بسم الله الرحمن الرحيم
المفهوم الشائع للحرية عند كثير من الناس أنها انفلات الإنسان من قوانين الدين والأخلاق، فيفعل ما يريد ويتصرف كيف يشاء دون مراعاة لأدب أو حياء، وإذا نُعى عليه قول غير لائق أو تصرف غير مقبوّل فإنه يقول ملء شدقيه: أنا حر، وهذا أسوأ ما يمكن أن ينحدر بالإنسان إلى أوطأ من درجة الحيوان الأعجم.
لكن مفهوم الحرية الحقيقي يعني تحرر الإنسان من قيود النفس وجواذب الأرض ونزغات الشيطان ومتاع الحياة الدنيا والانطراح على عتبات الربوبية.
إن الحرية واجب ومسؤولية وليست انفلاتاً غير مسؤول من قواعد الدين والأخلاق..
والحرية قوة على ضبط النفس والانخلاع من كل ما يعارض العبودية لله رب العالمين.
والحرية توجه كامل لله - سبحانه وتعالى - واطراح لكل العلائق التي تنحرف بالإنسان عنه - سبحانه وتعالى -.
عوائق الحرية الحقيقية:
1 هوى النفس: ورد في القرآن الكريم آيات كثيرة منها:
قال - تعالى -: \"أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله على\" علم وختم على سمعه وقلبه وجعل على بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله أفلا تذكرون\" (23)(الجاثية).
وقال - تعالى -: \"ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا\" (28 الكهف).
وقال - تعالى -: \"ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله\" (القصص: 50)
وقال - صلى الله عليه وسلم -: \"ثلاث مهلكات: شح مطاع، وهوى متبع، وإعجاب المرء بنفسه. وثلاث منجيات: خشية الله في السر والعلانية، والقصد في الفقر والغنى، والعدل في الغضب والرضا\"(1).
وقال أبو الدرداء: \"إذا أصبح الرجل اجتمع هواه وعمله وعلمه فإن كان عمله تبعاً لهواه فيومه يوم سوء وإن كان عمله تبعاً لعلمه فيومه يوم صالح\".
إن الهوى لهو الهوان بعينه *** فإذا هويت فقد كسبت هوانا
وإذا هويت فقد تعبدك الهوى *** فاخضع لحبك كائناً من كانا
ومن البلايا للبلاء علامة *** ألا يُرى لك عن هواك نزوع
العبد عبد النفس في شهواتها *** والحر يشبع تارة ويجوع
وقال أحمد بن أبي الحواري: مررت براهب فوجدته نحيفاً، فقلت له: أنت عليل؟ قال: نعم، قلت: مذ كم؟ قال: مذ عرفت نفسي. قلت: فتداوى؟ قال: قد أعياني الدواء، وقد عزمت على الكي، قلت: وما الكي؟ قال: مخالفة الهوى.
وقال سهل بن عبد الله التستري: هواك داؤك فإن خالفته فدواؤك.
وقال وهب: \"إذا شككت في أمرين ولم تدر خيرهما فانظر أبعدهما من هواك فأته\"(2).
والنفس كالطفل إن تهمله شب على *** حب الرضاع وإن تفطمه ينفطم
فهي ليست أمينة على ضبط حركة الإنسان ما لم تكن هي مضبوطة بشرع الله - تعالى -، فهي تحتاج إلى حراسة وإلى مراقبة حتى تستقيم.
قال أحد الصالحين: \"حرست قلبي عشرين سنة ثم حرسني قلبي عشرين سنة ثم وردت حالة صرنا فيها محروسين جميعا\"(3).
وصدق الله: \"والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا\" (العنكبوت: 69) فالعطاء الإلهي على قدر السعي، ومن صرف وجهه عن الله صرف الله وجهه عنه.
وإذا جاهد العبد نفسه فإن من أعظم عطاءات الله - تعالى -له أن يريه الأشياء بحقائقها، وهذا مفهوم الفراسة وتعني إشراق أنوار الإلوهية على العبد فيرى حقائق الأشياء.
والنفس مطية الهوى، ومتى أفلت لها الإنسان العنان أوردته المهالك، ومن ثم كانت شدة الصالحين في مجاهدة أنفسهم ومحاسبتها ومعاقبتها.
وقد أورد الإمام الغزالي - يرحمه الله -: عن رجل من أصحاب الإمام عليّ - رضي الله عنه - أنه قال: صليت خلف عليّ - رضي الله عنه - الفجر فلما سلم انفتل عن يمينه وعليه كآبة، فمكث حتى طلعت الشمس، ثم قلب يده وقال: والله لقد رأيت أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - وما أرى اليوم شيئاً يشبههم، كانوا يصبحون شعثاً غبراً صفراً قد باتوا لله سجداً وقياماً يتلون كتاب الله يراوحون بين أقدامهم وجباههم، وكانوا إذا ذكروا الله مادوا كما يميد الشجر في يوم الريح وهملت أعينهم حتى تبل ثيابهم وكأن القوم باتوا غافلين.
وكان أبو مسلم الخولاني قد علق سوطاً في مسجد بيته يخوف به نفسه، وكان يقول لنفسه: قومي فوالله لأزحفن بك زحفاً حتى يكون الكلل منك لا مني، فإذا دخلت الفترة تناول سوطه وضرب به ساقه ويقول أنت أولى بالضرب من دابتي، وكان يقول: \"أيظن أصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - أن يستأثروا به دوننا؟ كلا والله لنزاحمنهم فيه زحاماً، حتى يعلموا أنهم قد خلفوا وراءهم رجالاً\"(4).
2- جواذب الأرض:
إن مما ينتقص من الحرية الحقيقية للعبد أن يلتفت عن الله - تعالى -لعارض من العوارض مهما كان هذا العارض، قال - تعالى -: لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم(المجادلة).
وقال - تعالى -: قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال \\قترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا حتى\" يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين 24(التوبة).
الله قل وذر الوجود وما حوى *** فالكل إن حققت طيف خيال
تأمل في الوجود بعين فكر *** ترى الدنيا الدنية كالخيال
وكل الكائنات غدا ستفنى *** ويبقى وجه ربك ذو الجلال
وعن أبى سعيد الخزاز أنه سأل أحد العباد قائلاً: بم وصلت إلى ذلك فإن كان يبلغ بعمل حدثتني؟ فقال يا أبا سعيد ما هو إلا حرف واحد قلت: وما هو؟ قال تخرج قَدر الخلق من قلبك تصل إلى حاجتك). (5)، نعم أخرج قدر الخلق من قلبكº فإن شيئاً من متاع الحياة الدنيا وأحداً من الناس لا يستحق أن تفقد فيه دينك ولذة القرب من حضرة ذي الجلال والإكرام.
ولقد أفلت أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - من جواذب الأرض فكانوا بكلهم وكليلهم لله رب العالمين لا شريك له فيهم، كيف تخلى ذو البجادين عن ماله وما يملك لله - تعالى -راضياً بما عند الله مؤثراً الدين على عوارض الدنيا؟!
وكيف ترك صهيب الرومي ماله لله - تعالى -بل دل المشركين عليه ولسان حاله: وعجلت إليك رب لترضى\" 84(طه).
بل كيف ترك أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - مكة وهي أحب بلاد الله إلى الله وأحب بلاد الله إليهم ومهبط الوحي مؤثرين دين الله - تعالى -على أنفسهم وأهليهم وذراريهم؟!
وكيف جاد عثمان بن عفان ذو النورين - رضي الله عنه - بمائتي ناقة بأحلاسها وأقتابها ثم بمائتي أوقية ثم بألف دينار ذهبية لله مؤثراً ما عند الله على شهوات النفس ورغباتها؟!
3- متاع الحياة الدنيا:
عن يونس بن ميسرة قال: \"ليس الزهادة في الدنيا بتحريم الحلال ولا بإضاعة المال ولكن الزهادة في الدنيا أن تكون بما في يد الله أوثق منك بما في يدك وأن يكون حالك في المصيبة وحالك إذا لم تصب بها سواء وأن يكون ذامك ومادحك في الحق سواء\"(6).
وإن اتزان النفس في التمتع بطيبات الحياة لا يعني تركها والزهادة فيها، وإنما يعني أول ما يعني الانطلاق من الله - تعالى -دائماً والانتهاء عند الله - تعالى -دائماً.
4- نزغات الشيطان:
إن المعركة بين الإنسان والشيطان قد أُعلنت من قديم وهى مستعرة دائماً وسوف تظل حتى يأذن الله - تعالى -أن تبدل الأرض غير الأرض والسماوات: \"قال فبما أغويتني لأقعدن لهم صراطك المستقيم 16 ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ولا تجد أكثرهم شاكرين 17(الأعراف) قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين 39 إلا عبادك منهم المخلصين 40(الحجر).
وفى الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: \"إذا أصبح إبليس بث جنوده فيقول: من أضل اليوم مسلماً ألبسته التاج، قال فيخرج هذا فيقول لم أزل به حتى طلق امرأته فيقول أوشك أن يتزوج ويجيء هذا فيقول: لم أزل به حتى عق والديه فيقول أوشك أن يبر ويجيء هذا فيقول لم أزل به حتى أشرك فيقول: أنت أنت. ويجيء فيقول لم أزل به حتى زنى فيقول أنت أنت ويجيء هذا فيقول لم أزل به حتى قتل فيقول أنت أنت ويلبسه التاج\"(7).
ولقد أقسم الشيطان على أن يخرجك بكل سبيل من عبوديتك لله لتعبد غيره فلا تكن عوناً للشيطان على نفسك، ولا تكن حرباً مع الشيطان على ربك.
________________
الهوامش
(1) صفة الصفوة ج 4 ص 120 تحقيق محمود فاخوري د- محمد رواس قلعه جي دار المعرفة بيروت لبنان.
(2) تفسير القرطبي ج 9 ص 5987، 5988 بتصرف.
(3) صفة الصفوة ج 4 ص 120 تحقيق محمود فاخوري د- محمد رواس قلعه جي دار المعرفة بيروت لبنان.
(4) إحياء علوم الدين ج 4 ص 436 بتصرف دار الفكر بيروت لبنان.
(5) صفة الصفوة ج 2 ص 272.
(6) الزهد وصفة الزاهدين ص 20 ط1 1408ه تحقيق مجدي فتحي السيد دار الصحابة طنطا.
(7) صحيح ابن حبان ج 14 ص 68 حديث رقم 6189 تحقيق شعيب الأرنؤوط مؤسسة الرسالة بيروت لبنان، وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة ج 3 ص 274 حديث رقم1280.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد