بسم الله الرحمن الرحيم
هلم بنا إلى المقبرة..
إلى مقبرة الأعوام..
هناك.. حيث استلقى كل عام مضى ممدًا.. بلا حراك أو نفس.. لا سؤال يهمس ولا جواب يلتمس.. الهدوء وحده يلف المكان.. هكذا حال المقابر..!
اختلفت المقابر.. وتعددت القبور.. ومازالت مقابر أعوامنا حتى هذه الساعة مفتوحة الأبواب.. تستقبل في كل عام عامًا قد حان أجله وانقضت أيامه. والسعيد من عمر مقبرته بعبادة وطاعة.. والشقي من أفسد مقبرته ربما بلذة ساعة.. ولا تستوي مقبرة الشقي والسعيد!!
فمن أي الأنواع يا ترى هي مقابر أعوامنا؟!
الله أعلم!!
مقابر الناس تختلف باختلاف أصحابها.. فمن الناس من مقبرة أعوامه خضراء نضرة.. أخاذة عطرة.. تسلب الألباب بجمالها، وتزكم الأنوف بأريجها.. هي مقبرة ليست كالمقبرة.. يحسبها الزائر جنة قد أحيطت بسور.. أو واحة قد توارت حياء عن أعين الناظرين.. معمورة بأجل الطاعات وأزكى العبادات.. سياجها تقوى الله.. وحبيبات رملها ذكر وتسبيح.. وهواؤها نقي لا حقد و لا حسد.. حارسها يفتح الباب كل عام وقد نضر وجهه وحسن مظهره يقول لصاحبها: والله ما علمنا عن عامك هذا - رحمه الله - إلا خيرًا..
ومن الناس من مقبرة أعوامه ظلمات بعضها فوق بعض.. لا نور يضيؤها.. ولا هواء يحرك ساكنها.. كأنما قبورها رؤوس الشياطين.. يزورها الزائر فما يحسبها إلا سجنًا قد أحاطت جدرانه بكل ما قبح وشان.. أو منفى قد قضى فيه صاحب كل رذيلة. جدرانها جد عالية وكأنما قد خشي صاحبها أن تفضحه عند الخلائق بخبيث ريحها وقبيح منظرها.. كل حبة رمل فيها تشهد على معصية أو تفاخر بذنب.. وكل قبر فيها يصرخ بأعلى صوته \"أن أخرجوا هذا العام من جوفي فما جلب لي والله إلا البؤس والشقاء\" وصدق القبر وما كذب!!.
ومن الناس من حديث قبور أعوامه أفضل من قديمها.. وما وقع نظر الناظر على قبر إلا وحسبه أجمل القبور وأحلاها.. فإذا ما نظر إلى قبر العام الذي بعده نسي جمال السابق وانشغل بروعة اللاحق فكل قبر قد فاق سابقه جمالاً وحسنا.. وكل عام قد فضل سابقه علمًا وعملاً!!
ومن الناس من مقبرة أعوامه على النقيض تمامًا.. فترى قديم قبوره أصلح بناء وأشد قوة من حديثها.. حتى ليخيل للناظر إليها أن صاحبها قد أتعبه بناء قبوره فكل ومل.. وما عادت مقابر أعوامه كسابقها من حيث الوضاءة والجمال.. وإنما اعترتها جرثومة ضعف وأصابتها لوثة من فتور.. فكانت النتيجة أن كان كل قبر أقل من سابقه رونقًا وبهاءً!!
وهكذا هي المقابر.. مقابر الأعوام.. فمقبرة تسر الناظر.. وأخرى تسوؤه.. وبين المقبرتين مقابر تتفاوت في جمال التصميم وروعة البنيان.
وما زلنا نتعاهد مقابرنا بدفن الأعوام.. العام بعد العام.. فنذهب إلى المقبرة ونحثو التراب على عام فارقنا ثم نعود أدراجنا.. إلى أن يأتي اليوم الذي نحمل فيه حملاً إلى المقبرة.. إلى نفس المقبرة.. فيحثى علينا التراب ويرجع القوم.. ونبقى هناك.. لنتوسد القبر حيث لا أنيس ولا جليس إلا مقابر قد بنيناها في زمن مضى.. تناثرت هنا وهناك..
مقابر أعوامنا!!
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد