بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
نرى بين آنٍ وآن طيفًا من الأشبال الغِرّ، قد أشرقت عليهم أنوار الحفظ، ورفرفت على جباههم ألوية الفهم والذكاء، فيُطرب الناس لهم، وتتهلل الوجوه لرؤيتهم، ويتسابق ذوو الهيئات إلى تقديمهم، فتُفسَح لهم المجالس، وتُعقَد لأجلهم المحافل، ويُقال فيهم وعنهم، حتى كأنّ الدنيا لم تُرزق قبلهم نابغًا، ولن تُنجب بعدهم مثيلًا!
أصدقك القول أني لا أُسَرّ برؤية طفلٍ يُقدَّم في المجالس، ويُصنَع له من الشهرة ما لم يُصنع للكبار، بل أجزع له وأخاف عليه، كأنّي أراه في مَهبّ ريح عاصف، قد أخذته يد الإعجاب من حيث لا يشعر، فألقته في تيار لا ينجو منه إلا من عصمه الله!
ويا لله، كم أَشفق على هؤلاء البراعم إذا سُلِّطت عليهم أضواء لم تألفها أعينهم، ونُزِعت عنهم براءة الطفولة نزْعًا باسم التميّز والتفوق والنجابة.
وإني وإن كنت والله أفرح بموهبة تُفتَح أو حافظٍ متقن، إلا أنّ الفرح سرعان ما يخبو، ويقوم في قلبي مقامَه وجَلٌ من العاقبة، وخوفٌ من مكر الدهر وتقلب الأحوال إذا رُفِعوا على منابر لم تتهيأ لها أقدامهم.
يا سادة، ليس كلُّ من أضاء مبكرًا دام نوره، ولا كلُّ من أُبرز صغيرًا سَلِم من داء الغرور وفتنة التصدير ودخان الأضواء.
فليست الشهرة في هذا السن إلا كالسُّمّ في الشراب، ينساب في العروق مسرورًا به، ثم لا تلبث أن تظهر تبعاته في العقل والدين والخلق.
ألا ما أتعس الطفل إذا عَلِم أنّ له مقامًا بين الكبار، وأحسَّ أنّ له في المجالس صدارة، وفي الألسنة ذِكرًا، وفي القلوب تعظيمًا! فإنّ قلبه الطري لا يحتمل ذلك، وعقله الغضّ لا يميّز بين المدح الذي يُنمّي، والمدح الذي يُردي.
أيّها الأب، أيّها المربي، إنّك إن كنت محبًّا لولدك أو تلميذك فاستره حتى يشتدّ، وغطّه حتى يكتمل، وألقِ به في حجر العلماء لا في حُضن الكاميرات، واسقه من ماء الحكمة لا من خمر المديح؛ فإنّ أخطر ما يكون على قلب الطفل أن يُقال له: *ما أذكاك! ما أنجبك! ما أعجبك!*.
فكم من موهبة كُفِنت في ثياب الظهور المبكر، وكم من غلامٍ أجهزت عليه فلاشات المصوّرين، واحتراقات التصفيق، قبل أن يتهيأ للمسير في مدارج الرجولة وأخلاق العلماء ومنازل التواضع!
إنّ التربية الحقّة، أيها المربّي النبيل، لا تكون على منصّة، ولا تُغرس في ضوء الكاميرا، ولا تُسقى في زحام التصفيق، بل تُرَبَّى النفوس في الظلّ، ويُنضَج العقل في صمت، وتُزكّى الروح في خفاء، ويُحفَظ من أعين الناس حتى إذا اكتمل بناؤه قيل له: تقدم، فإنّك إن قدّمتَ الطفل قبل أوانه؛ هدمتَ ما بنيت، وأفسدتَ عليه ما أردت إصلاحه.
ولستُ أعني أن يُهمَل الغلام إذا نَبغ، بل أقول: ليُربَّ التربية الصحيحة، تلك التي تكون في ظلّ التزكية، لا في وهج الثناء!
فاتركوا لأبنائكم الطفولة بما فيها من براءة وسذاجة، وغذّوهم بمعاني الخير والفضيلة، ودعوا عنكم لهاث التفاخر بأعمارهم الصغيرة، وقراءاتِهم الطويلة، فكم في هذه المفاخرة من خيانة، وإن غلّفها القائل بنيّةٍ حسنة! وكم من غلامٍ اشتُهر فخمد، ومُدح ففَسَد، واعتُلي المنابر فزلّت به القدم، وما كان ذنبه إلا أنه صدّقهم حين قالوا له: *أنت شيء* قبل أن يُصبح شيئًا!
واحذروا أن تزرعوا في قلوبهم شجرة العُجْب، فإنها إذا نمت اقتلعت معها كل نبتة طيبة.
فيا من أُوتي ولدُك فهْمًا، أو بُورِكَ له في الحفظ، خذه من يده إلى ساحات العلماء، وأغلق دونه أبواب الظهور، حتى يكتمل بناؤه، ويشتد عوده، فإنّ من طاش في صغره برُفعةٍ لم يستحقها، عاش في كِبَرِه يلهث خلف بريقٍ زائل، ورضًا لا يُنال، وتقديرٍ لا يُعطى إلا للراسخين.
فدعوا الطفولة تكتمل، ودعوا العقول تُستكمَل، واتركوا للمستقبل جَمالَه، وكفوا عنهم ضوضاء الشهرة، واصرفوا عنهم ضجيج الظهور، ودعوهم ينضجون كما تنضج الثمار في أغصانها، بعيدًا عن لَغَط الناس وضجيج الدنيا.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين