بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
مما قال فضيلة الأستاذ الدكتور محمد أبو موسى في درس شرح كتاب «دلائل الإعجاز» بالجامع الأزهر الشريف، يوم الأحد: 14 من شوال 1446ه الموافق لـ 13 من إبريل 2025م:
• من أهمِّ الأمور في قراءة كُتب العلماء الكبار أنها لا تُعلِّمنا المادةَ العلميةَ التي فيها فحَسْب؛ لأن هذه المادةَ العلميةَ لخَّصها علماءُ أجلَّاءُ بعد عبد القاهر، ويمكن أن تقرأها هناك، إنَّما الفرقُ بين كتابة العالِم وتلخيص أفكار العالِم هو أن العالِم - إنْ كنتَ صاحبَ بصيرة، وإن كنتَ راغبًا في أن تتعلَّم - ستَجِدُ في كتابته عِلمَه وفكرَه، وإذا تَعلَّمتَ عِلمَه وفكرَه تكون قد تهيَّأتَ لا لكي تكون حافظًا للعلم، وإنَّما تهيَّأتَ أيضًا لأن تكون صانعًا للعلم.
• نحن عُنِينا بالمعرفة، وهذا جيدٌ بالغ، ولم نُعْنَ بصناعة المعرفة، وهذا سيئٌ بالغ.
• صناعةُ المعرفة لا تتأتَّى لأحدٍ إلَّا إذا استوعبَ فِكرَ العالِم مع عِلمِه، فإذا استوعبَ عِلمَه فقط فهذا جيد، وإذا استوعبَ عِلمَه وفكرَه يكون قد تهيَّأ لأن يكون مِن حُفَّاظ المعرفة ومِن صُنَّاع المعرفة، وهذا لا بُدَّ منه، وإلَّا توقَّفت العلوم.
• لاحظْ أن البلاغة تُحلِّل البيان، ولاحظْ أن هذا البيانَ مِن أدقِّ صناعةِ الإنسان؛ لأنه خيالاتٌ ونَزَعاتٌ وادِّعاءاتٌ: أنت تَزعُم أن هذا ليس زيدًا، وإنَّما هو بَحْر، أو إنَّما هو مَلَك، أو إنَّما هو بَدْر، وتتعامل مع اللُّغة بناءً على هذه الادِّعاءات الخيالية التي ادَّعَيْتَها؛ فكأن اللُّغة في ألسنة الشعراء وألسنة أهل البيان لها شأنٌ غيرُ شأنِها في كتب المعاجم، شأنٌ غيرُ شأنِها في الحالة التي وضعَتْها عليها العرب.
• الإنسانُ في البيان يُبدِع إبداعاتٍ جديدةً جدًّا جدًّا، ويُطوِّع اللُّغة لهذه الإبداعات؛ فيَزعُم هذا مَلَكًا ويُسمِّيه مَلَكًا، ويَزعُم هذا بدرًا ويُسمِّيه بدرًا.
• أكرِّرُ الحديثَ عن مسألة «صناعة المعرفة» لأني أشاهد حياتَنا الثقافية إمَّا أن تَرى رجلًا ملتزمًا ومتجهًا ومُفرِّغًا جُهدَه كلَّه في قراءة كلام علمائنا، وإمَّا أن تَجِدَ رجلًا ملتزمًا ومتجهًا ومُفرِّغًا جُهدَه كلَّه في قراءة كلام غير علمائنا، والاثنان ليسا هما المطلوبين.
• ليس مِن سُنَّة سيدِنا رسول الله ﷺ أن تَصومَ وتُصلِّي فقط، وإنَّما مِن سُنَّة رسول الله أيضًا أن تَصنع رجالًا؛ لأنه ﷺ لم يُصلِّ ويَصُمْ فحَسْب، وإن كان خيرَ مَن صلَّى وصام، وإن كانت الصلاةُ والصيامُ مِن أهمِّ العبادات؛ لأنها تصنع الإنسانَ الصَّادقَ المؤمنَ المُخْلِصَ، فإذا بدأ يَعملُ في هذه الدنيا بدأ يَعملُ بالقلب المُخْلِص والنَّفس الصَّادقة.
• قلتُ لكم قبل ذلك: اسمعوا الأذانَ وافهموه: «اللهُ أكبر»، وما دام هو الأكبر فلا إله إلَّا هو؛ ف«اللهُ أكبر» بالفطرة وبالعقل تُنتج «لا إله إلَّا الله»، وما دام «لا إله إلَّا الله» فلا بُدَّ له مِن مُبلِّغٍ عنه؛ فتُنتج «محمدٌ رسولُ الله»، وهكذا انتهينا من العقيدة التي هي الشَّهادتان، ثم الذي بعد الشَّهادتين إقامةُ عمود الدِّين، وعمودُ الدِّين هو «حَيَّ على الصلاة»، فإذا تَجهَّزْتَ ب«حَيَّ على الصلاة» فتأتي «حَيَّ على الفلاح»؛ الفلاحُ الذي هو عَملُ الصَّالحات التي يُفلِح بها الفردُ، وتُفلِح بها الأمَّة، عَملُ الصَّالحات بالقلب الذي شَهِدَ الشَّهادتين، وأقام عمودَ الدِّين، وتهيَّأ لأن يكونَ مِن أفضلِ النَّاس في الأرض.
• أنا مُهتمٌّ بشيءٍ عجيبٍ ضاع منا العُمْرَ كلَّه؛ هو: كيف صَنعَ القرآنُ خيرَ أمَّة أُخرِجَتْ للنَّاس؟! فوجدتُ أن القرآنَ يُعنى بصناعة الإنسان الأفضل.
• استوعِبِ الأذانَ تَجِدْه يُنتجُ منك إنسانًا أفضل، وما دام سيُنتج إنسانًا أفضلَ فسوف يُنتج الجماعةَ الأفضل، والجماعةُ الأفضلُ هي خيرُ أمَّةٍ أُخرِجَتْ للنَّاس.
• طريقةُ عبد القاهر في نَقْض مذهب القائلين بأن مَزِيَّةَ الكلام تَرجِعُ إلى ألفاظه لا إلى معانيه تَدلُّني على أن البيئةَ التي عاش فيها عبدُ القاهر كان فيها نشاطٌ فكريٌّ رائعٌ، بَعضُه صوابٌ وبَعضُه خطأ، والحياةُ العقليةُ الثرَّةُ الجليلةُ تَجِدُ فيها صوابًا جليلًا وتَجِدُ فيها أيضًا خطًا جليلًا.
• تحصيلُ العِلم مِن غير تدبُّرٍ طَمسٌ للعلم ومَحْوٌ له.
• تعليقًا على قول الإمام عبد القاهر: «.. ويَذهبون عمَّا هو مركوزٌ في الطِّبَاع»، قال شيخُنا: أقِفُ عند هذه العبارة بجلالٍ عجيبٍ جدًّا، وأشعر أن عبد القاهر تَرك الكُتب وتَرك ألسنةَ العُلماء وعاد إليَّ ليقول لي: لا تقرأْ كُتبًا، ولا تَسمعْ عُلماء، وإنَّما اسمع الذي بين جنبَيْك؛ لأن الذي بين جنبَيْك يُعطيك اليقين، لن تَجِدَ بين جنبَيْك أفكارًا، وإنَّما ستَجِدُ الحقائقَ والدقائقَ مركوزةً في ذاتِ طَبْعِك.
• مخاطبًا حضور الدرس، قال شيخُنا: لو أنكم كلَّكم طرحتُم كلامي قبل أن تَخرجوا من هذا الباب فسأقوله مرةً ثانيةً وثالثةً ورابعةً؛ لأني لا أقولُ لكم، وإنَّما أقولُ للذي قال لي: «قُلْ»، أقولُ للذي ناداني بعد الشَّهادتين وبعد الصَّلاة، وقال لي: «حَيَّ على الفلاح»؛ فأنا أجتهدُ في أن أُجِيبَ «حَيَّ على الفلاح»، رَضِيتَ أنتَ أو لم تَرْضَ، وَعَيْتَ أنتَ أو لم تَعِ؛ لأنني هناك في القبر لن ينفعني رضاك ولا غضبُك، إنَّما ينفعني الذي أخبرني وأنا حَيٌّ أنه يَعلَمُ سِرِّي؛ فلا بُدَّ أن أُنقِّي سِرِّي وأجعلَه سِرًّا نظيفًا نقيًّا يَبتغي وجهَه؛ لأنه هو الذي سيحاسبني.
• مِن أهمِّ ما يَجِبُ على الأستاذ أن يُوسِّعَ آفاقَ المعرفة أمامَ الطالب؛ حتى يبدأ الطالبُ يَتحرَّكُ في فضاءٍ فكريٍّ أوسع.
• وجدتُ علماءنا يكرهون استخدام كلمة «الخَلْق» إلَّا إذا نَسبُوها إلى الله؛ لأنه لم يَخْلُقْ شيئًا؛ أيَّ شيءٍ، إلَّا اللهُ، فرُدَّ عليهم بأن الله وسَّع علينا؛ فقد قال سيدُنا إبراهيمُ لقومِه: «وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا»، ونَسَب الخلقَ إلى غير الله.
• الإنسانُ وَجدَ ثوابتَ الأشياء لا وَجْهَ له في تغيير شيءٍ منها، فرجع إلى خيالِه وصَنَع عالَمًا يكون له فيه سلطانٌ؛ هو عالَم البيان؛ مثل كاتب الرِّواية الذي يُمِيتُ بطل الرِّواية يوم يُريد، ويُحْيِيه يومَ يُريد، ويُمرِضُه يومَ يُريد، يحاول أن يفعلَ شيئًا يكون له به وجودٌ في هذه الحياة.
• ليس مطلوبًا منِّي أن أشرحَ «الاستعارة»؛ لأن «الاستعارة» يَعرفُها تلاميذ الثانوي، وإنَّما عليَّ شيءٌ واحدٌ؛ هو أن أُبيِّن لك ما وراءَ الكلام، أُبيِّن لك الأفقَ المُتَّسعَ الذي وراء ما نقرأ، ولكننا أهملناه ولم ننظر له.
• عنايتي بما لم يَنطق به المؤلِّفُ أكثرُ من عنايتي بما نَطقَ به؛ لأن كلَّ ما نطق به وراءه رقائقُ ودقائقُ لم يَنطق بها.
• أحيانًا يَجِبُ عليك وأنت تقرأ الكتابَ أن تَستحضِرَ أنك تقرأ عقلَ مؤلِّف هذا الكتاب: ماذا جرى في عقلِه حتى كتب هذا الذي كتب! هنا تكون قد بدأتَ تَتعلَّم، وبدأتَ تَدخلُ في آفاق العلماء، وبدأتَ تُعِدُّ نفسَك لأن تُحلِّقَ في هذه الآفاق.
• ابن جني كان رائعًا، وفتح أبوابًا أُغلِقَتْ مِن بعده، وهو الذي علَّمني عبارة «المسكوت عنه» التي كتبتُها عُنوانًا لأحد كُتبي؛ هو لم يكن يقول: «المسكوت عنه»، وإنَّما يظلُّ يَشرحُ ويَشرحُ، ثم يقول: «وهذا من المَسْهُوِّ عنه».
• أُحِبُّ المَسْهُوَّ عنه أكثرَ مِن حُبِّي للذي لاكَتْه الألسنةُ كثيرًا.
• حدِّثْ بما لم يُحدِّثْ به أحدٌ قبلَك، وهذه كانت وصيَّةَ عالِمٍ جليلٍ - رحمه الله رحمةً واسعة - كانوا يقولون عنه إنه أشْبَهُ علمائنا بالأنبياء؛ هو أبو عُبيد القاسم بن سلام.
• ما أروعَ أن تَجِدَ عالمًا يُقال فيه إنه أشْبَهُ علمائنا بالأنبياء، ليس هناك أنبياء بعد سيدنا رسول الله ﷺ وإنَّما هناك علماءُ أشْبَهُ بالأنبياء، ويمكنك أن تكون منهم، ليس إذا اتَّسَعْتَ في العِلم، وإنَّما إذا اتَّسَعْتَ في الإخلاص والصِّدق.
• مَن اتَّسعَ في الإخلاص والصِّدق فقد اتَّسعَ في كلِّ خير.
• قد تَتَّسِعُ في العلم ليُقالَ: «عالِم»؛ فيكون عِلمُك هذا لا يُساوي «بصلة»؛ لأن الذي اتَّسعَ في العلم ليُقالَ: «عالِم» لن ينتفع أحدٌ بعلمه، إنَّما إذا اتَّسعَ في الإخلاص والصِّدق وطلبَ ابتغاءَ مرضاة الله، فهؤلاء هم الذين يعملون الصَّالحات، ويُربُّون أجيالًا تعمل الصَّالحات.
• تعقيبًا على استحسان الإمام عبد القاهر قولَ المتنبِّي:
نَحنُ رَكْبٌ مِلْجِنِّ في زِيِّ نَاسٍ *** فوقَ طَيْرٍ لها شُخوصُ الجِمَالِ
قال شيخُنا: عبدُ القاهر هنا يُعلِّمني علمًا مفقودًا؛ هو أن المتنبِّي لمَّا قال: «نَحنُ رَكْبٌ مِلْجِنِّ» لم يكن هذا من اختراعات المتنبِّي، وإنَّما المتنبِّي امتصَّ والتقط عدَّةَ صُور، ثم صَنَع مِن صُورٍ بيانية كثيرةٍ صورةً بيانيةً جديدةً؛ فالصورةُ البيانية التي نقول – أحيانًا - إنَّ بشَّارًا اخترعها مأخوذةٌ مفرداتُها ومِكوِّناتُها ومُستلَّةٌ خيوطُها من صُورٍ كثيرةٍ استطاعَ بشَّارٌ أن يصنع منها صورةً جديدةً، وهذا تَجِدُه غامضًا في كلام علمائنا؛ وذلك حين يذكرون الأبياتَ التي غَلَب عليها الشاعرُ، أو المعاني التي غَلَب عليها المتكلِّمُ؛ هو إنَّما غَلَب عليها لأنه لم يعد بمقدور أحدٍ أن يَنْزِعَ منها خيطًا يَصنعُ به صورةً جديدةً، كما في صورة بشَّار حين قال:
كأنَّ مُثارَ النَّقْعِ فوق رؤوسِنا *** وأسيافَنا لَيلٌ تَهاوَى كَواكِبُه
وكما عند سيدِنا عليٍّ حين قال: «قيمةُ كل امرئ ما يُحْسِن».
• المسكوتُ عنه هو أننا لم نَقِفْ عند الصُّور البيانية الجديدة لنَعودَ بخيوطها التي صَنعتْ صُورًا جديدةً إلى أُصولِها في الصُّور القديمة؛ لأنه ليس جديدٌ لا قديمَ له، وإنَّما كلُّ جديدٍ مُستلٌّ من قديم: عقلٌ جيدٌ وعقلٌ رائعٌ وقادرٌ على أن يَصنعَ مِن الخُيوط القديمة صُورًا جديدة، وهذا هو الإبداع.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين