دور العقيدة في صياغة الشخصية..


  

بسم الله الرحمن الرحيم

نموذج توضيحي: خالد بن الوليد

(خرجت قريش ـ يوم أُحد ـ بحدِّها وجدِّها وحديدها وأحابيشها، ومن تابعها من بني كنانة، وأهل تهامة والظعينة) موتورين بآبائهم وإخوانهم، يُجعجع فرسانهم، وتضرب بالدف نساؤهم، وينادي بالثارات جميعهم، فيهم مائتي فارس على رأسهم \"خالد بن الوليد\"، يواجهون سبعمائة رجل، رجالاً حُسرًا، ولم يغنِ قريش أن بها خالدًا بن الوليد، ولم يستطع شيئًا إلا على غرَّة، وعلى غرَّةٍ, والناس منهزمون قد انفضوا من مواقعهم واستدار بعضهم على بعض ما استطاع خالد بثلاثة آلاف أن يقتل إلا سبعين ـ أو أقل ـ نفرًا.!! وفي يوم الحديبية خرجت قريش كخروجها يوم أحد أو أشد، ووقف خالد بن الوليد على رأس فرسان قريش، وما جرئ على قتال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وصحابته، وهم حُرُمٌ لا يحملون إلا سيف الراحلة، وقف يبحث عن وقت غفلة كي يأخذهم على غِرَّة ـ كما فعل يوم أحد ـ وما استطاع شيئًا. وفي سنة تسع من الهجرة عقدَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لواءً لخالد بن الوليد  - رضي الله عنه - بأربعمائة وعشرين فارسًا إلى إحدى قرى الشام (دومة الجندل) كي يُغير على ملكها \"أُكَيدِرِ\"، فقال خالد: ((يا رسول الله كيف لي به وسط بلاد كَلبٍ,، وإنما أنا في أناس يسير؟ فقال رسول الله، - صلى الله عليه وسلم -، (ستجده يصيد البقر فتأخذه))). فتشجع خالد وصار إليه فوجده على الحال التي وصف رسول الله- صلى الله عليه وسلم - فأخذه. وبعد عامين فقط تجمعت قبائل كلب ومن جاورها من بني تميم ومعهم أحياء قضاعة عند دومة الجندل فتحرك إليهم خالد في جيش أقل منهم بكثير جدًا وذبحهم في الحصون وحولها. وبعد عامين فقط ركب خالد بن الوليد في نفر يسير ـ بالنسبة لقوات العدو ـ لمن ارتد من العرب من غطفان وبني حنيفة ثم صار إلى أهل العراق والشام فأتى على قوى الكفر كلها من عرب وفرس وروم في هذه البلاد. وما تردد في معركة. وما انهزم. ما الذي حدث؟ خالد هو خالد. بل. كَبُرَ سنه ورقَّ ـ بعض الشيء ـ عظمه، كيف يَهزم كل هذه الجيوش المتماسكة المجتمعة، وكيف يقتل كل هذا العدد من البشر؟ حدث هناك نوع من التغيير في المفاهيم والتصورات الداخلية التي تُحرِّك خالدًا بن الوليد  - رضي الله عنه -  ومن معه، نوع جديد من المفاهيم عن طبيعة المعركة وأسباب النصر والهزيمة، جعلت خالدًا يُحدث كل هذا الأثر في واقع الناس. وتدبر هذين الموقفين: يوم اليرموك جاء أحدهم يخوّفه من الروم وقد أقبلت كالسحابة السوداء تسد الأفق، تموج بهم الأرض كما يموج البحر، صوتهم كالرعد. كما يصف ابن كثير - رحمه الله - على لسان من حضر المعركة. والمسلمون قلة، جاء يقول لخالد: ما أكثر الروم وأقل المسلمين! فقال خالد: ويلك، أتخوفني بالروم؟ إنما تكثر الجنود بالنصر [أي من الله]، وتقل بالخذلان لا بعدد الرجال، والله لوددت أن الأشقر براء من توجيه وأنهم أضعفوا في العدد. وحين همَّ بعبور بادية الشام من العراق إلى اليرموك تخوّف من معه واستداروا كأنهم يريدون مراجعته في أمر العبور إلى الشام فقام فيهم خطيبًا بهذه الكلمات (اعلموا أن المعونة على قدر النية، والأجر على قدر الاحتساب، فأروا الله من أنفسكم خيرًا يمدكم بمدده). خالد بالأمس القريب، حين أُمِرَ بالتوجه لأُكيدر يحسب للعدد حساب وينادي: كيف........ وإنما أنا في نفر يسير، وهو اليوم يلغي عامل العدد من أسباب النصر والهزيمة. وخالد يتمنى شفاء فرسه ليكون أنشط في القتال مقابل أن يزيد جيش الروم ضعفًا كاملاً. أهذا خالد يوم أحد والحديبية؟! وخالد يُقدم على عبور المفازة سالكًا طريقًا لا يقول عاقل أن جيشًا يسير به وينجو، معتمدًا على أن (المعونة (من الله) على قدر النية)، فهو يتكلم بأن السبب المطلوب بذله لعبور هذه المفازة هو صدق اللجوء إلى الله وحسن التوكل عليه. ويُذكِّر من معه بالاحتساب حتى لا يضيع الأجر. إن العامل الأساسي هو العقيدة وليس شخص خالد، - رضي الله عنه -، فكما رأيت حدثت نقالات نوعية في شخصية خالد وما أنجزه بعد الإسلام وهذا الأثر ازداد تدريجيًا بثبات الإسلام في صدر أبي سليمان- رضي الله عنه - كما علل هو - رضي الله عنه - وأرضاه. يزداد هذا الأمر وضوحًا في ذهنك أخي القارئ حين تتذكر أن الفتوحات الإسلامية لم تتأثر مطلقًا برحيل خالد عن القيادة، وإنما برحيل الجيل الأول من الصحابة ومجيء من كانوا أقل شأنا في أمر الدين. ويزيد من هذه الفرضية أن النصر والهزيمة وطبيعة المعركة من حيث أطرافها له تصور خاص في الشريعة الإسلامية. فالشريعة تتكلم عن حضور الملائكة القتال تثبت الذين آمنوا وتلقي الرعب في قلوب الذين كفروا. {إِذ يُوحِي رَبٌّكَ إِلَى المَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُم فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرَّعبَ فَاضرِبُوا فَوقَ الأَعنَاقِ وَاضرِبُوا مِنهُم كُلَّ بَنَانٍ,} [الأنفال: 12]. وحضور الملائكة الكرام متوقف على تقوى الله لا على عدد المسلمين وعتادهم، ولا على كونهم منتسبين للإسلام فقط يقول الله، - عز وجل -: {بَلَى إِن تَصبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأتُوكُم مِّن فَورِهِم هَـذَا يُمدِدكُم رَبٌّكُم بِخَمسَةِ آلافٍ, مِّنَ المَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ}[آل عمران: 125]. وفي التصور الإسلامي عن النصر والهزيمة العدد ليس من الأهمية بمكان فـ {كَم مِّن فِئَةٍ, قَلِيلَةٍ, غَلَبَت فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ}[البقرة: من الآية 249]، وفي التصور الإسلامي عن النصر والهزيمة أننا ستار لقدر الله - سبحانه وتعالى -، فالله ينفذ من خلال عباده قدره ويظهر آثار صفاته، فما علينا إلا أن نأخذ بالأسباب المتاحة للنصر والله ينصر من ينصره، وفي الشريعة الإسلامية الهزيمة سببها الذنوب ـ ومنها التقصير في الأخذ بالأسباب المتاحة كما أمر الله ـ قال الله، - عز وجل -: {أَوَلَمَّا أَصَابَتكُم مٌّصِيبَةٌ قَد أَصَبتُم مِّثلَيهَا قُلتُم أَنَّى هَـذَا قُل هُوَ مِن عِندِ أَنفُسِكُم إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيءٍ, قَدِيرٌ}[آل عمران: 165]. {وَلَقَد صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعدَهُ إِذ تَحُسٌّونَهُم بِإِذنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلتُم وَتَنَازَعتُم فِي الأَمرِ وَعَصَيتُم مِّن بَعدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبٌّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدٌّنيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُم عَنهُم لِيَبتَلِيَكُم وَلَقَد عَفَا عَنكُم وَاللّهُ ذُو فَضلٍ, عَلَى المُؤمِنِينَ}[آل عمران: 152] والشاهد: أن هذه معارف يكتسبها أحدنا بقراءتها فقط إن صدَّق المخبر بها، أما أن تستيقن منها وتصطبغ بها وتتعامل من خلالها فهذا لا تناله في يوم وليلة، فالشهوات والشبهات تتصارع مع خطاب الوحي ولا يستقر الإيمان في القلب إلا بعد حين... وبين حين يجد من يناوشه ويريد زحزحته فإن لم ينتبه تزحزح. وحين استقرت هذه المعاني في قلب خالد ورفاقه تغيرت أسباب النصر، لا من خالد ولكن من الصياغة الجديدة التي صاغتها العقيدة لخالد ورفاقه. وفرض الصورة العكسية يبين لك الأمر أكثر، لو اجتمع ثلاثون ألفًا من مشركي العرب أمام ربع مليون أو يزيد من الروم والعرب هل كانوا ينتصرون؟؟ لم يكونوا ليجتمعوا أولاً، وإن اجتمعوا ما كانوا ليفكروا في غزوهم، وإن غزوهم ما ثبتت أقدامهم ساعة. ولتستبين قولي ولتعلم أن العقيدة هي المحرك الأساسي وهي التي صاغت خالد وغير خالد من قادة الأمة راجع الآيات التي تتكلم عن المنافقين حين القتال مثل قول الله - تعالى -{سَيَقُولُ لَكَ المُخَلَّفُونَ مِنَ الأَعرَابِ شَغَلَتنَا أَموَالُنَا وَأَهلُونَا فَاستَغفِر لَنَا يَقُولُونَ بِأَلسِنَتِهِم مَّا لَيسَ فِي قُلُوبِهِم قُل فَمَن يَملِكُ لَكُم مِّنَ اللَّهِ شَيئاً إِن أَرَادَ بِكُم ضَرّاً أَو أَرَادَ بِكُم نَفعاً بَل كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعمَلُونَ خَبِيراً}[الفتح: 11] {إِذ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَـؤُلاء دِينُهُم وَمَن يَتَوَكَّل عَلَى اللّهِ فَإِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}[الأنفال: 49] {وَإِذ يَقُولُ المُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً}[الأحزاب: 12] من تكلموا في هذه الآيات من المنافقين كانوا من جنس المسلمين لا يختلفون عن بعضهم شيء في الصفات الخارجية، ولكن خُلِعَ قلب هؤلاء حين جاء الخوف لأنهم لم يؤمنوا، ولم تستقر حقائق الإسلام في قلوبهم، وأنه لا عاصم من الله إن أراد بهم ضرًا أو أراد بهم نفعًاº ولذا راحت جوارحهم تبحث عن مخرج حين جاء الخوف. أما الصادقون.. المستيقنون.. فأقدموا وصبروا واحتسبوا وعلموا أنه النصر وإن يدركوه هم فمَن بعدهم. إشكال والجواب عليه: يشكل على بعضهم أنه إذا كان الأمر كذلك، فلماذا لم يتساوَ الجميع أو يرتبوا على حسب إيمانهم، هل برز خالد وأبو عبيدة وقتيبة الباهلي كونهم أكثرهم إيماناً؟ نقول: ليس الأمر كذلك، فالله - سبحانه وتعالى - خصَّ بعض الأفراد ببعض الصفات، وفتح على بعضهم من أبواب دون أبواب، فهذا حَبَّبَ إليه الجهاد ورزقه بنية قوية وقوة في قلبه، وهذا حبب الله إليه طلب العلم وتعليمه ورزقه عقلاً وعزيمة في الطلب، وهذا حبب الله إليه الإنفاق وأمده بالمال، وهكذا. والعقيدة تصل بالمرء إلى أقصى مستوىº بل تصيغه صياغة جديدة بحيث لا يقارن بمثله الذي لم يتأثر بالعقيدة بعد أو ما زال في المراحل الأولى من التفاعل مع مفاهيم الدين وتصوراته.

 تتمة: العقيدة وقوة البدن لا يقتصر الأمر فقط على صياغة الشخصية من جديد، بل أستطيع أن أقرر أن التزام الشرع يعطي قوة بدنية، ولهذا الأمر شواهد كثيرة منها هذا الحديث. عند مسلم من حديث علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - أن فاطمة - رضي الله عنها -  اشتكت ما تلقى من الرحى في يدها وأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - سبي فانطلقت فلم تجده ولقيت عائشة فأخبرتها، فلما جاء النبي - صلى الله عليه وسلم - أخبرته عائشة بمجيء فاطمة إليها، فجاء النبي - صلى الله عليه وسلم - إلينا، وقد أخذنا مضاجعنا فذهبنا نقوم، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - على مكانكما، فقعد بيننا حتى وجدت برد قدمه على صدري، ثم قال \" أَلَا أُعَلِّمُكُمَا خَيرًا مِمَّا سَأَلتُمَا، إِذَا أَخَذتُمَا مَضَاجِعَكُمَا أَن تُكَبِّرَا اللَّهَ أَربَعًا وَثَلَاثِينَ وَتُسَبِّحَاهُ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ وَتَحمَدَاهُ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، فَهوَ خَيرٌ لَكُمَا مِن خَادِمٍ, \". توجيه الدليل: فاطمة  - رضي الله عنها - تعمل بالرحى حتى أثرت في يدها، ويشهد لهذا ما جاء في سنن الترمذي عن علي - رضي الله عنه - (شكت فاطمة إليَّ مَجَلَ يديها)، ويقال لليد مَجَلَت إذا ثخنَ جلدها وتعجر وظهر فيها ما يشبه البتر من العمل بالأشياء الصلبة الخشنة. ففاطمة - رضي الله عنها - تشتكي من الجهد المبذول في بيتها وتريد خادمة تحمل عنها، ويكون الجواب وِردٌ من الأذكار (يحصل لها بسبب هذه الأذكار قوةٌ على الخدمةِ أكثرَ مما يَقدرُ الخادم. أو بعبارة أخرى (أن الذي يلازم ذكر الله يُعطى قوة أعظم من القوة التي يعملها له الخادم، أو تسهل الأمور عليه بحيث يكون تعاطيه أموره أسهل من تعاطي الخادم لها، هكذا استنبطه بعضهم من الحديث).

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply