بسم الله الرحمن الرحيم
روى ابن ماجة في سننه عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: (سيأتي على الناس سنوات خداعة يُصَّدق فيها الكاذب، ويُكذَّب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن ويخون فيها الأمين، وينطق فيها الرويبضة)، قيل: وما الرويبضة؟ قال: (الرجل التافه يتكلم في أمور العامة).
وعند أحمد عن أبي هريرة: (إنها ستأتي على الناس سنون خداعة يصدق فيها الكاذب ويكذب فيها الصادق، ويؤتمن فيها الخائن ويخون فيها الأمين وينطق الرويبضة، قال سريج: وينطق فيها الرويبضة).
هذا الحديث يبين أن هناك مراحلاً زمنية تمر بها الأمة، يحدث فيها انقلاب للأوضاع فيعد المعروف منكراً، والمنكر معروفاً، وهو أمرٌ ناتج عن انحراف الناس عن دينهم، في التصورات والمفاهيم، والسلوك والأخلاق، والموازين والقيم.
وإلا فكيف يصدق الكاذب الذي ليس له إلا النبذ والتكذيب، وكيف يكذب الصادق الذي يجب أن يؤخذ بقوله، ويحترم كلامُه ويبنى عليه المواقف والأحكام، ويدل الحديث أيضاً على أمرٍ, خطير آخر وهو ائتمان الخائن الذي يجب الأخذ على يده، وحماية الأمة أفراداً وجماعات من خيانته، وتجريده من مكانته الاجتماعية والسياسية بإقالته من مناصبه وأعماله التي تتعلق بعموم الأمة. وفي انقلاب الأوضاع هذا يقصى الأمين ويخوَّن، ولا يوضع في المكان المناسب من عمل وقيادة وتوجيه، لأنه في نظرهم خائن.
وهكذا تفسد الحياة وتأسن بسيطرة المفسدين على مقاليد الأمور، وإبعاد الصالحين الجادين الذين يسعون في إصلاح البلاد والعباد، ولم يبق في مواطن التوجيه والقيادة إلا المفسدون أصحاب الأهداف الدنيئة والأفكار السخيفة والاهتمامات التافهة، ومن هذه الاهتمامات التافهة: البرامج التي تقع في ضمن ما يسمى بالعواصم الثقافية حيث نجد معظمها رقصاً وغناءً ومسرحيات وتمثيليات لا يحصل بها ثقافة صحيحة ولا تنوير بالحقوق والواجبات ولا هدىً إلى خير ينفع.
وهذا هو الانقلاب الحقيقي للموازين والأوضاع: إن أمور العامة وشئونهم وتدبيرها يجب أن يناط ويسلم إلى أهل الصلاح والجد، وأهل السلامة في العقيدة والسمو في الخلق والجدية في السلوك، لكن انعكست الأمور فأبعد الصالحون وقُرِّب الفاسدون التافهون، وليس المقصود بالتفاهة هنا عدم الذكاء، إذ قد يتولى أمور العامة من كان ذكياً ولكن ليس زكياً، فقد يكون ذكياً في إفساد أمور العامة، ولكن ليس زكياً صالحاً يسعى في الإصلاح، بل يحاول إبعاد المصلحين واتهامهم بالخيانة والكذب والإفساد.
إن هؤلاء مثل قوم وصفهم الله عز وجل بأن لهم قلوباً وأعيناً وآذاناً لكنهم لا ينتفعون بها في إصلاح أنفسهم و اتباع هدى الله، ومن كان هذا حاله فكيف يُصلح الناس؟ قال تعالى: \"ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون\"الأعراف179، وقال سبحانه: \"ومنهم من يستمع إليك، وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً \" ... الأنعام25، فتأمل كيف أثبت الله لهم قلوباً وآذاناً وعيوناً لكن لا ينتفعون بها، فهم كالأنعام في حياتها واهتماماتها .. قال تعالى: \".... يتمتعون ويأكلون كما تأكل الأنعام والنار مثوىً لهم\".
إن انحصار الاهتمام بالدنيا ومتاعها، والعمل من أجلها دون النظر إلى الآخرة التي تعني الاهتمامات العليا وتعني الاهتداء إلى الدين الحق والدين الصحيح، وتعني التمسك الحق بالدين الحق، والسعي المتواصل إلى الوصول إلى ما يحبه الله ويرضاه من العقائد والمفاهيم والتصورات، والقيم والموازين والأخلاق، والسعي إلى نشر هذه القضايا والأمور بين العامة، والسعي لتطبيقها عليهم وجعلهم يحتكمون إليها، وتعني المضي قدماً في إزالة الفساد والمفسدين والتافهين. كما قال الله تعالى: \"والذين يمسِّكون بالكتاب وأقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين\" الأعراف170.
فالإصلاح إذن هو إقامة فرائض الدين وتحكيم الكتاب في حياة الناس وشئونهم. فمن لم يقم بذلك فليس بمصلح وإن زعم الإصلاح قال تعالى: \"وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون، إلا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون\".
هذا هو الميزان الشرعي الذي يجب أن توزن به الأمور لا أن نأخذ موازيننا من أهوائنا أو عاداتنا أو تقاليدنا أو الأفكار الدخيلة سواء كانت غربية أو شرقية.
إن الزمان الذي نعيش فيه هو الزمان الذي انقلبت فيه الموازين والأوضاع، وهو الزمان الذي نطق فيه الرويبضة ونظر ، ودبر شئون الناس، وتدخل في حياتهم، وتقلد فيه زمام التوجيه والقيادة.
وهذا هو أحد أمراض الأمة التي تعيشها، وهو أحد أسباب انحطاطها وانهزامها، بل هو من الأسباب الخطيرة التي لها ثقل عظيم في إفراز هذا الواقع الأليم الذي تعيشه الأمة، حيث استهان الأعداء بها ولم يعبأوا بصغير ولا كبير فيها، فاحتلت أراضيها، وسفكت دماؤها، وانتهكت أعراضها، ولا من مغيث ولا منقذ من هؤلاء الرويبضات الذين تسلَّطوا على زمام الأمور وعشعشوا في زوايا الأمة، وأفسدوا كل خير فيها.
فما هي مظاهر سيطرة الرويبضات في عصرنا هذا؟
المظاهر كثيرة، ويمكن ذكر بعضها على سبيل المثال، فمنها:
أولاً- القول على الله بغير علم وشيوع الكلام في أحكام الدين لكل من هب ودب:
حيث قد شاع لدى الكثير من أحداث الأحلام والمجترئين على الفتوى سهولة الكلام في أحكام الإسلام وإبداء الرأي في كل ما يتعلق بذلك، ويدخل في ذلك طلاب العلم المبتدئون أو عوام الناس أو ممن يسمون أنفسهم مثقفين أو إعلاميين أو صحفيين أو غير ذلك.
قال تعالى: \"ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولاً\".
ثانياً- ضياع العدل في الحكم بين الناس والفصل بينهم:
وذلك بتولي كثير من القضاة المختلسين الذين همهم جمع أكبر قدر ممكن من المال، وهم يعلمون حرمة الرشوة، ولكن اهتماماتهم التافهة وإيثارهم الدنيا على الآخرة أدى ويؤدي إلى انتشار الظلم وشيوع الفوضى، حيث يأخذ كل واحدٍ, حقه بنفسه، فكثر القتل والثأر والنهب وقطع الطريق.
ثالثاً- ضياع التعليم والتربية الصحيحة:
بتولي من ليس أهلاً للتعليم والتربية في المدارس والجامعات، فيتولى إداراتها كثير ممن ليس له هم حقيقي في الإصلاح إلا الكسب التجاري من وراء الوظيفة، ولا ريب أن هذا يؤدي إلى إفساد الأجيال وضياعها.
رابعاً - انتشار المفاهيم الخاطئة والمنحرفة:
بسبب سيطرة الكثير من الرويبضات على مصادر التوجيه من وسائل الإعلام المختلفة المسموعة والمرئية والمقرؤة، وتغييب المصلحين عنها. ومن ذلك الأفكار القومية:
فأمتنا اليوم تعيش في أحلك فترات تاريخها حيث تسلط عليها عدوها وامتلك زمام قيادتها، وقد لعب القوميون دوراً خطيراً في إيصال الأمة إلى وضعها المأساوي الذي تعيشه، ذلك أن القوميين يتبنون أفكاراً ومعتقدات ضالة تخالف الإسلام بل وتسعى إلى هدمه.
فالفكر القومي يعلي من شأن رابطة الدم على حساب رابطة الدين، فأساسها إبعاد الإسلام عن معترك الحياة، فهي ردة إلى الجاهلية، وضرب من ضروب الغزو الفكري الذي أصاب الأمة الإسلامية، لأنها في حقيقتها صدى للدعوات القومية التي ظهرت في أوروبا.
ومن ضلالات الفكر القومي أنه هدف بزعمه إلى تحرير الإنسان العربي من الخرافات والغيبيات والأديان، لذلك تبنى شعار \"الدين لله والوطن للجميع\"، والهدف من هذا الشعار إقصاء الإسلام عن أن يكون له وجود فعلي من ناحية، وجعل أخوة الوطن مقدمة على أخوة الدين من ناحية أخرى.
ويقرر الفكر القومي أن الوحدة العربية حقيقة أما الوحدة الإسلامية فهي وهم.
وللأسف أن قريباً من هذا نجده في بعض مناهج التعليم، في مادة التربية الاجتماعية للصف الرابع الابتدائي \"تعتبر الوحدة العربية نموذجاً يحتذى، ولبنة على طريق الوحدة العربية والتضامن الإسلامي\"صـ44.
وموضع النقد هنا أنه لم يقل أنها طريق إلى الوحدة الإسلامية وإنما قال \"التضامن الإسلامي\" وهذا الكلام منطلق من الأفكار القومية الضالة التي يجب تصفية مناهج التعليم منها إن كنا صادقين في دعوى الإسلام!! ودعوى تصحيح المناهج!!
إنه كثيراً ما يتمثل دعاة الفكر القومي بقول الشاعر القروي:
هبوا لي ديناً يجعل العُرب أمة وسيروا بجثماني على دين برهم
سلام على كفر يوحد بيننا وأهلاً وسهلاً بعده بجهنم
يقول بعض دعاة الفكر القومي: إن العبقرية العربية عبرت عن نفسها بأشكال شتى، فمثلاً عبرت ذات مرة عن نفسها بشريعة حمورابي ومرة أخرى بالشعر الجاهلي، وثالثة بالإسلام، وهذا معناه أن الإسلام ليس وحياً من الله، وإنما هو نتاج عن العبقرية العربية، سبحانك اللهم هذا بهتان عظيم.
ونتيجة هذا الكلام وثمرته نجده واقعاً مشاهداً من خلال تمجيد الحضارات الجاهلية في مناهج التعليم ووسائل الإعلام، والنشرات والكتب في الدول العربية، وتعظيم هذه الجاهليات ، ونسبة الأجيال المعاصرة إليها لا إلى الإسلام وهذه لوثة من لوثات الفكر القومي الضال، الذي يمجد كل شيء إلا الإسلام.
لقد فشل القوميون أمثال الناصريين والبعثيين وغيرهم ممن سلك مسلكهم في رفعة الأمة، وتقدمها وتطورها، وكانوا شؤماً عليها وسبب انحطاطها ونكساتها.
فما هي منجزات هؤلاء القوميين في بلادهم؟ إنه الفساد بأنواعه السياسي والاقتصادي والإداري والخلقي والعقدي... وهلم جرا، الفقر والجهل والمرض في معظم البلدان. أما الزعامة والمناصب فهي طريق إلى الثراء والتخمة لأصحابها على حساب بقية أفراد الشعوب.
والأمر يطول في تعداد المنجزات التافهة والخسيسة للقوميين.
وهكذا نجد العالم العربي يعيش في ذيل قافلة الأمم في كافة المجالات.
إن القوى القومية ودولها تعيش حالة فوضى فكرية وسياسية مخيفة، وانحسار كبير، فقد عجزت عن إيقاف حالة التدهور الشاملة التي أصابت الأمة، وظلت تمارس مسلسل التنازلات لأعداء الأمة إلى حد الاستسلام وتسليم الشعوب ومقدراتها لأعدائها.
ماذا قدم عبد الناصر حامل لواء القومية، والذي أشاعها في الأمة، إنه يكفيه عاراً وقوميته التي دعا إليها انتكاسة عام 67 التي نتجرع إلى الآن آلامها ومفاسدها، حيث احتلت كامل أراضي فلسطين واحتلت سيناء والجولان.
وماذا صنع البعث العراقي في الدفاع عن بغداد تجاه غزو الأمريكان المجرمين، بغداد التي يدافع عنها مليون تسقط في ساعات، بينما مخيم جنين بما معهم من أسلحة خفيفة في مقابل الآلات الثقيلة والعتاد المدمر الذي يملكه جيش عصابات اليهود يصمد أكثر مما تصمد بغداد، والآن الفلوجة تصمد هذا الصمود المشرف بما لم يحدث نظيره في بغداد، ولا يظنن أحد أن الذي يصمد هناك هم البعثيون! بل هو الشعب العراقي بما يحمله من عقيدة ودين وإيمان بالإسلام ومبادئه. إذن فيما سبق دلالة على انحلال المبادئ القومية وغيرها مما يخالف الإسلام.
إن القومية العربية دعوة تافهة، وأصحابها تافهون ضالون، وهم أحق من ينطبق عليهم وصف \"الرويبضة\".
يقول سماحة الشيخ ابن باز عن هذه الدعوة: \"دعوة جاهلية إلحادية تهدف إلى محاربة الإسلام والتخلص من أحكامه وتعاليمه\" ويقول: \"هي دعوة باطلة وخطأ عظيم ومكر ظاهر وجاهلية نكراء وكيد سافر للإسلام وأهله\" .أهـ.
ومن مظاهر سيطرة الرويبضات ونظرهم في أمور العامة:
الحكومات الوطنية: فهذه الحكومات جعلت الولاء للوطن بديلاً عن الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين، فإذا تعارض في نظرهم وزعمهم ما يقتضيه الوطن مع أمر الله ورسوله قدموا الوطن وعصوا الله ورسوله، مع أن حقيقة الأمر أن معصية الله ورسوله هي خيانة للوطن، ولن يتعارض ما جاء عن الله ورسوله مع مصلحة الوطن، إذ مصلحة الوطن تكمن في الطاعة المطلقة لله ورسوله.
وللأسف صارت مصلحة الوطن هي مصلحة الزعماء وأصحاب المناصب، حتى صار الوطن يرادف كلمة الزعيم أو الرئيس أو الوزير.
هذه الحكومات الوطنية زادت في تفريق الأمة وتشتيتها وصار بعضها يكيد لبعض ويتآمر بعضها على بعض ولذا تجد أزمة ثقة بين قادتها، فكل واحد خائف من الآخر، ولا يأمن بعضهم بعضاً، بل تجدهم يتسارعون في إرضاء أمريكا ويتنافسون في تنفيذ طلباتها وإن ظهروا إعلامياً أنهم يعارضونها، وذلك لأن كل واحد لا يأمن أن يخذله الآخر إذا وقف موقفاً يشرفه ويشرف أمته، بل لا يأمن أن يتآمر عليه ويكون يداً عليه مع عدوه.
وماذا حصل للعراق؟ لقد تآمروا عليه وهم يظهرون في وسائل الإعلام أنهم ضد الغزو الأمريكي وأنهم لن يوافقوا على استخدام أراضيهم في الهجوم عليه. والحقيقة أن أمريكا غزت العراق بإمكانات الدول المجاورة له وباستخدام أراضيها وبإعطائها البترول الرخيص.
هذا أمر وأمر آخر: نجد هذه الدول تدخل فيما بينها في حروب ومشاكل وسوء تفاهم وسوء علاقات من أجل الحدود المصطنعة.
تبدد ثروات الأمة ويقتل أبناؤها وتعطل طاقات كثيرة وعظيمة من أجل خوض هذه الحروب، التي لا تأت بنتيجة غير الدمار والهلاك، وإنهاك اقتصاد البلد.
ثم نجد الكبر المتداول بين هذه الدول، فلا تريد أي دولة أن تأتمر بأمر دولة أخرى بحجة السيادة، فالدول الكرتونية الصغيرة تريد أن يكون لها صوت مسموع ودور مؤثر في المنطقة وتأبى الانصياع للدول الكبيرة، فمن أجل النكاية بها تفتح أراضيها للمستعمر النجس، وتوجد له قواعد يتحكم بواسطتها وعن طريقها في المنطقة.
أي سيادة هذه تدعيها، وأنت تنتهكها بسيادة أعدى أعداء الأمة الإسلامية، وتكون حينئذ رمزاً للعمالة وخيانة الأمة ودينها وأرضها.
كما رأينا وشاهدنا بعض الدول قد انبطح زعيمها الملهم لأعداء الأمة، فصاروا يبولون ويلقون بنجاساتهم وفضلاتهم عليه ومن تحته شعبه يفحص عليه ويرفس، وقد كشف أسراراً لدول ساعدته ودعمته في بعض مشاريعه النووية إنهم بحق رويبضات هذا الزمان.
هذا غيض من فيض، وسنواصل الحديث عن الرويبضات وزمانهم في حلقة ثانية، إلى اللقاء.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد