بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
أيّها المؤمنون الكرام، لماّ استُضعِف المسلمون في مكّةَ وأوذُوا وحوصِروا وتكبَّر المشرّكون بقوّتهم وكَيدِهم، أنزَلَ الله تعالى بمكّةَ سورةً تضَعُ الموازينَ الحقِيقِيّة للقوَى والقِيَم والنّصرِ والعاقبةِ. سورةٌ تقرِّرُ أنَّ هناك قوّةً واحدةً في الوجود، هي قوّة الله، له الخلقُ والأمر، وأنّ هناك قِيمةً واحدةً مطلقة، هي قِيمةُ الإيمان، فمَن كانَت قوّةُ الله معَه فلا خوفَ عليه ولَو كان مجرّدًا من كلّ مظاهرِ القوّة، ومن كانت قوَّة الله عليه فلا أَمنَ له ولا طمأنينةَ ولو سَانَدَته جميعُ القوى. سورةٌ نزلت في زمنِ الضَّعف والقِلّة، بأسلوبٍ قصَصيّ ليس له مثيل. إنّها سورَةُ القصَص.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرّحيم، ﴿طسم تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِ نِسَاءَهُمْ إنّه كَانَ مِنْ الْمُفْسِدِينَ وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمْ الْوَارِثِينَ وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَنُرِي فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ﴾ [القصص:1-6].
أيّها المؤمنون الكرام، في هذِه السّورةِ العظيمةِ مواقِفُ وأحداثٌ تحوِي العبَرَ لكلّ من نَظَر. لقَد بيَّن الله تعالى طُغيانَ فِرعونَ وجنودِه على بني إسرائيل، وكَيف كانَ يَستعبِدهم ويتتبَّع أطفَالهم لِيَذبَحَهم ذَبحَ الشِّياه. في تلك الظروفِ القاسيَة وُلد موسى عليه السلام، ولِد والخطر محدِقٌ به والموتُ يتلفَّت إليه، وها هي ذي أمّه حائِرةٌ خائفة عليه، تنتظر أن يصلّ نبؤُه للجلاّدين عاجزة عن حمايته، وهنا يلقِي الله في روعِها الإيمانَ والأمانَ،﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلا تَخَافِي وَلا تَحْزَنِي إنّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنْ الْمُرْسَلِينَ﴾ [القصص:7].إذا خِفتِ عليه وهو بين ذِراعَيك وفي دِفءِ يَدَيك فألقِيهِ في اليمّ، فإنّه في رعايةِ الله، يكلؤُه ويَرعاه.
وهكذا كان إيمانُ تلكَ الأمّ وكان يقينُها ﴿فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ﴾ [القصص: 8]، وهل يُخشى عليه إلا من آل فرعون؟!ولكنَّ إرادةَ الله تتحدّى فرعونَ بطريقةٍ مَكشوفة، إنّهم يتتبَّعون المواليدَ ويرسلون الجواسيسَ ويكلّفون الجلاّدين لقتلِ جميعِ الأطفالِ خشيةَ أن يكونَ موسى أحدَهم. لكن ها هو ذا الطفلُ الرضيعُ يأتي بنفسِه مجرَّدًا من كلّ حيلةٍ أو قوّة، يقتَحِم على فرعون حِصنَه، ويستقرّ في قلبِ قصرِه، ليكونَ لهم عدوًّا، إنّه الطّفل الذي سيكون على يديهِ هلاكُهم، وعطَّف الله عليه قلبَ امرأةِ فرعون، فأحبّته وآوته، وهكذا حماه الله بألطف سَبَب، بالحبِّ لا بالجندِ والسِّلاح، وهذا من لُطف اللهِ، ولا يقاوِم لطفَ الله شيءٌ.
ومَنع الله موسَى من قَبول المراضِع أو استِساغةِ اللبن، وبعدَ أن كان فِرعونُ يبحَث عنه ليقتلَه صارَ يلهَث لحياته؛ يلتمِس مُرضِعًا يقبَلها الصَّغير، فتَدُلُّهم أختُه على أمِّه، فيلتَقِم ثديَها ويقبَل لبَنَها، ويعود الطّفلُ الغائِب إلى أمِّه، ويتحقَّق وعدُ الله، ﴿فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ﴾ [القصص:13]. إنَّ لله تدبيرًا وتقديرًا، فأين المؤمِنون؟! أين المصابِرون؟! أين المبتلَون؟! أين الموقِنون؟! وإذا صدَق الإيمانُ وأحاطَت عنّاية الرحمن، فليس بالضّرورة أن تكونَ النجاةُ وفقَ ما يعهدُه البشرّ.
يا أيّها المؤمنون الكرام، حين شرّف الله تعالى موسى عليه السلام بالرِّسالة وأكرمه بالنبوَّة، بعثه إلى فرعونَ وقومهِ يدعوهم إلى الله وحدَه، فقابلوا رسالتَه بالتّكذيبِ، واتّهموه بالسّحرِ وقَصدِ الإفساد، بل قال فرعون: ﴿إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ﴾ [غافر:26].
ورغم ظهور الآياتِ والبراهين فإنّ المتكبرّين محرومون، وهذه سنّة الله في كلّ وقت، فإنّك ترى المتكبِّرين هم أبعدُ النّاس عن الهداية والإيمان، كما قال تعالى: ﴿سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كلّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِهَا﴾ [الأعراف:146].
وخرج قوم موسى، مع نبيّهم عليه السّلام، مهاجرين بدينهم تارِكين ديارَهم، يبحثون عن مكانٍ آخَر يعبدون الله فيه، ولكنَّ فرعون ككلّ الطغاة، لم يتركهم ليحيوا كما يُريدون، مع إنّهم فارقوا بلدتَه إلى بلادٍ أخرى وتركوه وشأنه. فلماذا يطاردُهم حتى البحر؟! إنّه التسلُّط والطّغيانُ والعلوّ في الأرض بالفساد.
فلمّا وقفَ البحرُ أمامَ موسى وبني إسرائيل ورأوا فرعونَ وجنوده وراءَهم، ﴿فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إنّا لَمُدْرَكُونَ﴾ [الشعراء:61]، في تلك اللَّحظات الحرِجَة لم يتزعزّع إيمانُ موسى بربّه، بل صاحَ صيحةَ مؤمن موقن: ﴿كلّاَّ إِنَّ مَعِي ربّي سَيَهْدِينِ﴾[الشعراء:62].
وحين يكمُل الإيمان تنزل نصرةُ الله، فأمر الله البحرَ فانفَلق طُرُقًا يابِسةً، ﴿فَاضْربّ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لا تَخَافُ دَرَكًا وَلا تَخْشَى﴾ [طه:77]، فعبروا بحِفظ الله، فأتبعهم فرعونُ بجنوده، وأمر الله البحرَ فانطَبق على فرعون وجنوده، وأغرقَه ومن معه في عاقبةٍ مُهينة للكبر والطغيان، ﴿وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا إنّهمْ إِلَيْنَا لا يُرْجَعُونَ فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ القيامة لا يُنصَرُونَ﴾ [القصص:39-41]. إنّها هزيمةُ الدّنيا والآخرة جَزاءَ البغي والاستطالة، وقد أنجى الله تعالى موسى وقومَه حين التزموا أمرَ الله وصبروا وأقاموا الصلّاة.
وكان إهلاكُ الله تعالى لفرعونَ وجنودِه، ونجاةُ موسى وقومه في اليوم العاشرّ من شهر محرَّم، فصام موسى عليه السّلام هذا اليوم شكرًا لله تعالى، وصامه نبيّنا محمّد ﷺ وأمر بصيامه وقال لليهود: "نحن أولى بموسى منكم"[1]، وعن ابن عبّاس رضي الله عنهما قال: "ما علمتُ أنَّ رسولَ الله صام يومًا يطلب فضلَه على الأيام إلاّ هذا اليوم يوم عاشوراء، ولا شهرًا إلا هذا الشهر يعني رمضان."[2]
عباد الله أوصيكم ونفسي بتقوى الله العليّ العظيم القائل في كتابه الكريم: ﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالعَدلِ والإحسَانِ وإِيتَآء ذِي القُربّى ويَنهَى عَنِ الفَحشَآءِ والمُنكَرِ والبَغْيِ يَعِظُكُم لَعَلَّكُم تَذَكَّرُونَ﴾ [النحل:90].
واعلَموا أنَ اللهَ تَعَالَى أَمَرَكُم بِأَمرٍ عَظيم أَمَرَكُم بِالصلّاةِ وَالسَلامِ عَلَى نبيّهِ المُصّطَفَى الكَريم، فَقَالَ ربّنَا وَهُوَ أَصْدَقُ القَائِلين: ﴿إِنَّ اللهَ وَمَلآئِكَتَهُ يُصلّونَ عَلَى النَّبِيء يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صلّواْ عَلَيهِ وسلّمواْ تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب:56].
اللّهمّ صلّ وسلّم على سيّد الخلق أجمعين سيّدنا محمّد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان، إلى يوم الدّين.
يا من فتح بابه للطّالبين وأظهر غِناه للرّاغبين وأطلق ألسنة القاصرين ألهمنا ما ألهمت عبادك الصّالحين، وأيقظنا من رقدة الغافلين إنّك أكرم منعم وأعزّ معين.
اللّهمّ إنّ عيوبنا لا تسترها إلاّ محاسن عطفك، وذنوبَنا لا يغفرها إلاّ واسع إحسانِك وعفوك، فاجعلنا من المتقين الأبرار، واسلك بنا سبيل عبادك الأخيار، وألهمنا رشدنا، وأجزل من رضوانِك حظّنا، ولا تحرمنا بذنوبنا، ولا تطردنا بعيوبنا ولا تقطعنّا من برِّك وإحسانك، ولا تنسّنا ذكرك، واغفر لنا ما اقترفناه من ذنوبنا، واعف عن تقصيرنا في طاعتك وشكرك، وأدم لنا لزوم الطريق إليك، وهب لنا نورا نهتدي به إليك، وارزقنا حلاوة مناجاتك، واسلك بنا سبيل مرضاتك، واقطع عنّا كلّ ما يبعدنا عن خدمتك وطاعتك، وأنقذنا من دركاتنا وغفلاتنا، وألهمنا رشدنا، وحقق فيك قصدنا، واسترنا في دنيانا وآخرتنا، واحشرّنا في زمرة المتقين، وألحقنا بعبادك الصّالحين.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد