هل تعتبر كتب الأدب من مصادر السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي؟
وقبل أن نجيب على هذا السؤال نود أن نجيب على النقاط التالية:
أولاً: ما المقصود بكتب الأدب؟
ثانياً: نماذج من كتب الأدب..
ثالثاً: وهل تعرف كتب الأدب الإسناد كما هو معروف في كتب الأحاديث والسنن؟
رابعاً: ما هي مرتبة كتب الأدب كمصدر من مصادر السيرة النبوية؟
أولاً : المقصود بكتب الأدب
قبل أن نعرّف كتب الأدب.. نعرّف أولاً معنى علم الأدب لأن هذا العلم لم يكن معروفاً بهذا المصطلح في الجاهلية أي قبل الإسلام ولا حتى القرن الأول الهجري وكانوا يطلقون عليه علم العرب أي العلم الذي يهتم بأيام العرب وشعرهم ونثرهم ومقاماماتهم.
وفي كلام حسن للرافعي تحت عنوان (الأدب.. تاريخ الكلمة) يقول: \"تقلبت هذه اللفظة في العربية على ثلاثة أدوار، تتبع ثلاث حالات من أحوال التاريخ الإجتماعيº فهي لم تكن معروفة في الجاهلية وصدر الإسلام إلا بما يؤخذ من معناها النفسي الذي ينطوي فيه وزن الإخلاق وتقويم الطباع والمناسبة بين أجزاء النفس في استوائها على الجملة، وكل ما هو من هذا الباب. ولعل ذلك كان توسعاً منهم في أصل مدلول الكلمة الطبيعي، على ما هو معروف من أمرهم في اشتقاق اللغة وانتزاع بعضها من بعضº فإنهم يقولون: أدَبَ القومَ يأدِبُهم أدَباً، إذا دعاهم إلى طعام يتخذه. والقوم أهل بادية مقفرة تأكل فيها الشمس حتى ظلها، وتشرب نسيمَها وطلّها، فإذا هلك فيها الزادُ هلك حامله، وإذا لم يدفع عن نفسه بأسلحة فمِه فالجوعُ قاتلهº ولذلك تمدّحوا من أقدم أزمنتهم بالقِرى وعدّوه من أعظم مفاخرهمº لأنه شريعة الطبيعة التي أدّبتهم هذا الأدب، بل هو شعرها في أخلاقهم، إذ ارتقى بعد ذلك بارتقاء الشعر حتى تخرّقوا فيه، كما يؤثر عن كرائمهم وأجوادهم مما استوعتبته كتب المحاضرات. ثم لما جاء الإسلام ووضعت أصول الآداب، واجتمعوا على أن هذا الدين أخلاق يتخلق بها، فشت الكلمة، حتى إذا نشأت طبقة المعلمين لعهد الدولة الأموية، أطلق على بعض هؤلاء لفظ المؤدّبين، وكان هذا الإطلاق توسعاً ثانياً في مدلول (الأدب) لأنه اكتسب معنى علمياً إذ صار أثراً من آثار التعليم. ثم استفاضت الكلمة وكانت مادة التعليم الأدبي قائمة بالرواية من الخبر والنسب والشعر واللغة ونحوها، فأطلقت على كل ذلك، ونزلت منزلة الحقائق العرفيةº وهذا هو الدور الثالث في تاريخها اللغوي، وهو أصل الدلالة التاريخية\".
أقول: هكذا مر ت كلمة (الأدب) على ثلاث مراحل تاريخية:
المرحلة الأولى: مدلول الكلمة الطبيعي المشتق من اللغة العربية وهي أشبه بمصطلح لغوي بحت ارتقى زمنياً إلى مصطلح وراثي.
المرحلة الثانية: المعنى العلمي لكلمة الأدب وذلك باتخاذه حرفة نظراً لظهور طبقة المعلمين الذين أطلق عليهم المؤدبين.
المرحلة الثالثة: استفاضة مادة التعليم القائمة بالرواية والخبر والنسب والشعر والنثر واللغة وهو المعني بأصل الدلالة التاريخية لكلمة الأدب.
وقد ذكر ابن خلدون تعريفاً قيماً في حد الأدب: \" هذا العلم لا موضوع له ينظر في إثبات عوارضه أو نفيها. وإنما المقصود منه عند أهل اللسان ثمرته وهي الإجادة في فني المنظوم والمنثور على أساليب العرب ومناحيهم فيجمعون لذلك من كلام العرب ما عساه تحصل به الكلمة من شعر عالي الطبقة وسجع متساو في الإجادة ومسائل من اللغة والنحو مبثوثة أثناء ذلك متفرقة يستقري منها الناظر في الغالب معظم قوانين العربية مع ذكر بعض من أيام العرب يفهم به ما يقع في أشعارهم منها. وكذلك ذكر المهم من الأنساب الشهيرة والأخبار العامة. والمقصود بذلك كله أن لا يخفى على الناظر فيه شيء من كلام العرب وأساليبهم ومناحي بلاغتهم إذا تصفحه لأنه لا تحصل الملكة من حفظه إلا بعد فهمه فيحتاج إلى تقديم جميع ما يتوقف عليه فهمه. ثم إنهم إذا أرادوا حد هذا الفن قالوا: الأدب هو حفظ أشعار العرب وأخبارها والأخذ من كل علم بطرف يريدون من علوم اللسان أو العلوم الشرعية من حيث متونها فقط وهي القرآن والحديث. إذ لا مدخل لغير ذلك من العلوم في كلام العرب إلا ما ذهب إليه المتأخرون عند كلفهم بصناعة البديع من التورية في أشعارهم وترسلهم بالاصطلاحات العلمية فاحتاج صاحب هذا الفن حينئذ إلى معرفة اصطلاحات العلوم ليكون قائماً على فهمها\".
هكذا استبان لنا المقصود بعلم الأدب.
ومن ثم نستطيع أن نعرف كتب الأدب بالتعريف التالي: يقصد بكتب الأدب تلكم التي تعنى بأشعار العرب ونثرهم وأيامهم ومآثرهم، ويكون غرضها ابراز الكلمة العربية وتفسيراتها وابراز محاسنها.. والعناية بالطرفة الأدبية والنكتة البلاغية.. مع اضفاء مادة السرور والمرح في المادة المروية ورسم الصور الخيالية.. كما أن كتب الأدب تعنى بأيام العرب وثقافتهم ومستوى معيشتهم من مأكل وملبس وعادات الشعوب وغير ذلك من جوانب حياة المسلمين في عصر الرسالة.. والعصور الإسلامية المختلفة.. والشعر بصفة خاصة يعتبر وثيقة تاريخية هامة حيث يكون مرآة للحياة الإجتماعية ويصور المعارك ويبرز البطولات ويشيد بأمجاد العرب والمسلمين. فالشعر بحق كما قالوا قديماً: ديوان العرب..
\"ويمكن القول إنه سجلهم النفيس الذي حفظ تراثهم وتاريخهم وآدابهم وأخلاقهم وإنه متحفهم الناطق الذي دونوا فيه أخبار أبطالهم ووقائع بطولاتهم، وما تفرت به قرائح حكمائهم من حكم بليغة، وأمثال بديعة وآيات في تجارب الحياة. ولولا الشعر العربيº لما عرفت الآداب العربية، ولما شهرت القبائل العربية وأخبارها في محافلها وتناقضاتها، وفي تحاربها وتسالمها، ولولاه أيضاً لما عرفت الجغرافيا العربية، ومواقع الصحراء، ومرابعها وواحاتها وجبالها ووديانها، فإن كل ذلك مدون في أشعار الشعراء، مخلد فيها. ولولاه أخيراً لما أغنت خزانة العلوم العربية بكل ما تحفل به الآن في مواضيع البالغة والبيان والنحو واللغة فضلاً عن مواضيع العلوم الإسلامية\".
ونظراً لأهمية دور الشعر في مرويات الأحاديث النبوية نجد اهتمام الإمام البخاري في صحيحه حيث نجده يستشهد كثيراً بالشعر بل إنه بوب باباً خاصاً يقول فيه: \"باب: ما يجوز من الشعر والرجز والحُداء وما يكره منه. وهو قوله - تعالى -(والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيراً وانتصروا من بعد ما ظلموا وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون).. وساق البخاري بسنده عن أبي بن كعب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن من الشعر حكمة) \".
أقول: فهذا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما وفدت عليه بنو تميم سنة 9 هـ بعد فتح مكة في العام السابق وقد عم الإسلام بلاد العرب وكان بنو تميم يعتدون بعددهم وبقوتهم ووجاهتهم في العرب. فلما دخلوا على الرسول صلى اله عليه وسلم قالوا له: جئنا نفاخرك، فأذن لشاعرنا وخطيبنا.. قال: قد أذنت لكم. فقام عطارد بن حاجب فخطب مفتخراً بتميم فرد عليه من المسلمين ثابت بن قيس فقال: الحمد لله الذي السموات والأرض خلقه قضى فيهما أمره ووسع علمه، فلم يكن شئ قط إلا من فضله. ثم كان من قدره أن جعلنا ملوكاً فاصطفى لنا من خير خلقه رسولاً أكرمه أباً وأحسنه رأياً وأصدقه حديثاً، فأنزل عليه كتابه وائتمنه على خلقه، فكان خيرة الله في عباده، ثم دعانا إلى الإيمان فآمن به المهاجرون من ذوي رحمه أصبح الناس وجوها وأفضل الناس أفعالاً، وكنا أول من أجابه واستجاب له حين دعانا رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فنحن أنصار الله ووزراء رسوله نقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن آمن بالله ورسوله منع ماله ودمه، ومن كفر بالله ورسوله جاهدناه في الله وكان قتله علينا يسيراً. أقول قولي هذا وأستغفر الله للمؤمنين والمؤمنات، وكان الله غفوراً رحيما..
ثم قام الزبرقان بن بدر شاعر بني تميم فأنشد قصيدة مطلعها:
نحن الكرام فلا حي يعادلنا منا *** الملوك وفينا تُنصَبُ البِيَعُ
فلما فرغ من انشاده قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لحسان بن ثابت: قم يا حسان، فأجب الرجل.. فقال حسان:
إن الذوائب من فهر وإخوتهم *** قد بينوا سُنةً للناس تُتبعُ
واستمر في يرد بشعره على أخي بني تميم الزبرقان بن بدر - رضي الله عنه -.. إلى أن قال: لا يفخرون إذا نالوا عدوهم وإن أصيبوا فلا خورٌ ولا جزعُ
أكرِم بقومٍ, رسولُ الله قائدُهم *** إذا تفاوتت الأهواءُ والشيعُ
وفي رد رشيق لا بن رشيق القيرواني على من يكرهون الشعر ويحتجون يآية سورة الشعراء يقول: \"فأما احتجاج من لا يفهم وجه الكلام بقوله - تعالى -: (والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون) فهو غلط، وسوء تأولº لأن المقصودين بهذا النص شعراء المشركين الذين تناولوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالهجاء، ومسّوه بالأذى، فأما من هم سواهم من المؤمنين فغير داخل في شئ من ذلك، ألا تسمع كيف استثناهم الله - عز وجل - ونبه عليهم فقال (إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيراً وانتصروا من بعد ما ظلموا) يريد شعراء النبي - صلى الله عليه وسلم - الذين ينتصرون له، ويجيبون المشركين عنه، كحسان بن ثابت، وكعب بن مالك، وعبد الله بن رواحة. وقد قال فيهم النبي - صلى الله عليه وسلم -: (هؤلاء النفر أشد على قريش من نضح الإبل) وقال لحسان بن ثابت: (اهجهم ـ يعني قريشاً ـ فوالله لهجاؤك عليهم أشد من وقع السهام، في غلس الظلام، اهجهم ومعك جبريل روح القدس، وألقَ أبا بكر يعلمك تلك الهنات).. فلو أن الشعر حرام أو مكروه ما اتخذ النبي - صلى الله عليه وسلم - شعراء يثيبهم على الشعر، ويأمرهم بعمله، ويسمعه منهم. وأما قوله - عليه الصلاة والسلام -: (لأن يمتلئ جَوفُ أحدكم قَيحاً حتى يَرِيَهُ خير له من أن يمتلئ شعراً) فإنما هو من غلب الشعر على قلبه، وملك نفسه حتى شغله عن دينه وإقامة فروضه، ومنعه من ذكر الله - تعالى -وتلاوة القرآن، والشعر وغيره ـ مما جرى هذه المجرى من شطرنج وغيره ـ سواء. وأما غير ذلك ممن يتخذ الشعر أدباً وفكاهة وإقامة مروءة فلا جناح عليه وقد قال الشعر كثير من الخلفاء الراشدين، والجِلّةُ من الصحابة والتابعين، والفقهاء المشهورين\".
وقد بلغ من شغف علماء السيرة والتاريخ بالشعر أنهم أكثروا من ذكر الإستشهاد بأبيات لكثير من الشعراء وقد كان محمد بن اسحاق ت 151هـ أول من تنبه لأهمية الشعر ومكانته في دراسة السيرة النبوية حيث كان ينقل عقب كل موقعة ما قيل فيها من شعر، نجد ذلك واضحاً في غزوة بدر سنة 2هـ، وعقب غزوة أحد 3هـ وغزوة الخندق 5هـ ونجد أطرافاً من هذا الشعر في فتح مكة 8هـ بالإضافة إلى شعر الوفود والقبائل التي جاءت تعلن إسلامها.
ثم يأتي أبو محمد ابن هشام ت 218هـ ليهذب سيرة ابن اسحاق ويحذف منها أشعاراً كثيرة لم يثبت سندها لديه.. فتخرج السيرة بثوبها المطبوع حالياً لدرجة أنها تنسب إليه فنقول: سيرة ابن هشام.. ورغم ما قام به ابن هشام من حذف لكثير من الشعر إلا أنه أثبت أيضاً كثيراً من الشعر وخاصة عقب الغزوات والسرايا..
كما نلاحظ أن ابن جرير الطبري ت 310 هـ في تاريخه قد أكثر من الإستشهاد بأبيات من الشعر قبل وبعد الإسلام وتاريخه مفعم بشعر المعارك والملاحم وشعر المراثي والهجاء كل ذلك مبثوث في تاريخ الطبري في أبواب متفرقة..
ثم تمضي عدة قرون فيخرج لنا الحافظ السهيلي ت 581 هـ كتابه الماتع (الروضُ الأُنُف) وهو شرح لكتاب سيرة ابن هشام حيث يقوم السهيلي بشرح أبيات الشعر وتفسير غريب الكلمات مع التعليق على بعض الحوادث فكان أشبه بموسوعة ففي السيرة النبوية بل وموسوعة في الأدب واللغة على ضوء السيرة النبوية. ونظراً لسهولة الشعر وهيام الناس به وحبهم لسيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - نظم جماعة من العلماء قديماً السيرة شعراً مثل عبد العزيز بن أحمد المعروف بسعد الديري المتوفى 607 هـ، وأبي الحسن فتح بن موسى القصري المتوفى 668هـ، وابن الشهيد المتوفى 793هـ وغيرهم.
حتى وقتنا المعاصر كالشاعر أحمد محرم ت 1945م الذي ألف في سيرة الرسول وغزواته ملحمة شعرية كبيرة وقيمة بحق.. لكنه اعتمد على من سبقه من كتب السيرة النبوية وخاصة سيرة ابن هشام في طريقة السرد التاريخي والتسلسل الزمني لكن هذه القصائد المطولة تحتاج إلى مراجعة وإلى إعمال منهج الجرح والتعديل ويختار منها ما يوافق الصحيح المعتمد من سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم -.
ثانياً نماذج من كتب الأدب:
أهم كتب الأدب نثراً وشعراً: (البيان والتبيين) و (الحيوان) للجاحظ ت 255هـ نجد أنه ذكر في كتابه البيان والتبيين أكثر من مائة حديث، بعضها صحيح وبعضها موضوع ورغم عناية الباحثين به أدبياً ولغوياً إلا أنهم لم يهتموا بتحقيقه حديثياً وتخريج نصوصه النبوية جرحاً وتعديلاً. وكما يقول د. فاروق حمادة: يغلب على كتب الجاحظ المرح والدعابة والفرح والفكاهة، فنراه يقيم الدليل على صحة أمر. ثم يقيم الدليل على صحة نقيضه.
ويعتبر ابن قتيبة ت 276هـ رائداً في مجال الأدب واللغة فقد كان عالماً بالقرآن والسنة محدثاً كبيراً وأديباً عظيماً وقد لقب قديماً بخطيب أهل السنة وكان شديداً على المعتزلة من أمثال النظام والجاحظ والعلاف، وقد اتهم الجاحظ بأنه توسع في علوم الدنيا وقصد بكتبه التسلية أكثر مما قصد إلى التهذيب ورفع شأن الدين.. وتعد كتبه ممن أهم كتب الأدب مثل: (المعارف) و (الشعر والشعراء) و (أدب الكاتب) (عيون الأخبار) (تأويل مختلف الحديث)..
ونلاحظ أنه عكس الجاحظ تماماً فهو أديب جاد يظهر أثر القرآن والحديث في كتبه خاصة أنه عاصر أصحاب الصحاح والسنن واشترك معهم في الأخذ عن بعض الشيوخ.. وكتبه من حيث الثقة أعلى مرتبة من كتب الجاحظ. ومن هؤلاء الكتاب الذين اعتنوا بالأدب وأخباره: محمد بن يزيد المعروف بالمبرد ت 258هـ وأشهر كتبه الكامل في اللغة والأدب.. حيث ساق أخباراً عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وخطبه وأحداديثه وكلامه.. ونراه أحياناً يروي بالسند وأحياناً بلا سند..
ونلاحظ أنه اهتم في كتابه الكامل بأخبار الخوارج وأدبهم مما حدا بالبعض أن يتهمه بأنه خارجي النزعة.. وممن هؤلاء العلماء الحافظ ابن الأنباري ت 317هـ الذي أخذ العربية عن ثعلب، وإسماعيل القاضي وآخرين. له كتاب (الوقف والإبتداء) (الأضداد) وشرح القصائد السبع الطوال. وممن كتب في الأدب وأصّل له الأديب المؤرخ أبو بكر الصولي ت 335هـ الذي تتلمذ على المبرد وثعلب، وأخذ الحديث من أبي داود السجستاني، وأشهر كتبه (أدب الكتاب) (كتاب الأوراق).. وكتابه الشهير (أشعار أولاد الخلفاء وأخبارهم)..
ومن نفس الطبقة أبو عبد الله محمد بن عبدوس الجهشياري ت 331 هـ صاحب الكتاب الشهير (الوزراء والكتاب)..
ويعتبر كتاب العقد الفريد لإمام أهل الأدب في الأندلس في المائة الرابعة ابن عبد ربه ت 328 هـ من الكتب التي حوت على فضائل جمة وعلوم كثيرة مهمة كما يصفه الحافظ ابن كثير.. والحقيقة أن عنوان الكتاب الأصلي كان (العقد) فقط ولكن أحد الناشرين أو المطالعين على الكتاب زاد كلمة (فريد).. فاشتهر الكتاب بها الإسم (العقد الفريد).. وقد جعل ابن عبد ربه كتابه خمسة وعشرين باباً وشبهه بعقد فيه خمسةٌ وعشرون حجراً كل حجرين منها متماثلان من جنس واحد يحتلان مكانين متقابلين من طرفي العقد على جانبي الواسطة.
فمن أبواب العقد: اللؤلؤة في السلطان.. الفريدة في الحروب.. الزبرجدة في الأجواد.. الجمانة في الوفود..
ومصدر مادة كتاب العقد الفريد من مصادر مختلفة من كتب القرآن الكريم والأحدايث النبوية ومن كتب ابن المقفع والجاحظ والمبرد وأخذ كثيراً من كتاب عيون الأخبار لابن قتيبة.. لكن ابن عبد ربه كان متحاملاً على بني أمية رغم أنه كان من مواليهم حيث كان ابن عبد ربه شاعر بلاط للأمير المنذر ت 275 وللأمير عبد الله ت 300 هـ وللخليفة عبد الرحمن الناصر ت 350هـ وكل هؤلاء أمويون!!..
والكتاب فيه فوائد عن سيرة الرسول - صلى الله عليه وسلم - وذكر الصحابة وحياتهم وأقوالهم لكن يجب أن نعمل منهج الجرح والتعديل في المرويات التي يسوقها أحمد بن عبد ربه في عقده الفريد.
ومن هذه الكتب التي تعنى بالأدب كتاب (صبح الأعشى) للقلقشندي ت 821هـ ويعتبر كتابه صبح الأعشى من أفضل كتب الأدب إذ أنه استفاد من كل الكتب السابقة وخصوصا كتاب أدب الكاتب لابن قتيبة والمثل السائر لا بن الأثير.. وقد كان شهاب الدين أبو العباس القلقشندي مؤلفاً مكثراً.. تكلم في كتابه المذكور على فضل الكتابة والتاريخ وديوان الإنشاء وعلى صفات الكاتب وآداب الكتابة وما يحتاج إليه الكاتب من معارف في اللغة والدين والجغرافية والتاريخ والأدب.. ثم تكلم عن الحياة الساياسية في مصر والشام وعلى أسلوب المكاتبات وعن إدارة الدولة..
وله كتاب قيم آخر: نهاية الأرب في معرفة قبائل العرب.. وكتاب قلائد الجمان في التعريف بقائل عرب الزمان.. وحلية الفضل وزينة الكرم في المفاخرة بين السيف والقلم..
ثالثاً : وهل تعرف كتب الأدب الإسناد
كما هو معروف في كتب الأحاديث والسنن؟
الاسناد نوعان:
الأول: اسناد رواية.
والثاني: اسناد كتاب.
أما إسناد الرواية وهو على طريقة أهل الحديث أن يروي الخبر سواء بيت شعر أو قول مأثور أو خطبة لأحد البلغاء عدل ضابط عن مثله إلى أن نصل لمصدر الخبر أو قائله الأصلي.. فلما كان القرن الخامس الهجري ضعف أمر الاسناد شيئاً غير قليل ولكن بقيت فيه بقية يتماسك بها..
\"ومن يومئذ صار أمرالاسناد مقصوراً على تلقي الكتب العلمية وروايتها بالسند عن مؤلفيها، لأن العلم كان قد نضج وكملت فنونه، ثم كان لسان العرب قد اختبل وكان أمرهم قد اختلّ، فلم تعد الرواية عنهم تجدي شيئاً، وكان سماع الكتب وروايتها عن مؤلفيها معروفاً من أول عهد التأليف، ولكنه لم يكن مما يتباهى به إلا منذ بدأت الرواية تضعف في القرن الرابع، وحين كثرت الكتب، فكان الصولي الأديب المتوفى سنة 335هـ يتباهى عظيما بكتبه وهو مصفوفة وجلودها مختلفة الألوان، ويقول: هذه الكتب كلها سماع! وقد هُجي بذلك لأن الناس لم يكونوا قد ساروا هذه السنة بعد. ومن ثم صاروا يطلقون لفظ (الصٌّّّحفي) على من يأخذ من الكتب بنفسه دون أن يتلقاها بإسناد معروف إلى مؤلفيها، حتى إنهم لما عابوا الحسن بن أحمد النحوي (في أواخر القرن الخامس) وكان يحسن كتاب سيبويه، قالوا: إنما كان في فهم الكتاب صُحفياً\".
أما عن أول من أسند في الأدب:
يقول الرافعي إن أول إسناد عرف في الأدب كان علمياً بحتاً: \"وذلك إسناد نصر بن عاصم الليثي إلى أبي الأسود الدؤلي في كتابه الذي وضعه للعربية.. ثم كان العلماء يروون المغازي، وهذه لابد فيها من الإسناد وإن كان قصيراً لقرب التابعين من عهدها الذي حدثت فيه ثم لما خيف على لسان العرب من الفساد ومسّت الحاجة إلى الكتابة عن العرب لصيانة اللغة والأستعانة على فهم القرآن والحديث وتجريد القياس في العربية وما إلى ذلك ـ نشأت الطبقة التي ابتدأ الإسناد في الأدب إلى رجالها: كحماد الراوية، وأبي عمرو بن العلاء، وغيرهما. وصارت الرواية علمية محضة. وبهذا تحقق معنى الاسناد في الاصطلاح، وكان ذلك بدء تاريخه في الأدب. ثم ظهرت الطبقة التي أخذت عن هؤلاء، وكانوا جميعاً إنما يطلبون رواية الأدب للقيام به على تفسير ما يشتبه من غريب القرآن والحديث، وحتى لا تجد فيهم البتة من لا رواية له في الحديث كثرت أو قلت، والمحدثون يرون أنه ليس براوٍ, عندهم من لم يرو من اللغةº لأن موضوع الحديث أقوال النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو أفصح العرب، ولذا لا يمكن أن يقيموا آراءهم في غريب الأثر ومشتبه الحديث إلا بما يحتجون به من الشعر وكلام العرب، مروياً بسنده أو مأخوذاً عمن يسندهº مما عسى أن يُرمَوا به من الوضع والصنعة، وتابعهم الفقهاء بعد ذلك، فجعلوا المهارة في الشريعة والحذق بالقه والبراعة في الفتيا مفتقرة إلى الأصلين الكتاب والسنة، وأقسام العربية، حتى إن الشافعي - رحمه الله - قال إنه طلب اللغة والأدب عشرين سنة لا يريد بذلك إلا الاستعانة على الفقه\".
أقول: نلاحظ أن معظم أسانيد الرواة تنتهي إلى الطبقة الأولى أي إلى طبقة أبي العلاء، وحماد الراوية، وخلف، وأبي عبيد وغيرهم لأن علم الإسناد في الأدب لم يكن معروفاً قبل هؤلاء بل إن علم الإسناد علم إسلامي صرف لم يكن معروفاً في الجاهلية ولا حتى في الأمم السابقة على الإسلام أو حتى الأمم المعاصرة للأمم الإسلامية.. ومن ثم نستطيع أن نؤكد أنه لولا اهتمام العلماء بأحاديث الرسول - صلى الله عليه وسلم - لما خلصت اللغة العربية ولجاءتنا مشوبة بالكذب والأغالبط، ولفسد بالتبعية علم الأدب وما بني عليه..
رابعا: ما هي مرتبة كتب الأدب كمصدر من مصادر السيرة النبوية؟
لما كان غرض كتب الأدب ينحصر في تفسير الكلمة الغريبة وتوفير مادة السمر والمرح وابتداع الخيال مع الطرفة الأدبية والنكتة البلاغية سواء المبثوثة في بيت شعري أو خطبة بلاغية أو كلام منثور أو حكمة مأثورة.. بالإضافة إلى أن كتب الأدب تعنى بالشاذ والغريب أكثر من عنايتها بالأحداث والتواريخ الرتيبة.. كان من الطبيعي أن تكون كتب الأدب أوهى مصادر السيرة النبوية وأضعفها وأدناها رتبة وأقلها شأناً وخاصة في مجال تدوين السيرة النبوية وتوثيقها.. ورغم هذا الوضوح نجد في وقتنا المعاصر أن الوضع صار معكوساً فيقوم فريق من أدعياء البحث والتحقيق والمنهجية العلمية بوضع كتب الأدب أول مصادر السيرة النبوية وتاريخ الإسلام..
أما القرآن وكتب الأحاديث الصحاح وغير ذلك من مصادر السيرة فلا يلتفتون إليها!! لحاجة في أنفسهم، نحن نعلمها.. بغية النيل من الإسلام والتشكيك في صاحب الرسالة نفسه - صلى الله عليه وسلم -.. بل إنهم يأخذون هذه الأكاذيب والخرافات ويجعلون منها قواعد ومسلمات ينطلقون منها للطعن والتجريح في عقيدة المسلمين وتشويه سيرة نبيهم - صلى الله عليه وسلم - مما يسهل لهم الطعن في رموز أهل الإسلام من صحابة وخلفاء وسلاطين وعلماء وقادة.. كل ذلك يتم باسم البحث العلمي!!
صفوة القول :
رغم أن كتب الأدب من أضعف مصادر السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي.. إلا أنها في حاجة إلى تخريج أحاديثها وإعمال منهج الجرح والتعديل في مروياتها سواء المتعلقة بالشعر أو النثر أو الحكم والأقوال المأثورة.. ولكن على أية حال لقد سدت كتب الأدب بعض الثغرات في كتب السيرة والتاريخ الإسلامي وخاصة في شعر الفتوح الإسلامية من ذكر المواقع الجغرافية من قلاع وجبال وسهول ووديان وتخليد أسماء قادة بل إن بعض أبيات من الشعر كانت تحل معضلة في ترتيب زمني لأحد الصحابة أو أحد القادة..
وقد يصف شاعر معركة فيخلد ذكرها وتتناقلها الأجيال على أحسن ما تكون الوراية كما في قصيدة فتح عمورية لأبي تمام ت233هـ حيث كان مع الخليفة المعتصم في تلك المعركة سنة 223هـ وفيها انتصر المعتصم لصرخة المرأة المسلمة التي قالت (وامعتصماه).. فدخل مدينة عمورية وتاربعة لدولة تركيا الآن ظافراً ولما عاد المعتصم إلى سامرا سنة 224هـ أنشده أبو تمام قصيدته البديعة الرائعةالتي يرد فيها على أهل التنجيم ويذكر فيها أشياء لم يذكرها الإخباريون والتي مطلعها:
السيف أصدق أنباءً من الكتب ***في حدّه الحدٌّ بين الجد واللعبِ
بيضُ الصفائح لا سودُ الصحائف *** في متونهن جلاءُ الشك والريبِ
يا وقعة عمورية انصرفت منك *** المنى حُفّلاً معسولة الحلَبِ
أبقيت جد بني الإسلام في *** صُعُد والمشركين ودار الشرك في صببِ
خليفة الله جازى الله سعيك عن *** جُرثومة الدين والإسلامِ والحسبِ
فبين أيامك اللاتي نُصرتَ بها *** وبين أيام بدرٍ, أقربُ النسبِ
هكذا يشيد أبو تمام بنصر المسلمين في عمورية ويصف المعركة وما دار فيها حتى إنه يذكر عدد قتلى جيش الكفار ويذكر مدينة (زبطرة) التي ارتكب فيها توفيل ملك الروم الفظائع ضد المسلمين.. وقيام المعتصم بالواجب الشرعي.. في قصيدة طويلة تحتاج إلى الوقوف عند كل بيت من أبياتها..
بل إن هذه الكتب الأدبية وخاصة كتب الشعر منها كان يستأنس بها أصحاب المغازي والسير في اثبات حجتهم بل حتى الفقهاء والشراح العظام كابن حجر العسقلاني في فتح الباري وفي معظم مؤلفاته كان يكثر الأخذ عن البيان والتبيين للجاحظ وينقل عن الكامل في اللغة للمبرد ويستشهد بكتب ابن دريد ويأخذ عن معجم الشعراء للمرزباني..وغيرهم..
والله الموفق.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد