بسم الله الرحمن الرحيم
إذا تأملنا في واقعنا وجدنا أننا نملك عددًا جيدًا من الأشخاص المتفوقين على المستوى الفردي، وذلك لأن التربية في الأسر وفي المدارس تركز على النجاح الفردي، وليس على النجاح الجماعي، وهذا يشكل معضلة كبرى في زمانناº لأن النظم المعيشية التي ترسِّخها العولمة، تساعد على وجود الكثير من الضعفاء والكثير من المظلومين والمهمّشين، أي يكثر لدينا أولئك الذين لا تهتم بهم أي جهة حكومية، ولا يعرف الأفراد الغيورون كيف يساعدونهم، ومن هنا فإن صياغة القوة التي أفاء الله تعالى- بها على هذه الأمة تتطلب ما يشبه الثورة الكبرى في إنشاء الأطر والجمعيات والمؤسسات والاتحادات والمنظمات الطوعية و(اللاربحية) التي تهتم بالارتقاء بمختلف جوانب الحياة، كما تهتم بمساعدة الناس الذين نسيهم الناس، وبالأمور التي لم يرتقِ وعي الأفراد إلى إدراكها والعمل من أجلهاº ولعلي أشير في هذه المسألة المهمة إلى النقاط التالية:
1- من المهم أن ندرك أن الخلاص الفردي بين أمواج البشر الغارقين في الهموم والأزمات، وأن العيش في جزيرة معزولة في وسط محيط من البائسين والمحرومين هو أمر غير ممكن في زماننا وفي كل زمانº فالهناء والازدهار والأمان والاستقرار إما أن تكون جماعية أو لا تكون، ولهذا نجد أن القرآن الكريم يشدّد حين يعرض لذكر النعيم الأخروي على معنى الحياة الجماعية في الجنة، على ما هو واضح ملموس، وإن الذين يحلمون بالتفرّد بالرخاء والسرور على حساب وجود أعداد كبيرة من الضعفاء والمجتهدين- هم من مرضى القلوب والنفوس، ومن ذوي الاضطراب العقليº لأن ما يحلمون به غير ممكن التحقق، ومن المؤسف القول: إن الصيرورة إلى هذه الوضعية تكاد تكون حتمية بالنسبة إلى الجماهير العريضة، ما دامت الأطر التي تساعدهم على التخلص من التمحور حول الذات، غير موجودة، وفي بعض المجالات غير كافية. ومن المؤسف مرة أخرى أن الخوف لا يزال يسيطر على الكثيرين تجاه تنسيق أي جهد جماعي، في أي مجال وعلى أي صعيد، وكأن أبناء الأمة عبارة عن لصوص أو مجرمين، لا يكون اجتماعهم إلا شريرًا ومؤذيًا ومع أن بعض الناس هم كذلك إلاّ أن هؤلاء هم الشذوذ الذي يؤكد القاعدة، أما معظم المسلمين فإنهم توّاقون إلى بذل الجهد في سبيل الإصلاح وتحقيق النفع العام، ونشر الخير، وإعانة الضعفاء.
2- إننا في حاجة إلى ما يحمي أنفسنا من أنفسناº إذ إن الفراغ الذي يشعر به كثير من الشباب، هو مصدر أساسي لحدوث الكثير من الانحرافات والجرائم، فالطاقة الغائضة التي لا تُوظّف بطريقة صحيحة تتحوّل إلى طاقة مدمرة لصاحبها، وتصبح سببًا أساسيًا للشعور بالتفاهة، كما أن العطالة والبطالة تولد الشعور باحتقار الذات..ولهذا فإن حاجتنا إلى المؤسسات الخيرية لا تكمن في سد الخلات الاجتماعية فحسب، وإنما تكمن قبل ذلك في حماية المنتمين إليها من داء الأنانية، وفي مساعدتهم على تحقيق ذواتهم، وتلبية حاجاتهم إلى السمو الروحي والخلقي.
3- إن علينا أن نفرِّق بين ما يستحق لقب (مجتمع) وبين ما هو عبارة عن حشد أجساد، وُجد بسبب الضرورة من غير قيم ولا مبادئ ولا مقاصد... والمعوّل عليه في هذا التفريق هو حجم الشريحة التي تهتم بالشأن العام، وتقتطع من وقتها وجهدها ومالها ورفاهيتها جزءًا، تستخدمه في تخفيف لأواء العيش عن الآخرين، وفي الارتقاء بهم، ومن هنا ورد الكثير من النصوص المحفِّزة على فعل الخير وعلى البذل والعطاء والتضحية، وقد مثّلت ظاهرة (الوقف الإسلامي) على مدار التاريخ معيار تفاعل الأمة مع تلك النصوص، كما أن تفاعل أي مجتمع إسلامي مع الإرشاد الرباني لعمل الخير كان يشكل معيارًا لخيرية ذلك المجتمع واستقامته، ومن هنا فإنه ورد في بعض الآثار أنه ما من صحابي إلا وقد وقف شيئًا في سبيل الله: هذه امرأة وقفت شيئًا من حليها لتلبسه بعض المسلمات الفقيرات في المناسبات، وهذا رجل يقف ثوبًا، أو يقف فأسًا أو سُلمًا أو دارًا أو أرضًا.. إن مجتمع الصحابة - رضوان الله عليهم- هو أكرم مجتمع إسلامي، وهو في الوقت نفسه أكثر المجتمعات الإسلامية اهتمامًا بالصدقة والتطوّع والوقف ومساعدة الضعفاء وهو بالتالي أجدرها باسم (مجتمع).
4- المرحلة التي تسبق ولادة المجتمع الجدير بلقب (إسلامي) هي المرحلة التي يولد فيها ذلك العدد الضخم من المؤسسات ذات النفع العام، وأهم تلك المؤسسات على الإطلاق تلك المؤسسات التي تساعد الإنسان المسلم على الارتقاء بروحه وفكره وثقافته، وهي مؤسسات محدودة جدًا في معظم المجتمعات الإسلامية، ونحن في الحقيقة نتشوف إلى رؤية مؤسسات قوية تهتم بإنعاش الجانب الروحي والخلقي في حياتناº لأن هذا الجانب هو أكثر جوانب الحياة تضررًا من عمليات العولمة، كما أننا نطمح إلى رؤية المشروعات الوطنية العملاقة التي تحفز الناس على القراءة والبحث وتكوين النظرة العلمية للحياة والأحياء. ونحن كذلك في حاجة إلى إقامة المؤسسات التي تساعد الأسر الإسلامية على حل مشكلاتها التربوية المتصاعدة. ولست أريد أن أعدد هنا ما نحن في حاجة إليه من المنظمات والجمعيات الخيرية، لكن أود أن أؤكد على أن المسلمين في أمس الحاجة إلى أن يكونوا في وضعية، يكون انتماء الواحد منهم إلى ثلاث أو أربع مؤسسات ومنظمات خيرية هو القاعدة، وهو الأصل والمألوف، كما يكون وجود أفراد غير منتمين إلى أي منها هو الشيء الشاذ والغريب وغير المفهوم... وهذا يتطلب من الدول أن تحفز الناس، وتساعدهم على المساهمة في الارتقاء بالشأن العام، مع الاحتفاظ بحقها في الإشراف والرقابة والتنظيم، ولن ترى مثل هذه الأمنية النور إذا لم يكن لدينا عدد من الرواد الذين يعملون في الظروف الصعبة، ويفتحون الأبواب المغلقة، ويرسمون للناس ملامح الوضعية التي يجب أن يصيروا إليها، وأعتقد أن كثيرين منا يستطيعون أن يكونوا من أولئك الرهط العظيم والمنقِذ، لكن بشرط امتلاك شيء من التفتح الذهني والكفِّ عن احتقار الذات. والله الموفق.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد