بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
مما قال فضيلة الأستاذ الدكتور محمد أبو موسى في درس شرح كتاب «دلائل الإعجاز» بالجامع الأزهر الشريف.
يوم الأحد: 13 ربيع الآخر 1447ه الموافق لـ 5 من أكتوبر 2025م:
• المهمُّ التدبُّرُ والوعيُ والفَهْمُ الصَّحيح؛ الفَهْمُ الذي يَصِل بك إلى درجه الفقه؛ حتى تكون فقيهًا فيما أنت فيه.
• الفقيهُ ليس هو عالِمَ الفِقْه، الفقيهُ هو مَن يَفْقَه ما هو فيه ولو كان في عالَم الصِّناعة.
• يمكن أن تَجد في الصِّناعات فقيهًا، وفي الهندسة فقيهًا، وفي الطبِّ فقيهًا؛ لأن الفِقْه هو مَحْضُ المعنى وخلاصةُ المعنى؛ فلا بُدَّ أن تحرصوا على أن تكون عقولُكم عقولَ فقهاء في الذي أنتم فيه.
• تعليقًا على قول الإمام عبد القاهر: «لكان قولُ العلماء في شاعرٍ»، قال شيخُنا: ههنا أمرٌ يَروقُني أن أتعلَّمه؛ هو أن الشيخ عبد القاهر يقول لنا: إن العلمَ الذي أكتبه لك ليس علمًا، وإنما هو استنباطاتي من كلام العلماء؛ فخُذْه على أنه علمُ العلماء، وعلى أنني فقط استنبطتُ من كلام العلماء، وإنك يمكن أن تكون عالِمًا وليس لك من العلم شيءٌ إلَّا أنك استنبطتَه من كلام غيرك.
• عليكم بالاستنباط، والاستنباطُ لا يكون إلَّا بالتدبُّر، والتدبُّر هو الذي يُحيي المعرفة، والغفلةُ تُمِيت المعرفة؛ فاحذروا أن تُميتوا المعرفةَ بغفلتكم، واحرصوا على أن تُحْيُوا المعرفةَ بتدبُّركم، وهذا كلُّه كلامُ عبد القاهر، وليس لي منه شيء.
• الشاعرُ يأخذ المعنى من غيره لا يأخذُه كما قاله غيرُه، وإنما لا بدَّ أن يُعمِلَ فيه عقلَه، وما دام قد أعملَ عقلَه فلا بدَّ أن يُحْدِثَ فيه تغييرًا. هذه مسألةٌ بسيطةٌ كلُّ أحدٍ يَعرِفها.
• حين يأخذ العالِمُ المعنى البسيط جدًّا، الواضحَ جدًّا، البيِّنَ جدًّا، ويُعمِل فيه عقلَه يُخرِج منه علمًا جليلًا وفكرًا جليلًا.
• لا بدَّ للعقل أن يَصنع شيئًا في كل ما يقرؤه.
• عبدُ القاهر يقول لك بغير لسانِه: إذا قرأتَ المعرفةَ وعلَّمْتَها للناس كما قرأتَها تكون «بعد الصِّفر» بنصف خُطوة، والمفروضُ أن المعرفةَ ما دامت دَخلتْ في عقلك فلا بدَّ أن تَخرج من عقلك وقد أَفرغَ عليها عقلُك شيئًا منه.
• أقرأ النَّحوَ في كتاب «سيبويه»، وأجِدُ مَن جاء بعد «سيبويه» وقد أَفرغ عقلُه على كلام «سيبويه» شيئًا، إنما أن يأتيَ الذي بعد «سيبويه» ويُحدِّثَ بما حدَّث به «سيبويه» فكأنه ليس موجودًا، وكأن الذي أسمعُه هو «سيبويه».
• حين أُحدِّثُك بما تحدَّث به عبدُ القاهر فأنا لست موجودًا، وإنما الذي يُحدِّثك هو عبدُ القاهر، وربما أسأتُ أنا؛ لأن عبد القاهر سيُحدِّثك عن علمِه ببيانٍ أبْيَن وأنا أُحدِّثك عن علمِه ليس ببيانٍ أبْيَن.
• الفرقُ بين التخلُّف والتقدُّم أن التخلَّفَ حافظٌ للمعرفة و«مَحلَّك سِرْ»، هذا إذا كان حافظًا؛ لأنه لو لم يكن أحسنَ الحِفظَ سيكون «للخَلْف دُرْ»، و«للخَلْف دُرْ» و«مَحلَّك سِرْ» لا يُنتجان شيئًا، إنما لا بدَّ أن تتقدَّم المعرفةُ وأن تتقدَّم العلومُ بالعقول التي زاولَتْها.
• حدَّثتُكم قبل ذلك عن قول النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: "وأنا اللَّبِنة"؛ فمن السُّنة ومن اتِّباع هَدْي المصطفى ﷺ أن يقول النَّحويُّ: «وأنا اللَّبِنة»، وأن يقول الطبيبُ: «وأنا اللَّبِنة»، وأن يقول الرياضيُّ: «وأنا اللَّبِنة»، وألا يكون في أُمَّةِ خيرِ الخَلْق مَن يَحفظُ ولا يُضيف شيئًا لِمَا يَحفظ؛ لأن سيِّد الخَلْق وسيِّد الأوَّلين والآخرين تَميَّز بقولِه: «وأنا اللَّبِنة»؛ فإن كنتَ مِن أمَّته فعليك أن تتميَّز مِن تميُّزه وأن تقول: «وأنا اللَّبِنة».
• لا تَقلْ: «وأنا اللَّبِنة» فقط في العلوم الشرعية، وإنما قُلْ هذا في كلِّ علمٍ ينفع الإنسان؛ لأن العلومَ التي يَرفعُ الله بها الناسَ درجاتٍ ليست هي «التفسير والفقه والحديث» فحسب، وإنْ كانت هذه في صدارتها، وإنما كلُّ ما يَنفعُ الناسَ هو علمٌ.
• خاطَب الشيخُ حضورَ الدرس قائلًا: لا بدَّ أن تَفهمُوا بسرعة؛ لأنه لم يَعُدْ عندي طاقةٌ لأُكرِّر.
• تعليقًا على استقواء الإمام عبد القاهر بعباراتٍ للأوَّلين، قال شيخُنا: «كلُّ هذا أنا أفهم منه أن عبد القاهر يقول لك: لا تَنخدعْ فيَّ، ولا تظنَّ أني عالِم، ولكنْ اعلم حقيقتي، وهي أنني لستُ إلَّا متدبِّرًا لكلام العلماء». يا سلام! يا سلام على الكرام الكبار!
• البلاغةُ قبل عبد القاهر كانت رموزًا وإشاراتٍ، وكلُّ الذي فعلَه هو شَرحُ الرُّموز والإشارات، ومَن شَرحَ لا يُقال فيه إنه جاء بعِلْم، وإنما يُقال فيه إنه بيَّن العلم.
• لا بدَّ أن تقرأوا القراءةَ التي تَجعل الكتابَ الذي بين أيديكم كتابًا ناطقًا بلسانٍ مُبين؛ كأنه شخصٌ يُكلِّمك.
• تعليقًا على قول الإمام عبد القاهر: «مثالُ ذلك أن القاضيَ أبا الحَسَن ذكر»، قال شيخُنا: هذا فيه إشارةٌ إلى العقليات التي صَنعتْ عقليةَ عبد القاهر، وهذا جيدٌ جدًّا؛ لأنه يَدلُّني على مَن صَنَعوه، وأن الذين صَنَعوا هذه العقليةَ الجليلةَ أحدُهم عليُّ بن عبدالعزيز الجُرجاني.
• تعليقًا على قول أبي نُوَاس:
خُلِّيَتْ وَالْحُسْنَ تَأْخُذُهُ *** تَنْتَقِي مِنْهُ وَتَنْتَخِبُ
قال شيخُنا: جيدٌ جدًّا أبو نُوَاسٍ هذا، وأنا قلتُ لكم إن هؤلاء الناس الذين كانت لهم معصيةٌ أدعو الله - سبحانه وتعالى - أن يَغفِرَها لهم؛ لأن لهم عطاءً عقليًّا بالغَ الجودة؛ ولذلك أبو نُوَاسٍ قبل أن يموت رجَع إلى الله رجعةً وأنا أقرأ كلامَه في رجوعه إلى الله أتمنى أن يكون لي قلبٌ كقلبه حين رجَع إلى الله.
• حين أقرأ لأبي نُوَاسٍ شعرًا في الفُجور والمُجون لا أُطِيقه ولا أستطيع أن أتكلَّم به، لكنْ حين أرى هذا الفاسقَ الفاجرَ يَهدِيه عقلُه إلى هذه الصُّورة: (خُلِّيَتْ وَالْحُسْنَ) أَعْجَبُ كيف يَهدي اللهُ هذا العقلَ الفاجرَ إلى هذا المعنى الجليل.
• مِن أعظمِ عطاءِ الله للإنسان المعاني الحَسَنةُ الجيِّدةُ التي هي غذاءُ قلبِه، وغذاءُ عقلِه، وتكوينُ ذات نفسِه.
• الشِّعْرُ علمٌ مجهولٌ متروكٌ، وكلُّه خير، وكلُّه عطاء، وكلُّه غذاءٌ عَذْبٌ حُلوٌّ للنفس الإنسانية.
• تعليقًا على قول بشَّار:
خُلِقْتُ عَلَى مَا فِيَّ غَيْرَ مُخَيَّرٍ *** هَوَايَ وَلَوْ خُيِّرْتُ كُنْتُ الْمُهَذَّبَا
قال شيخُنا: رائعٌ جدًّا «بشَّار» وهو يعترف ويقول: «لا يُغْضِبْك منِّي سوءُ أخلاقي؛ لأني لم أُخيَّرْ أخلاقي، خُلِقْتُ على ما فيَّ؛ فلا تَلُمْنِي على ما فيَّ، ولو خُيِّرتُ كنتُ المهذَّب، ولكني لم أُخيَّرْ». أرأيتَ هذا المعنى الجليلَ الذي لو قرأتَ عشرةَ كُتبٍ لمَا وصلتَ إلى هذه الفكرة الرائعة التي وضعها لك «بشار» في سطرٍ واحد!
• أهمُّ شيءٍ أن تَصنعَ مِن نفسك الإنسانَ الأفضل، أهمُّ شيءٍ أن تَعتقد أنك حين تَشْهدُ أنْ لا إله إلَّا الله وأن محمدًا رسولُ الله = تكونُ مِن خير أُمَّة أُخْرِجتْ للنَّاس، وما دمتَ مِن خير أُمَّة أُخْرِجتْ للنَّاس فلا بدَّ أن تَجتهد حتى تكون مِن خير الناس.
• ما دام يَقِيني أنني مِن خير أُمَّة أُخْرِجتْ للنَّاس فلا يَجوزُ لي أن أقبل أن أكونَ مِن سِفْلَة الناس.
• لا يَجوز لخير أُمَّة أُخْرِجتْ للنَّاس أن تعيش على صناعة الناس، ولا أن تعيش على عطاء الناس. هذه إساءةٌ إلى الأمَّة، وإلى سيِّدها صلَّى الله عليه وسلَّم؛ فلا بدَّ أن تكون خيرَ أُمَّة في عِلْمها، خيرَ أُمَّة في صناعتِها، خيرَ أُمَّة في دوائها، خيرَ أُمَّة في طِبِّها، خيرَ أُمَّة في فقهها.
• نحن فَهِمْنا أن الدِّينَ صلاةٌ وصيام. لا؛ الصَّلاةُ والصِّيامُ جزءٌ أساسٌ لكنهما ليسا كلَّ الدِّين.
• تدبُّرًا لقول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ}، قال شيخُنا: تعلَّمتُ في ألِفْ باء العِلم أنه ما دام عطفَ إقامةَ الصَّلاة على عمل الصَّالحات فلا بد أن يكون عملُ الصَّالحات غيرَ إقامة الصَّلاة؛ لأن الشيءَ لا يُعطَف على نفسِه؛ فبدأتُ أفهمُ أن «عَمِلوا الصَّالحات» معناها أنهم عَمِلوا الأعمالَ التي تَصلُحُ بها حياتُهم، وكما أن إيتاء الزكاة غيرُ إقامة الصَّلاة فكذلك إقامةُ الصَّلاة غيرُ عمل الصَّالحات.
• جعلَ اللهُ «آدمَ» في الأرض خليفةً لعمل الصَّالحات لا لأجل الصَّلاة والصَّوم، وإلَّا لكان ظَلَّ في السَّماء مع الملائكة الذين لا عمل لهم إلَّا الذِّكرُ والتسبيح، وإنما أسكنَه اللهُ الأرضَ لإعمارها بالعمل الصالح.
• أَمَتْنَا كلمةَ «عَمِلُوا الصَّالحات» بأنْ حَصَرْناها في الصَّلاة والصِّيام.
• تعليقًا على قول «بشَّار»:
خُلِقْتُ عَلَى مَا فِيَّ غَيْرَ مُخَيَّرٍ *** هَوَايَ وَلَوْ خُيِّرْتُ كُنْتُ الْمُهَذَّبَا
قال شيخُنا: قلتُ لكم مرةً إنه لو كانت معي مفاتيحُ الجنَّة لأعطيتُ «كُثيِّرًا» منها مفتاحًا، كذلك لو معي مفاتيحُ الجنَّة لأعطيت «بشَّارًا» منها مفتاحًا، والمصيبة السَّوداء أنها لو كانت بيدي لأعطيتُ أبا نُوَاسٍ منها مفتاحًا؛ لأنهم أنتجوا ما يَسقِي القلوبَ، وأنا أحبُّ كلَّ من يُحاول أن يَقطُر في قلوب الناس قطرةً مِن عِلم، أو قطرةً مِن خير، أحبُّ كلَّ شيء يَصنعُ الإنسانَ الأكرم.
• أقرأ في التفسير، وأقرأ في الفِقْه، وأقرأ في البلاغة، وأقرأ في النَّحو، وأقرأ في التاريخ، لكنِّي أجِدُ في الشِّعر شيئًا آخر.
• لن يَطرد الخساسةَ مِن حياة الناس إلَّا رفْضُ الناس للخساسة؛ حين تَعِظُ الخسيسَ لن يَنفعَه وعظُك، إنما إذا أحسَّ أنك تَرفضُه، وأن المجتمعَ يَرفضُه، وأن الأرض تَرفضُه، وأن الهواء يَرفضُه = فلا بدَّ أن يتغيَّر؛ حتى يعيش مع الناس.
• البلادُ إذا عنصرُ الخساسة زاد فيها فقد ذهبتْ إلى الهاوية؛ لأن البلادَ لا يَحمِيها إلَّا الكرام، فإذا أُهِينَ الكرامُ في بلادهم فلن تَجِدَ بلادُهم مَن يَحميها.
• لن يَحمِيَ الترابَ إلَّا الكرام، فإذا اضطُهد الكرامُ على تُرابهم صار تُرابُهم مباحًا ومستباحًا؛ لأن حُماتَه أُهينوا.
• الكلامُ في الشِّعر كلامٌ في غاية الأهمية، وهو الشيءُ الذي يَصنعُ منك إنسانًا أفضل، فإن كنتَ تَرومُ أن يكون منك إنسانٌ أفضل، وأن تُربِّي جيلًا أفضل، فعليك بالمعاني وعليك بالشِّعر.
• تمهيدًا للكلام على الفقرة رقم (582)، قال شيخُنا: نحن الآن فرغنا مِن بابَيْن من الشِّعر: بابٌ للمعنى فيه صورتان، إحداهما فيها صَنْعةٌ والأخرى ليست فيها صَنْعة، وبابٌ للمعنى فيه صورتان كلتاهما فيها صَنْعة، وأنا أحبُّ هذين البابين حبًّا شديدًا، وكنت أحفظ شعرَهما.
• حين أتدبَّر البابين اللَّذين ذكرهما عبدُ القاهر في صور المعاني أقول: عبدُ القاهر يقول لنا: وأنتم تَدرُسون الشاعرَ ابحثوا له عن صُور المعاني التي ذكرها مرةً غير مجوَّدة ومرةً مجوَّدة، وابحثوا عن صور المعاني التي جوَّدها في المرتين، وهذا عند شاعرٍ واحد، فكيف به عند طبقة من الشُّعراء! فكيف به في الشِّعر كلِّ الشِّعر!
• مِن أفضلِ الشِّعْرِ وصفُ الشعراء عَملَ الشِّعر.
• نحن في بيت الله، والمبالغاتُ والمزايداتُ حرَّمها الله على السُّوقة في كلامهم، فكيف بها في مجالس العلم؛ فأقول لك: إن أفضلَ الشِّعر ما قيل في صناعة الشِّعر.
• فكَّرتُ في مرحلةٍ من مراحل حياتي أن أجمَعَ كلَّ ما قاله الشعراءُ في أوصاف الشِّعر؛ لأني وجدتُ هذا يَكثُر أحيانًا عند بعض الشعراء، ويَقِلُّ أحيانُا عند بعض الشعراء، ويَنعدِم أحيانًا عند بعض الشعراء، وقلت لنفسي: «لو أنك تركتَ كتابًا فيه حديثُ الشعراء عن الشِّعر لكنتَ قد تركتَ لهم خيرًا»، وهذا مهمٌّ، ولكنِّي لم أفعل.
• كلامُ الشعراء في صناعة الشِّعر مِن أهمِّ ما فيه الغموضُ، وشِعرُهم في صناعة الشِّعر غيرُ شعر المديح؛ لأن صنعة الشِّعر صَنْعةٌ دقيقة، والبيانَ عنها دقيقٌ جدًّا جدًّا؛ ولذلك لا تَجِدُ المجازَ يَكثُر في كلامٍ كما يَكثُر في حديث الشعراء عن صَنْعة الشعر.