بسم الله الرحمن الرحيم
الخطبة الأولى:
أما بعد:
فيا إخوة الإيمان إننا نعيش اليوم زماناً انقلبت فيه الموازين، وانعكست فيه المعاييرُ، زمن يسمى فيه العالم جاهلاً، والجاهل عالماً، والبليد الغشاش المزور شاطراً ذكياً، والمخلص المجدّ بليداً، والشريف وضيعاً، والوضيعُ شريفاً، والخائنُ أميناً، والأمينُ خائناً، والفاسد المفسد صالحاً مصلحاً، والصالح المصلح فاسداً مفسداً، والفاسق الفاجر الإباحي متحرراً، والمتحرر المتعفف الحيي مكبوتاً.. واللئيم كريماً، والكريمُ لئيماً، والجبان الراضي بالذِّلَّةِ والمَهانةِ الساكت عن الجهر بكلمة الحق المهادنُ للباطل رجلاً رصيناً متعقلاً، والناطق بكلمة الحق الصامد في وجه الطغيان والاستبدادِ والفسادِ مُتسيِّباً متهوراً متسلِّطاً، والمثقف المبدع شيطاناً، والشيطان المضلل مثقفاً.
وكذلك يسمى المجاهد إرهابياً، والإرهابي مجاهداً، والمستعمِر المغتصِب بريئاً ومضطهداً، والمستعمَرُ المشرد المقتَّلُ المدافع عن أرضه ووطنه وعرضه مخرباً ومجرماً.
والعاريةُ العارضةُ لعرضها وشرفها المتبرجة بزينتها في الشوارع المتمردة على دينها تقدمية... والساترة لجسمها المحافظة على عرضها الملتزمة أوامر ربِّها قبورية رجعية.
والمتمسِّكُ بآداب الإسلام في كل أحواله متطرفاً متعصباً، والمتفلِّتُ المتحللُ من قيود الدين المبتدع المعرض عن القرآن والسنةِ المفسِّر لهما بأهوائه مسلماً معتدلاً.
مصطلحات كثيرة أيها الإخوة دخلها تشويشٌ وتشويهٌ، والتشويشُ أصبح له (رجالٌ)، وللتشويه وسائلُ كثيرةٌ ومتعددةٌ، مقروءةٌ ومسموعةٌ ومرئيةٌ، ووراءَ كل ذلك كتائبُ وعقولٌ وطاقاتٌ مدرَّبةٌ ومبرمجةٌ وموجَّهةٌ ومزودةٌ بإمكاناتٍ, رهيبةٍ, تطلق القذائفَ ليلاً ونهاراً، صباحاً ومساءً.
إننا نعيش هذه الأيامَ زمنَ النفاق، نعيش النفاق بنوعيه: الأكبرُ وهو الاعتقادي، والأصغرُ وهو العملي.
لقد ذاق المسلمون صنوف الأذى من هؤلاء المنافقينَ المُندَسِّينَ في صفوفهم منذ ظهور الدولة الإسلامية بقيادة محمد - صلى الله عليه وسلم -، وحتى يومِنا هذا.
شكَّلَ ويُشَكِّلُ هؤلاءِ أخطرَ فئةٍ, قادرةٍ, على الإفسادِ، لأنَّهم في وسطِنا وأعماقِ صفوفِنا، يُصلٌّونَ معنا، ويَصومونَ، ويَحُجٌّونَ، ويُنفِقونَ.
والله - تبارك وتعالى - صنَّف عباده في أول سورة البقرة إلى مؤمنين وكافرين ومنافقين، وأنزل في ذلك عشرين آية في أول هذه السورة، منها ثلاثُ آياتٍ, في وصف المؤمنين، وآيتان في وصف الكافرين، وثلاث عشرة آية في وصف المنافقين، بيَّن فيها أحوالهم، وكشف أسرارهم، وصور طبائعَهم ونفسياتِهم وطريقةَ تفكيرهم ومنطقَهم.
وقد تحدث القرآن عن المنافقين في مواضعَ كثيرة، وفي سورٍ, عديدةٍ,، وأكثر ما تحدث عنهم في سورة التوبة، حتى سميت الفاضحة، لأنها فضحتِ المنافقين، وكشفت أحوالَهم، وبَيَّنَت أسرارَهم ودواخلَهم وخُطَطَهم، ثم خُصِّصَت سورة بأكملها للمنافقين، كشفت أيضاً أسرارَهم وأساليبَهم، وبينت شيئاً من خُطَطِهِم، سمِّيَت سورة المنافقين.
كلٌّ هذا لتحذير المجتمع المسلم من خطر هذا العدو الهدام الذي يحاربهم من داخلهم، ويسعى إلى تدميرهم خلسةً وخفيةً، حتى لا تراه الأعينُ، ولكن يجب أن تكتشفه البصائر.
إن أهمَّ سِمَةٍ, وأخطرَ صفةٍ, لهذا العدو الهدَّام المدمر هي صفة الخفاء، فهو داخلَ المجتمع المسلم، يُظهِرُ التعاطفَ معه، ويُخفِي كفرَه وعداوتَه معه في باطنِه، فالمكرُ والخداعُ والكذبُ هي أساليبه وأدواته، لكن إذا سنحتِ الفرصة، ووجد ثغرةً ينفذ منها لضربِ المسلمين فإنه يكون حينئذ أشدَّ قسوةً ووحشيةً ونكايةً للمؤمنين من أي عدو مجاهر (( كَيفَ وَإِن يَظهَرُوا عَلَيكُم لاَ يَرقُبُوا فِيكُم إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرضُونَكُم بِأَفواهِهِم وَتَأبَى قُلُوبُهُم وَأَكثَرُهُم فَاسِقُونَ ))[التوبة: 8].
إن قدرة المنافقين على التحرك في الخفاء، وسعيهم لتدمير المجتمع المسلم من داخله جعل خطرهم أشد وأعظم وأنكى من خطر العدو المجاهر الكافر المعلن لكفره ولعداوته، لأن أمر العدو الكافر المجاهر واضح للعيان، فيأخذ المسلمون حيطتهم منه واستعدادهم له، بخلاف هذا العدو الهدام الخفي المتسلل بين صفوفنا، بخلاف المنافقين وقد تسللوا إلى داخل المجتمع المسلم، وتشكلوا بشكله، وتصوروا بصورته، فإنهم كإبليس وجنوده يروننا من حيث لا نراهم، وقد نغترٌّ بِظَوَاهِرِهِم ونَركُنُ إليهم، ونسند إليهم بعض شؤوننا يديرونها، ونسلم إليهم بعض أمورنا يدبرونها، وربما فعلنا أكثر من ذلك.
إذا كانت الغفلة فينا نحن المسلمين مستحكمةً ربما اتخذناهم بطانةً نأتمنهم على أسرارنا، ونُسَلِّطُهُم على دواخِلنا، وفي ذلك الخطرُ كلٌّ الخطر، وأعظمُ من هذا خطراً إذا تمكن هؤلاء المنافقون من التقرب من ولاة المسلمين وأمرائهم وحكامهم، ونالوا الحظوة لديهم، وأصبحوا من أعوانهم المقربين، وقد يُسندون إليهم أشدّ الأعمال خطراً وشأناً، وأعظمها وأهمها شأناً، فيطلع هذا العدو الخفيٌّ الهدّامُ على أسرار المسلمين، ويكتشف مكامنهم ومداخلهم ونقاط الضعف فيهم، حتى إذا جاءت الفرصة أنشبوا أظفارهم ومخالبهم، وكشروا عن أنيابهم.
(( الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُم فَإِن كَانَ لَكُم فَتحٌ مّنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَم نَكُن مَّعَكُم وَإِن كَانَ لِلكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَم نَستَحوِذ عَلَيكُم وَنَمنَعكُم مّنَ المُؤمِنِينَ))[النساء: 141].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، أغاث قلوب المؤمنين بالإيمان، ونكس قلوب المنافقين، فكان النفاق فيها كمثل القرحة يمدها القيح والدم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، ما فتئ يجاهد المنافقين حتى أظهره الله عليهم، صلى الله وسلم عليه وعلى سائر الأنبياء والمرسلين.
أما بعد:
فيا إخوة الإيمان إنَّ الله - تبارك وتعالى - من رحمته لعباده المؤمنين، ولطفه بهم، ورعايته لهم، حذرهم من هذا العدو الخفي المدمر، حذرهم من المنافقين ومن اتخاذهم بطانة، والركونِ إليهم، والانخداعِ بظواهرهم.
حذرنا نحن المؤمنين من ذلك أيَّما تحذير، إنه تحذير مفصل واضح كالشمس، قال - تعالى -: (( يا أَيٌّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مّن دُونِكُم لاَ يَألُونَكُم خَبَالاً وَدٌّوا مَا عَنِتٌّم قَد بَدَتِ البَغضَاء مِن أَفواهِهِم وَمَا تُخفِى صُدُورُهُم أَكبَرُ قَد بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُم تَعقِلُونَ هَاأَنتُم أُولاء تُحِبٌّونَهُم وَلاَ يُحِبٌّونَكُم وَتُؤمِنُونَ بِالكِتَابِ كُلّهِ وَإِذَا لَقُوكُم قَالُوا ءامَنَّا وَإِذَا خَلَوا عَضٌّوا عَلَيكُمُ الأنَامِلَ مِنَ الغَيظِ قُل مُوتُوا بِغَيظِكُم إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصٌّدُورِ إِن تَمسَسكُم حَسَنَةٌ تَسُؤهُم وَإِن تُصِبكُم سَيّئَةٌ يَفرَحُوا بِهَا وَإِن تَصبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرٌّكُم كَيدُهُم شَيئاً إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعمَلُونَ مُحِيطٌ ))[آل عمران: 117-120].
فالله - عز وجل - يحذرنا في هذه الآيات أن نتخذ الكافرين والمنافقين بطانة، أي أصدقاءَ وخواصَّ ومستشارينَ، نطلعهم على أسرارنا ودخائلنا، لأنهم لا يترددون في تدميرنا وإلحاق الأذى والضرر بنا بكل وسيلة ممكنة لهم، ويتمنون ما يشقينا ويتعبنا ويضنينا ويدمرنا، يَسُرٌّهُم ذلك ويُحِبٌّونَهُ ويَسعَونَ إليه.
لكن عندما غفل المسلمون حكاماً ومحكومين، عندما تحكمت فيهم شهواتهم فحجبت عقولَهم وبصائرَهم عن هذا الجانب الخطير، ركنوا إلى المنافقين، واستخدموهم واستعانوا بهم، واتخذوا البطاناتِ منهم، فأخفَى المنافقون في بواطنِهم العداوةَ والبغضاءَ للإسلامِ وأهلِهِ، وأظهَرُوا لنا حلاوةَ اللسان، ولينَ الجانبِ، والتفانيَ في إرضائنا وخدمتنا، فكانَ اتخاذُ البطانة من هؤلاء المنافقين، من أكبر الأسباب والعوامل لتدمير الدول الإسلامية، وحلول الكوارث والنكبات العظيمة على المجتمع المسلم كله.
وبعد أيها الإخوة إذا تقرر محنة الإسلام والمسلمين بالمنافقين قديماً وحديثاً، وتأكد أَنَّ أهمَّ سِمَةٍ, وأخطرَ صفةٍ, لهم هي صفةُ الخفاءِ، كان لابد من بيان سماتهم، والتعرفِ على علاماتِهم حتى يحذرَ المسلمون شرورَهم.
هذا وصلوا وسلموا على محمد سيد الأولين والآخرين، وأفضل الخلق أجمعين، اللهم صل وسلم عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وارض اللهم عن الخلفاء الراشدين، وعن الصحابة أجمعين، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد