الخطبة الأولى:
أمّا بعد: فيا أيّها المؤمنون الكرام، إنّه في مثل هذا اليوم من رمضان نصر الله المؤمنين في أوّل معركة يخوضونها مع قوى البغي والشّرك، يقول - تعالى -: \" كَمَا أَخرَجَكَ رَبٌّكَ مِن بَيتِكَ بِالحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِن المُؤمِنِينَ لَكَارِهُونَ يُجَادِلُونَكَ فِي الحَقِّ بَعدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى المَوتِ وَهُم يَنظُرُونَ وَإِذ يَعِدُكُم اللَّهُ إِحدَى الطَّائِفَتَينِ أَنَّهَا لَكُم وَتَوَدٌّونَ أَنَّ غَيرَ ذَاتِ الشَّوكَةِ تَكُونُ لَكُم وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقطَعَ دَابِرَ الكَافِرِينَ لِيُحِقَّ الحَقَّ وَيُبطِلَ البَاطِلَ وَلَو كَرِهَ المُجرِمُونَ \" [الأنفال: 5-8].
فما هي أجواء هذه المعركة وملابساتها ومواقفها؟ وماذا يمكن أن نستخلص منها؟
بلغ رسول الله أنّ عيرَ أبي سفيان قد أقبلت، فخرج رسول الله إليها لأخذها غنيمة، ولم يكن يريد قتالا، ولكن القافلة نجت بعد أن كان أبو سفيان قد أرسل إلى قريش يستنفرها للحماية، فخرجت قريش في نحو من ألف مقاتل، أمّا المسلمون فكانوا ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلا، أكثرهم من الأنصار، فجادل المسلمون رّسول الله وبيّنوا له خوفهم من قتال المشركين الأكثر عَددا وعُددا، وأنّهم ما أرادوا إلاّ الغنيمــة، \" وَإِذ يَعِدُكُم اللَّهُ إِحدَى الطَّائِفَتَينِ أَنَّهَا لَكُم وَتَوَدٌّونَ أَنَّ غَيرَ ذَاتِ الشَّوكَةِ تَكُونُ لَكُم \" [الأنفال: 7]. لقد أرادوها غنيمة وأرادها الله ملحمة، أرادوها عرضا زائلا وأرادها الله موقعة بين الحقّ والباطل، ليحقّ الحقّ ويبطل الباطل ويزهقه، \" وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقطَعَ دَابِرَ الكَافِرِينَ\" [الأنفال: 8].
لقد أراد الله لهذه الجماعة المسلمة أن تصبح أمّة وأن يصبح لها قوّة وسلطان عن استحقاق لا عن جزاف، وبالجهد والجهاد وبتكاليف الجهاد ومعاناتها في عالم الواقع وفي ميدان القتال، وأراد الله أن يعلّمها ويعلّم الأمّة من بعدها أنّ النّصر ليس بالعدد وليس بالعدّة وليس بالمال والزّاد، إنّما هو بمقدار اتصال القلوب بقوّة الله الّتي لا تقف لها قوّة العباد، وأن يكون هذا كلّه عن تجربة واقعيّة لا عن مجرّد تصوّر، \" يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُركُم وَيُثَبِّت أَقدَامَكُم \" [محمّد: 7]، \" إِن يَنصُركُم اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُم وَإِن يَخذُلكُم فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِن بَعدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَليَتَوَكَّل المُؤمِنُونَ \" [آل عمران: 160]، \" وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيُّ عَزِيزٌ \" [الحجّ: 40].
وتدور معركة بدر كلّها بأمر الله ومشيئته وتدبيره وقدره، وتسير بجند الله وتوجيهه، عن عمر بن الخطّاب - رضي الله عنه - قال: لمّا كان يوم بدر نظر النّبيّ إلى أصحابه وهم ثلاثمائة ونيف، ونظر إلى المشركين فإذا هم ألف وزيادة، فاستقبل رسول الله القبلة وعليه رداؤه وإزاره ثمّ قال: ((اللّهمّ أنجز لي ما وعدتني، اللّهمّ إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام فلا تعبد في الأرض أبدا))، قال: فما زال يستغيث ربّه ويدعو حتّى سقط رداؤه عن منكبيه، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فردّها ثمّ التزمه من ورائه ثمّ قال: يا نبيّ الله، كفاك مناشدتك ربّك، فإنّه سينزل لك ما وعدك. رواه أحمد.
فماذا سينزل الله؟ وما هي دلالات هذه المعركة الخالدة في تاريخ المسلمين؟ نتعرّف إلى الإجابة في الخطبة الثّانية بإذن الله.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كلّ ذنب، فاستغفروه إنّه هو الغفور الرّحيم، ولا حول ولا قوّة إلاّ بالله العلي العظيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، هو الذي يحقّ الحقّ بكلماته، ويبطل الباطل بقدرته وآياته، \" وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقطَعَ دَابِرَ الكَافِرِينَ \" [الأنفال: 7]، أحمده أن كتب العاقبة للمتقين الصّابرين، وجعل الخيبة على المبطلين المفسدين، \" إِنَّ الأَرضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِن عِبَادِهِ وَالعَاقِبَةُ لِلمُتَّقِينَ \" [الأعراف: 128]، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له يؤيد المؤمنين المخلصين، وينصر عباده الصالحين، \" وَكَانَ حَقًّا عَلَينَا نَصرُ المُؤمِنِينَ \" [الروم: 47]، وأشهد أنّ سيّدنا ومولانا محمّدا عبده ورسوله، اعتزّ بعزّته واستجاب لكلمته، فصلوات الله وسلامه عليه، وعلى الآل والأصحاب والأتباع والأحباب، \" وَأَدخَلنَاهُم فِي رَحمَتِنَا إِنَّهُم مِن الصَّالِحِينَ \" [الأنبياء: 86].
أمّا بعد: فيا أيّها المؤمنون الكرام، لقد أنزل الله - تعالى -على رسوله قوله: \" إِذ تَستَغِيثُونَ رَبَّكُم فَاستَجَابَ لَكُم أَنِّي مُمِدٌّكُم بِأَلفٍ, مِن المَلائِكَةِ مُردِفِينَ وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشرَى وَلِتَطمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُم وَمَا النَّصرُ إِلاَّ مِن عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ \" [الأنفال: 9، 10]، واستجاب المولى - عز وجل - لرسوله وصحابته وهم يستغيثون، وأنبأهم أنّه ممدّهم بألف من الملائكة، ومع عظمة هذا الأمر على قيمة هذه الجماعة الأولى التي تحمل أعباء الدعوة الجديدة وقيمة هذا الدين في ميزان الله إلاّ أنّه - سبحانه وتعالى - لا يدع المسلمين يفهمون أنّ هناك سببا يستقلّ بإنشاء نتيجة، إنّما يردّ الأمر كلّه لصاحب الأمر، لله - تعالى -، فحسبهم أن يبذلوا ما في وسعهم، وأن يمضوا في طاعة أمر ربّهم واثقين بنصره، كان حسبهم هذا لينتهي دورهم ويجيء دور القدرة التي تدبّر أمرهم، يقول - تعالى -: \" إِذ يُغَشِّيكُم النٌّعَاسَ أَمَنَةً مِنهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيكُم مِن السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذهِبَ عَنكُم رِجزَ الشَّيطَانِ وَلِيَربِطَ عَلَى قُلُوبِكُم وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقدَامَ إِذ يُوحِي رَبٌّكَ إِلَى المَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُم فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرٌّعبَ فَاضرِبُوا فَوقَ الأَعنَاقِ وَاضرِبُوا مِنهُم كُلَّ بَنَانٍ, \" [الأنفال: 11، 12]، وتبتدئ المعركة ويلتحم جيش الإيمان بجيش المشركين، وكان الرسول يحرض أتباعه على القتال بقوله: ((قوموا إلى جنّة عرضها السماوات والأرض))، فقال عمير بن حمام الأنصاري: يا رسول الله، جنّة عرضها السماوات والأرض؟! قال: ((نعم))، قال: بخ بخ، فقال رسول الله: ((ما يحملك على قولك: بخ بخ؟)) قال: لا والله يا رسول الله إلاّ رجاءة أن أكون من أهلها، قال: ((فإنّك من أهلها))، فأخرج تمرات من قرنة فجعل يأكل منهنّ ثمّ قال: لئن أنا حييت حتّى آكل تمراتي هذه إنّها لحياة طويلة، فرمى بما كان معه من التمر ثمّ قاتلهم حتى قتل. رواه مسلم.
وعندما حمي وطيس المعركة أخذ الرسول حفنة من الحصباء واستقبل بها قريشا ثمّ قال: ((شاهت الوجوه))، ثمّ رماهم بها وأمر أصحابه قائلا: ((احملوا عليهم))، وفي ذلك نزل قول الله: \" وَمَا رَمَيتَ إِذ رَمَيتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى \" [الأنفال: 17]، ويتحقّق النّصر العظيم، ويقوم الرسول على قتلى بدر قائلا: ((يا أبا جهل بن هشام، يا أميّة بن خلف، يا عتبة بن ربيعة، يا شيبة بن ربيعة، أليس قد وجدتم ما وعد ربّكم حقّا؟! فإنّي وجدت ما وعدني ربّي حقّا))، فسمع عمر قول النبي فقال: يا رسول الله، كيف يسمعون؟! وأنّى يجيبون وقد جيّفوا؟! قال: ((والذي نفسي بيده، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، ولكنّهم لا يستطيعون أن يجيبوا)) رواه أحمد.
أيها المؤمنون الكرام، إنّ معركة بدر الكبرى تعلّمنا أن نتعاطى الأسباب ونقوم بما يفرضه علينا واجب السعي ثمّ نتوكّل على الله - تعالى -، أمّا تحقيق النتائج فهو متروك لصاحب الأمر. كما تعلّمنا هذه المعركة أنّ الإخلاص في الجهاد والالتزام بما أمر الله والثقة بالله سبب الرضا والإنعام بالنصر والغنم والأجر والثواب. وتؤكّد معركة بدر أنّ قِوى الشرك والطغيان تتبدّد أمام قدرة الله، فأوهن الله كيد كفّار قريش وألقى في قلوبهم الرعب وفرّق كلمتهم، وكذلك يفعل بالمجرمين الذين يصدون عن دينه ويعادون المؤمنين.
\" وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنتُم بِهِ مُؤمِنُونَ \" [الممتحنة: 11]، \" إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَالَّذِينَ هُم مُحسِنُونَ \" النحل: 128].
عباد الله، يقول الله - تعالى -: \" إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلٌّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلٌّوا عَلَيهِ وَسَلِّمُوا تَسلِيمًا \" [الأحزاب: 56].
اللهم صلّ وسلّم على سيد الخلق أجمعين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين..
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد