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ﴾ [النحل:128] ّ
عباد الله: يقول الله ولم يزل قائلا عليما:﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصلّونَ عَلَى النبيّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صلّوا عَلَيْهِ وسلّموا تَسْلِيمًا﴾[الأحزاب:56]
اللّهمّ صلّ وسلّم على سيّد الخلق أجمعين، سيّدنا محمّد، وعلى آله وصحبه ومن تبعه، بإحسان، إلى يوم الدّين. اللّهمّ انا نسألك في هذا الشّهر المبارك، بوجهك العظيم، ونبيّك الكريم، وكتابك الحكيم، ألاّ تدع لنا في ساعتنا هذه ذنبا إلاّ غفرته، ولا عيبا إلاّ سترته، ولا همّا إلا فرجته، ولا ضرّا إلا كشفته، ولا ضالاّ إلا هديته، ولا مريضا إلا شفتيه. اللّهمّ إنّا نسألك إيمانا دائما، ونسألك قلبا خاشعا، ونسألك علما نافعا، ونسألك رزقا حلالا واسعا، ونسألك عملا صالحا متقبّلا، ونسألك توبة نصوحا. اللّهمّ أصلح حالنا وحال الأهل والذرّيّة، وعافنا من كلّ بليّة. سبحان ربّك ّربّ العزّة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله ربّ العالمين.
[1]) صحيح البخاريّ. كتاب الفتن. باب كيف الأمر إذا لم تكن جماعة.
[2]) سنن الترّمذي. كتاب الفتن عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. باب ما جاء في سؤال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ثلاثا في أمّته.
[3]) صحيح مسلم .كتاب الإمارة، باب .وجوب الوفاء ببيعة الخليفة الْأَوَّلِ فَالْأَوَّلِ
[4]) أخرجه الطّبراني في الدّعاء.ص:315
[5]) أخرجه مسلم في صحيحه. كتاب الجهاد والسّير. باب ما لقي النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من أذى المشرّكين والمنافقين
[6]) أخرجه مسلم في صحيحه. كتاب الجهاد والسّير. باب ما لقي النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من أذى المشرّكين والمنافقين
[7]) أخرجه البخاريّ في صحيحه. كتاب أحاديث الأنبياء. باب قول الله تعالى واتّخذ الله إبراهيم خليلا.
[8]) أخرجه الطبراني في الدعاء.ص:315
[9]) أخرجه مسلم في صحيحه. كتاب الجهاد والسير. باب ما لقي النبيّ صلّى الله عليه وسلّم من أذى المشرّكين والمنافقين
[10]) أخرجه البخاريّ في صحيحه: كتاب فضل الصلّاة في مسجد مكّة والمدينة: باب فضل الصلّاة في مسجد مكّة والمدينة،
[11]) أخرجه ابن ماجه في سننه: أبواب إقأمّة الصلّاة، والسنّة فيها. باب ما جاء في الصلّاة في مسجد بيت المقدس.
[12]) أخرجه ابن ماجه في سننه: أبواب إقأمّة الصلّاة، والسنّة فيها. باب ما جاء في الصلّاة في مسجد بيت المقدس.
[13]) رواه ابن أبي الدّنيا في "محاسبة النّفس" ص22 ، وأحمد في "الزهد". ص: 120
[14]) رواه البخاريّ في صحيحه. كتاب الإيمان. باب قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم الدّين النّصيحة.
[15]) رواه البخاريّ في صحيحه. كتاب الأدب. باب من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره.
[16]) رواه أبو يعلى في مسنده.11/6550. وإلهيثمي في مجمع الزوائد.8/22
[17]) رواه البزار في مجمع الزوائد. كتاب الإيمان. باب في حقيقة الإيمان وكمإله.
[18]) رواه مسلم في صحيحه. كتاب البرّ والصلّة والآداب. باب تحريم الظلم.
[19]) رواه الحاكم في المستدرك. كتاب الفتن والملاحم. 8339/147
[20]) أخرجه البخاريّ في صحيحه. أبواب صفة الصلّاة. باب وجوب القراءة للإمام والمأموم في الصلّوات كلّها في الحضر والسفر وما يجهر فيها وما يخافت.
[21]) أخرجه النسائي في سننه.كتاب السّهو.نوع آخر
[22]) أخرجه البخاريّ في صحيحه. كتاب المظالم. باب قول الله تعالى وهو ألدّ الخصام.
[23]) أخرجه ابن ماجه في السّنن. كتاب الأحكام. باب من ادّعى ما ليس له وخاصم فيه.
[24]) أخرجه أبو داود في السّنن.كتاب الأقضية. باب فيمن يعين على خصومة من غير أن يعلم أمرها.
[25]) رواه البخاريّ في صحيحه. كتاب البيوع. باب السّهولة والسّماحة في الشرّاء والبيع ومن طلب حقّا فليطلبه في عفاف. حديث رقم 1970
[26]) رواه التّرمذيّ في السّنن. أبواب البيوع عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم. باب ما جاء في التجّار وتسمية النبيّ صلّى الله عليه وسلّم إيّاهم. حديث رقم 1209
[27]) رواه إلهيثميّ في مجمع الزّوائد ومنبع الفوائد.. كتاب البيوع. باب أيّ الكسب أفضل. حديث رقم 6210
[28]) رواه ابن ماجه في السّنن .. كتاب الأحكام. باب من بنى في حقّه ما يضرّ بجاره. حديث رقم حديث رقم2340
[29]) رواه البخاريّ في صحيحه. كتاب البيوع. باب من لم يبال من حيث كسب المال. حديث رقم 1954
[30]) رواه الإمام أحمد في مسنده. أوّل مسند البصريّين. حديث معقل بن يسار رضي الله تعالى عنه. حديث رقم 19802
[31]) رواه مسلم في صحيحه. كتاب المساقاة. باب السّلم.حديث رقم 1605
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد