بطلان القول بإنكار الإعراب:
القول بإنكار الإعراب واضح البطلان، وقد مر أثناء إيراد حجج القائلين بذلك شيء من أوجه بطلان ما ادعوه، وفيما يلي مزيد بيان لرد تلك الدعاوى الباطلة:
1- وجود الإعراب كاملاً في بعض اللغات السامية: كالأكادية، وتشمل اللغتين البابلية والآشورية في عصورهما القديمة.
وقد أورد الدكتور رمضان عبد التواب في كتابه (فصول في فقه اللغة) نماذج لذلك.
2- أن جميع لغات العالم تستخلص القواعد من اللغةº فالقواعد لا توضع ولا تخترع.
يقول د. علي عبد الواحد وافي: \"خلق القواعد خلقاً لا يتصورها العقل، ولم يحدث لها نظير في التاريخ، ولا يمكن أن يفكر فيها عاقل، أو يتصور نجاحهاº فمن الواضح أن قواعد اللغة ليست من الأمور التي تخترع، أو تفرض على الناس، بل تنشأ من تلقاء نفسها، وتتكون بالتدريج\".
3- أن دقة القواعد وتشعبها لا يدلان مطلقاً على أنها مخترعة اختراعاًº فاليونانية واللاتينية - على سبيل المثال - في العصور القديمة، والألمانية في العصر الحاضر - تشتمل كل واحد منها على قواعد لا تقل في دقتها وتشعبها عن وقاعد العربية، ولم يؤثِّر هذا في انتقالها من جيل إلى جيل عن طريق التقليد، ولا في مراعاتها في الحديث، ولم يقل أحد: إنها من خلق علماء القواعد.
4- أن اللغة لو كانت مصنوعة مفروضة على الناس لما قبلوهاº إذ لا يتصور أن يكون للنحاة هذه السطوة على الناس حتى يلزموهم بهذه اللغة التي اخترعوها كما يزعم د. إبراهيم أنيس.
5- أن الأمة لا يمكن أن تتواطئ على إخفاء شيء من الأخبار، ولو كان النحو مصنوعاً لوصلتنا الأخبار بذلك.
6- أن القرآن الكريم الذي وصل إلينا متواتراً بالرواية الشفوية الموثوق بها جيلاً بعد جيل - وصل معرباً.
ولا يمكن أن يدور في خلد أحد أن النبي \" كان لا يحرك أواخر الكلمات في تلاوته لنص القرآن الكريم إلا إذا اقتضت ضرورة وصل الكلمات، أو بعبارة أخرى إذا أراد التخلص من التقاء الساكنينº فلا يتصور أبداً أن يُظن أن النبي \" كان يتلو - على سبيل المثال - قوله - تعالى -: [ن وَالقَلَمِ وَمَا يَسطُرُونَ (1) مَا أَنتَ بِنِعمَةِ رَبِّكَ بِمَجنُونٍ, (2) وَإِنَّ لَكَ لأَجراً غَيرَ مَمنُونٍ, (3) وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ, عَظِيمٍ, (4)] القلم، بتسكين أواخر الكلمات - القلم - بنعمة - ربك - وإنك - خلق -.
فذلك لم يحدث قطعاً، ولو حدث لوصل إلينا روايات من ذلك.
ثم إن اتفاق القُرَّاء، ونصٌّهم على مواضع الاختلاف دليل على وجود الإعراب، ولو كان مصنوعاً لوصلنا براوية واحدة.
وهذا وحده كاف في نفي كون النحو مصنوعاً.
7- أن الرسم القرآني الذي نقل إلينا متواتراً يؤيد وجود الإعراب في الفصحى، وأنه ليس من اختراع النحاةº فالتفرقة واضحة بين المنصوب بالياء، والمرفوع بالألف أو الواو، والمنون كل ذلك يؤكد بأن ظاهرة الإعراب موجودة.
ولا ريب أن المصحف العثماني قد دُوِّن في عصر سابق غير قصير لعهد علماء البصرة والكوفة الذين ينسب إليهم اختراع قواعد الإعراب.
8- تَنَبٌّهُ العلماءِ في الصدر الأول لحركات الإعراب، وإدراكُهم لمدلولها، وعيبُهم من يحيد عنها ممن فسدت ألسنتهم بمخالطتهم للأعاجمº فذلك يدل دلالة صادقة على وجود الإعراب في الكلام، وشعورِ أولئك القوم به قبل أن يخرج النحاة بقواعدهم على الناس.
والأخبار الواردة عن أهل الصدر الأول في هذا الصدد كثيرة جداً، وإن كان بعضها لا يخلو من مسحة التكلف، والصنعة، لكنها -في الجملة- تدل على ذلك -كما مر-.
ومن الأمثلة على ذلك ما يلي:
- \"كتب أبو موسى الأشعري إلى عمر بن الخطاب: (من أبو موسى) فكتب إليه عمر -رضي الله عنه-: \"سلام عليك أما بعد: فاضرب كاتبك سوطاً واحداً، وأخِّر عطاءه سنة\".
ب- \"ويروى عن أبي الأسود الدؤلي أنه سمع رجلاً يقرأ: (أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِن المُشرِكِينَ وَرَسُولُهُ) بكسر اللام من (رسوله).
فقال: لا أظنه يسعني إلا أن أصنع شيئاً أصلح به نحو هذ\".
ج- ويروى أن ابنة أبي الأسود قالت لأبيها يوماً: يا أبت ما أحسنُ السماءِ.
قال: يا بنية! نجومها قالت: إني لم أرد أي شيء منها أحسن، وإنما تعجبت من حسنها.
قال: إذاً فقولي: ما أحسنَ السماءَ! \"
د- \"وقال رجل للحسن البصر- يرحمه الله - يا أبو سعيد! فقال: كسب الدوانيق شغلك عن أن تقول: يا أبا سعيد\".
ه- واستأذن رجل على إبراهيم النخعي فقال: أبا عمران في الدار؟ فلم يجبه، فقال: أبي عمران في الدار؟ فناداه، وقال: قل الثالثة وادخل.
فهذه الروايات، وأضعاف أضعافها مما لم يذكر تدلنا على وجود الإعراب كما يعرفه النحويون في العربية الفصحى.
كما تدلنا من جانب آخر على أنه لم يكن لغة سليقة لكل من تكلم العربية، بدليل وقوع اللحن من كلام هؤلاء ومعظمهم من الموالي.
9- أن الشعر العربي بموازينه وبحوره لا يقبل نظرية د. إبراهيم أنيس بحال من الأحوالº فأوزان الشعر، وقواعده وجرسه يقوم على ملاحظة نظام الإعراب، وبدون ذلك تختل أوزانه، ويضطرب جرسه.
\"ومما لا شك أن هذه الأوزان سابقة لعلماء البصرة والكوفة، وأن شعراً عربياً كثيراً قد قيل على غرارها قبل الإسلام، ومن بعده قبل أن يخلق هؤلاء العلماءº فإنكار هذا الشعر لا سبيل، ولا يمكن أن يكون قد ألف غير معرب الكلماتº لأن عدم إعرابها يترتب عليه اضطراب أوزانه، واختلال موسيقاه\".
10- النقوش العربية، فهي -على قلته- تدل على أن الإعراب كان موجوداً عند العربº حيث يظهر فيها التزام الإعراب.
11- قضية السماع من العرب، فهذا من أعظم ما يؤكد أن النحو ليس مصنوعاً.
فالعلماء في عهد هارون الرشيد كانوا يسمعون الكلام بكل دقائقه من الأعراب الذين كانوا يلقونهم.
ومن أعظم ما يمثل قضية السماع كتاب سيبويه - رحمه الله - حيث يمثل صورة تقعيد النحوº فالقواعد عنده سماعيهº ولهذا نراه كثيراً ما يقول: سمعنا عن فلان، أو حدثنا فلان.
وإليك بعض الأمثلة مما جاء في كتابه - رحمه الله -:
- قال: هذا كله سمع من العرب...1/147.
ب- وقال: وسمعنا من العرب من يقول:... 1/243.
ج- وقال: ومن العرب من يقول: اليوم يومك. 1/419.
د- وقال: وقد سمعنا من العرب من يشمه الرفع... 3/95
ه- وقال: وسمعنا من العرب من يقول: إني أنا لُبَّتُها. 3/128.
و- وقال: وسمعت رجلاً من العرب ينشد هذا البيت... 3/144.
ز- وقال: وسألنا العرب فوجدناهم يوافقونه ويجعلونه... 3/290.
ح- وقال: وسألنا العلويين والتميميين فرأيناهم يقولون... 3/291.
بل إن هناك من الأعراب في القرن الرابع من كان يتكلم العربية، وقد افتخر كثير من الأئمة بمشافهتهم كالأزهري وأبو زيد القرشي، وابن جني، وكانوا يعملون لهم بعض الامتحاناتº ليتأكدوا من مدى فصاحتهم.
بل إن ابن خلدون ذكر أنه وجد في زمانه من يتكلم العربية.
فعلماء هذا شأنهمº دقةً، واحتياطاً، وإخلاصاً لا يعقل أن يتواطئوا جميعاً على هذا الإفك المبين.
ويحسن أن يختم هذا الحديث ببعض الأقوال التي ترد تلك الفرية العظيمة، قال د. علي عبد الواحد وافي: \"وإذا أمكن أن نتصور أن علماء القواعد تواطؤا جميعاً على اختلاف الإعراب فإنه لا يمكن أن نتصور أنه تواطأ معهم عليه جميع العلماء من معاصريهم، فأجمعوا كلمتهم ألا يذكر أحد منهم شيئاً ما عن هذا الاختراع العجيب.
ولا يعقل أن يقبل معاصروهم هذه القواعد على أنها ممثلة لقواعد لغتهم، ويحتذوها في كتاباتهم اللهم إلا إذا كان علماء البصرة والكوفة قد سحروا عقول الناس واسترهبوهم، وأنسوهم معارفهم عن لغتهم وتاريخهم، فجعلوهم يعتقدون أن ما جاؤوا به من الإفك ممثل لفصيح هذه اللغة\".
وقال: \"فنظام الإعراب عنصر أساسي من عناصر اللغة العربية، وليس من إلهام عبقري، ولا من اختراع عالم.
وإنما تكون في صورة تلقائية في أحقاب طويلة كما يتكون اللؤلؤ في جوف الأصداف، وكما تتكون الأحجار الكريمة من فلذات الأرض الطيبة، وقد اشتملت عليه هذه اللغة منذ أقدم عهودها.
وكل ما عمله علماء القواعد حياله هو أنه استخلصوا مناهجه استخلاصاً من القرآن والحديث وكلام الفصحاء العرب، ورتبوها وصاغوها في صورة قواعد وقوانين\".
وقال د. محمد محمد حسين - رحمه الله - في معرض حديث له عن دعاوى إبراهيم أنيس: \"وإني لأتساءل: أيهما أدنى إلى الروح العلمية التي تضبط اللغة وتصونها، وتضمن الثبات والاستقرار؟
قواعد النحاة التي اجتمع عليها الناس، أم هذه الأوهام التي تحتكم إلى الانسجام ونظام المقاطع وطبيعة الصوت وغيرها من الكلمات الغامضة الدلالة التي ليس لها مفهوم عام يلتقي عنده كل الناس؟
ثم إني أتساءل: ما الذي يهدف إليه المؤلف بدعاواه ومزاعمه؟
هل يريد إلغاء الإعراب جملة؟ وإذا تم له ذلك فهل نسمي ذلك تجديداً أم هدماً؟ وهل نقرأ القرآن بعد ذلك بحركات الإعراب أم بدونها؟ \".
وقال - رحمه الله -: \"ويعرف كل من ألمَّ باليونانية واللاتينية وبعض اللغات الأوربية الحديثة كالألمانية أن هذه الحالات التي تعتري الكلمات، وتقتضي زيادة بعض الأحرف في نهاياتها تبلغ ست حالات في حالة الإفراد وستاً مثلها في حالة الجمع، وأنها أكثر تعقيداً فيها منها في العربيةº لأن هذه الحالات يُعبَّر عنها بحرفين أو ثلاثة، وهي في العربية حركة واحدةº ولأن هذه الزيادات غير موحدة، فالكلمات في هذه اللغات تتشعب إلى مجمواعت أو أسر متعددة declensions - وكذلك الفعل في الفرنسية المعاصرة - ولكل أسرة منها علامات للإعراب تختلف عنها في الأسر الأخرى، وإذا جاز ذلك وصحَّ عند دعاة التغريب في لغات هذه الأمم، فلماذا يستنكرونه ويستبعدونه في العربية؟ لماذا يسلمون بوجود هذه الظاهرة التي تربط المعنى بالشكل الذي تتخذه نهايات الكلمات في هذه اللغات، ولا ينسبونها إلى الانسجام وطبيعة الصوت ونظام المقاطع، ويرفضون نظيرها في اللغة العربية؟
ولماذا كان نحاة العرب دون غيرهم هم المهتمين بالتحريف والاختلاق والتزوير والطغيان؟ \".
وقال: \"ومن الطبيعي في كل اللغات أن يكون وضع قواعد اللغة ومعاجمها هو المرحلة الأخيرة في نضجها التي تثبت معها أساليبها في بناء الكلمات والتعبير عن المعاني، ولا يُسمح بعدها بمخالفتها أو الانحراف عنها، ولا يجري التطور إلا في حدودها.
وقواعد اللغة أو ما يسميه العرب نحواً وصرفاً قد استُنبطت من واقعها ومن طريقتها التي هديت إليها في التعبير على مقتضى سنن الله في اختلاف الألوان والألسنة (وَمِن آيَاتِهِ خَلقُ السَّمَوَاتِ وَالأَرضِ وَاختِلافُ أَلسِنَتِكُم وَأَلوَانِكُم إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ, لِلعَالِمِينَ) الروم: 30.
فإذا استُنبطت هذه القواعد من واقعها وبُوبت أصبح لها قوة القانون في المجتمع، لا يسمح لأحدٍ, بالخروج عليه مع أنه هو نفسه من صنع المجتمع.
وما ترويه كتب النحو من الشعر المخالف لهذه القواعد في عصور الاستشهاد مما تسميه شاذاً ليس إلا صورة لفقدان الانضباط الكامل في اللغة الذي كان يسمح لبعض الناي بالخروج على العرف الغالب المألوف إن سها أو دعته لذلك ضرورة أو غلَبَت عليه لهجته المحلية التي تخطَّتها لغة الأدب التي اجتمع عليها العرب قبيل الإسلام، وهذا الذي يسمونه قبل وضع النحو شاذاً، هو نفسه ما يصفونه بعد وضع النحو بأنه خط\".
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد