بسم الله الرحمن الرحيم
\"...فالرسل أطباء القلوب، فلا سبيل إلى تزكيتها وصلاحها إلا من طريقهم وعلى أيديهم، وبمحض الانقياد والتسليم لهم... \"
1 - أول النهضة:
في خضم شؤون الحياة المعاصرة، وكثرة مشاغلها، وتعدد متطلباتها، قد ننسى أن نتعاهد أنفسنا بالتربية والتزكية، ومن ثم تقسو القلوب، ونتثاقل عن الباقيات الصالحات، ونركن إلى متاع الدنيا وزخرفها.
أهمية الموضوع:
مما يوضّح أهمية هذا الموضوع أن الله - تعالى -أقسم أقساماً كثيرة ومتوالية على أن صلاح العبد وفلاحه منوط بتزكية نفسه {ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دسّاها}، وقال - تعالى -: {قد أفلح من تزكى وذكر اسم ربه فصل}. وكان الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - يدعون إلى تزكية النفوس فموسى يقول لفرعون: {هل لك إلى أن تزكى وأهديك إلى ربك فتخشى}، وقال - سبحانه - عن محمد - صلى الله عليه وسلم -: {هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين}.
وتزكية النفوس سبب للفوز بالدرجات العلى والنعيم المقيم: {ومن يأته مؤمناً قد عمل الصالحات فأولئك لهم الدرجات العلى جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك جزاء من تزكّى}. أي طهّر نفسه من الدنس والخبث والشرك، وعبد الله وحده لا شريك له، واتبع المرسلين فيما جاءوا به من خبر وطلب.
وكان من دعائه - صلى الله عليه وسلم -: (اللهم آت نفسي تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها) أخرجه مسلم.
معنى التزكية:
لغة: الطهارة والنماء والزيادة.
والمراد بها: إصلاح النفوس وتطهيرها عن طريق العلم النافع والعمل الصالح وفعل المأمورات وترك المحظورات، وقد بيّن النبي - صلى الله عليه وسلم - معنى تزكية النفوس بقوله: (أن يعلم أن الله عزوجل معه حيث كان) لما سأله رجل وما تزكية النفس؟ الصحيحة (146).
والتزكية بهذا التفسير من النبي - صلى الله عليه وسلم - هي مرتبة الإحسان.
يقول ابن تيمية - رحمه الله -: \"والزكاة في اللغة النماء والزيادة في الصلاح يقال: زكا الشيء إذا نما في الصلاح، فالقلب يحتاج إلى أن يتربى فينمو ويزيد حتى يكمل ويصلح، كما يحتاج البدن أن يربى بالأغذية المصلحة ولا بدّ مع ذلك من منع ما يضره فلا ينمو البدن إلا بإعطاء ما ينفعه ودفع ما يضرّه، كذلك القلب لا يزكو فينمو ويتم صلاحه إلاّ بحصول ما ينفعه ودفع ما يضره\" (مجموع الفتاوى: 1/96-1/628).
وسائل التزكية:
تزكية النفوس تكون عن طريق الشرع فلا سبيل إلى ذلك إلاّ من طريق الرسل - عليهم الصلاة والسلام -.
يقول ابن القيم - رحمه الله -: \"وتزكية النفوس أصعب من علاج الأبدان وأشدّ، فمن زكّى نفسه بالرياضة والمجاهدة والخلوة التي لم يجيء بها الرسل فهو كالمريض الذي يعالج نفسه برأيه وأين يقع رأيه من معرفة الطبيب؟ فالرسل أطباء القلوب، فلا سبيل إلى تزكيتها وصلاحها إلا من طريقهم وعلى أيديهم، وبمحض الانقياد والتسليم لهم\" (مدارج السالكين).
1) تحقيق التوحيد: أعظم وسيلة وآكدها {وويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم كافرون}. قال أكثر المفسرين: الزكاة هنا: التوحيد بشهادة أن لا إله إلا الله، والإيمان الذي به يزكو القلب، فإنه يتضمن نفي إلهية ما سوى الحق من القلب، وذلك طهارته وإثبات إلهيته - سبحانه - وهو أصل كل زكاة ونماء، وضده الشرك وقد وصفه الله ? بالنجاسة {يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس …}.
2) الصلاة: (أرأيتم لو أن نهرًا بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمساً، ما تقول ذلك يبقي من درنه؟ قالوا: لا يبقى من درنه شيئًا، قال: فذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله به من الخطايا) أخرجه البخاري ومسلم.
3) الصدقة: {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصلّ عليهم إن صلاتك سكن لهم والله سميع عليم}. ولما سأل العباس - رضي الله عنه - رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يستعمله على الصدقة قال: (ما كنت لأستعملك على غسالة ذنوب الناس).
4) ترك المحرمات عمومًا: يقول ابن تيمية: \"لا يكون الرجل متزكيًا إلا مع ترك الشرّ، فإنه يدنس النفس ويدسّيها\". وقال ابن قتيبة: \"دساها أي أخفاها بالفجور والمعصية\". فاجتناب الفواحش ما ظهر منها وما بطن طهرٌ ونقاء وعفاف - كما سَمَّى الشارع الفواحش - من الزنا واللواط - نجاسات وخبائث وقاذورات. {لوطًا آتيناه حكماً وعلماً ونجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث}. {أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون}. فأقرّوا مع شركهم وكفرهم أنهم هم الأخابث الأنجاس وأن لوطًا وآله مطهرون من ذلك باجتنابهم له. وقال - صلى الله عليه وسلم -: \"(من أصاب من هذه القاذورات شيئًا فليستتر بستر الله فإنه من يبدي لنا صفحته نقم عليه كتاب الخ\" أخرجه مالك.
5) محاسبة النفس: قال الحسن: ((إن المؤمن - والله - لا تراه إلاّ قائماً على نفسه، ما أردت بكلمة كذا؟ ما أردت بأكلة؟ ما أردت بمدخل كذا ومخرج كذا؟ ما أردت بهذا؟ ما لي ولهذا؟ والله لا أعود إلى هذا ونحو هذا من كلام)). فبمحاسبة النفس يطّلع على عيوبها ونقائصها، فيمكنه السعي في إصلاحها. ((وأضرّ ما على المكلّف: الإهمال وترك المحاسبة والاسترسال وتسهيل الأمور وتمشيتها)) اهـ (ابن القيم / إغاثة اللهفان).
إن أول خطوة في طريق نهضة الأمة تزكية النفوس.
2 - قوة الاتحاد (التآخي)
لقد تطورت أساليب الصراع وقواه في العصر الحديث، فالقوة العسكرية وحدها لا تكفي لتحقيق الغلبة بل هناك القوة الاقتصادية، والقوة الإعلامية، والقوة الإدارية: (التنسيق، والتنظيم، وحبك المؤامرات، وبناء التحالفات …إلخ)، وقوة الاتحاد (الجبهة الداخلية)، والسلامة من حظوظ النفس وأهوائها، وإذا حدث الضعف أو التصدّع في هذه القوة الأخيرة تأخر النصر أو سرق كما حدث في الجهاد الأفغاني. ويأتي هذا التذكير بحقوق الأخوة في عصر تكاد تنضب فيه الروح والأخلاق في صحراء التفرق وسراب المادّة وهجير البراجماتية.
{واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً …}. فلا أخوة بلا إيمان {إنما المؤمنون إخوة}، ولا صداقة بلا تقوى {الأخلاء بعضهم يومئذٍ, لبعض عدوّ إلا المتقين}.
وفي الحديث (وجبت محبتي للمتحابين في، المتجالسين فيّ، والمتزاورين فيّ، والمتباذلين فيّ) المسند. وحديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله … ومنهم: (رجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرّقا عليه) البخاري.
(المتحابون في الله على منابر من نور يوم القيامة يغبطهم الأنبياء والشهداء) المسند.
(من عاد مريضًا أو زار أخاً له في الله ناداه منادٍ, أن طبت وطاب ممشاك وتبوأت من الجنة منزلاً) الترمذي.
(مثل المؤمنين في توادّهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى) البخاري.
هناك الحقوق العامّة التي هي بين عموم المسلمين، وبين المتآخين من باب أولى، ومنها:
أن تسلّم عليه إذا لقيته، وتجيبه إذا دعاك، وتشمته إذا عطس، وتعوده إذا مرض، وتشهد جنازته إذا مات، وتبرّ قسمه، وتنصح له إذا استنصحك، وتنصره إذا ظلم، وتحفظه بظهر الغيب إذا غاب، وقبول النصيحة إذا نصحك.
والجامع في الحقوق العامّة والخاصّة: أن تحبّ له ما تحبّ لنفسك من الخير، وتكره له ما تكره لنفسك من الشرّ، وجميع هذا منقول في الآثار، وكما في الحديث: ((لا يؤمن أحدكم حتى يحبّ لأخيه ما يحب لنفسه)) رواه البخاري.
الحقوق الخاصّة:
(الحق الأول): قضاء الحاجات والقيام بها، وذلك درجات: أدناها: القيام بالحاجة عند السؤال والقدرة، لكن مع البشاشة والاستبشار، وأوسطها: القيام بالحوائج من غير سؤال، وأعلاها: تقديم حوائجه على حوائج النفس (الإيثار). وقد كان بعض السلف يتفقّد عيال أخيه بعد موته أربعين سنة، فيقضي حوائجهم.
(الحق الثاني): على اللسان بالسكوت تارة وبالنطق أخرى، أما السكوت: فهو أن يسكت عن ذكر عيوبه في حضوره وغيبته ومماراته، وعن السؤال عما يكره ظهوره من أحواله، وأن يكتم سرّه ولو بعد القطيعة، ولا يقدح في أحبابه وأهله، ولا يبلغه قدح غيره فيه.
(الحق الثالث): وينبغي أن يسكت عن كل ما يكرهه إلا ما وجب عليه النطق في أمر بمعروف أو نهي عن منكر ولم يجد رخصة في السكوت، فإن مواجهته بذلك إحسان إليه. واعلم أنك إذا طلبت منزهًا عن كل عيب لم تجد ومن غلبت محاسنه على مساويه فهو الغاية. قال ابن المبارك: (المؤمن يطلب المعاذير، والمنافق يطلب الزلات). وقال الفضيل: (الفتوّة: الصفح عن زلات الإخوان). وينبغي أن تترك إساءة الظن بأخيك، وأن تحمل فعله على الحسن مهما أمكن، وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: (إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث). واعلم أن سوء الظن يدعو إلى التجسس المنهي عنه، وأن ستر العيوب والتغافل عنها شيمة أهل الدين، واعلم أنه لا يكمل إيمان المرء حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه، وأقل درجات الأخوة أن يعامل أخاه بما يحب أن يعامله به. ومتى التمست من الإنصاف ما لا تسمح به دخلت في قوله - تعالى -: {الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون}. ومنشأ التقصير في ستر العورة والمغري بكشفها: الحقد والحسد. ومن أشدّ الأسباب لإثارة الحقد والحسد بين الإخوان المماراة، ولا يبعث عليها إلا إظهار التميّز بزيادة العقل والفضل واحتقار المردود عليه، وهذا ضدّ الأخوة.
(الحق الرابع): على اللسان بالنطق، فإن الأخوة كما تقتضي سكوت عن المكروه تقتضي النطق بالمحبوب، بل هو أخصّ لأن من قنع بالسكوت صحب أهل القبور، وإنما يراد الإخوان ليستفاد منهم، لا ليتخلص منهم، لأن السكوت معناه كفّ الأذى، فعليه التودّد إليهم بلسانه، وتفقّد أحوالهم، والسؤال عما عرض لهم، ويظهر شغل قلبه بسببه ويبدي السرور بما يسرّون به. وفي الحديث: (إذا أحب أحدكم أخاه فليعلمه) رواه الترمذي.
ومن ذلك: أن يدعوه بأحب أسمائه إليه، قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: (ثلاث يصفين لك ودّ أخيك: تسلم عليه إذا لقيته، وتوسّع له في المجلس، وتدعوه بأحب أسمائه إليه).
ومن ذلك: أن يثني عليه بما يعرفه، من محاسن أحواله، وكذا الثناء على أولاده وأهله وأفعاله، حتى في عقله وهيئته وخطّه وتصنيفه وجميع ما يفرح به من غير إفراط ولا كذب. وكذلك ينبغي أن تبلغه ثناء من أثنى عليه مع إظهار الفرح به، فإن إخفاء ذلك محض الحسد.
ومن ذلك: أن تشكره على صنيعه في حقّك وأن تذبّ عنه في غيبته إذا قصد بسوء، فحقّ الأخوة: التشمير في الحماية والنصرة. وفي الحديث: (المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه) رواه البخاري. ومتى أهمل الذبّ عن عرضه فقد أسلمه.
ومن ذلك: التعليم والنصيحة، فليس حاجة أخيك إلى العلم بأقل من حاجته إلى المال، وإذا كنت غنياً بالعلم فواسه وأرشده، وينبغي أن يكون نصحك إياه سرًّا.
ومن ذلك: العفو عن الزلات، فإن كانت زلته في دينهº فتلطّف في نصحه ما أمكن، ولا تترك زجره ووعظه. (الحق الخامس): الدعاء للأخ في حياته وبعد موته، بكل ما تدعو به لنفسك، وفي الحديث: ((دعوة المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة، عند رأسه ملك موكّل كلما دعا لأخيه بخير قال الملك الموكل به: آمين ولك بمثل)) رواه مسلم. وكان أبو الدرداء - رضي الله عنه - يدعو لخلق كثير من إخوانه يسميهم بأسمائهم، وكان أحمد بن حنبل يدعو لستة نفر في السحر.
(الحق السادس): الوفاء والإخلاص، ومعنى الوفاء: الثبات على الحب إلى الموت، وبعد موت الأخ مع أولاده وأصدقائه، وقد أكرم النبي ? عجوزًا وقال: (إنها كانت تغشانا في أيام خديجة، وأن حسن العهد من الإيمان). ومن الوفاء: أن لا يتغير على أخيه في التواضع، وإن ارتفع شأنه واتسعت ولايته وعظم جاهه، ومن الوفاء أن لا يسمع بلاغات الناس على صديقه.
(الحق السابع): التخفيف وترك التكلّف، وذلك أن لا يكلّف أخاه ما يشقّ عليه، بل يكون قصده بمحبته الله وحده، والتبرك بدعائه، والاستئناس بلقائه، والاستعانة على دينه. ومن تمام هذا الأمر أن ترى الفضل لإخوانك عليك لا لنفسك عليهم، فتنزل نفسك معهم منزلة الخادم. لقد طبّق الصحابة - رضي الله عنه - هذه الحقوق بينهم في تآخٍ, تاريخيٍ, عزيز، فكان ذلك سببًا من أسباب النصر والتمكين، بل كان سببًا في دخول الأمم الأخرى في الإسلام.
وقد يقول قائل: ما الجديد في هذا الموضوع؟ نحن نريد مشروعًا نهضوياً حضارياً للأمة!
فأقول: إن أي مشروع مهما كان لن يكتب له النجاح ما لم يحسب حساب بناء الإنسان وصياغته على القيم والأخلاق الإسلامية، ولا حضارة بغير ذلك.
الإنسان الصالح - ولا صلاح بغير الإسلام والسنة - وليس الآلة أو الإنسان المتبع لهواه - هو محور الحضارة.
قد تملك كثيرٌ من الأمم القوى الماديّة والتنظيمية لكنها لا تملك المنهج (الإيمان والأخلاق بمفهومها الواسع) الذي يوجّه هذه القوى لتحقيق العدل والخير والسلام والرحمة، ولا يتحقق ذلك إلا باتباع توجيهات الإسلام في صغير الأمور وكبيرها ومن ذلك الجانب الماديّ والتنظيمي وعدم التقصير فيه ليتحقق التكامل الفريد الذي لا يوجد إلا في ظلال الإسلام، وأن يكون الاتحاد والترابط (المصلحة العامة) فوق الحظوظ الخاصة - شخصية أو حزبية (المصلحة الخاصة). ورحم الله (إقبال) حيث قال:
وفي التوحيد للهمم اتحاد... ولن تبنوا العلا متفرقينا
فهل وعى المسلمون ذلك؟ وهل سدّوا هذه الثغرة حتى لا يدخل منها الأعداء فيزيدوا في فرقة المسلمين وشتاتهم؟ وهل بنوا هذه القوة؟
3 - الواقعية في التربية
من المعالم المهمّة في باب السلوك تحقيق الجانب الواقعي الإيجابي، والابتعاد عن المثالية والسلبية، والاعتناء بالجوانب العملية بعيدًا عن الاشتغال فيما لا تحته عمل.
إن من سمات السلوك الشرعي: مراعاة أحوال المكلفين وقدراتهم وطبائعهم، فعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (سدّدوا وقاربوا واغدوا وروحوا وشيء من الدلجة والقصد القصد تبلغوا) أخرجه البخاري. يقول ابن حجر: \"قوله (سددوا) معناه: اقصدوا السداد في الصواب، وقوله (قاربوا) أي لا تفرطوا فتجهدوا أنفسكم في العبادة لئلا يفضي بكم ذلك إلى الملال فتتركوا العمل فتفرطوا)\".
إن من مزايا هذا الدين وخصائصه: التلاؤم بينه وبين طبيعة الإنسان، بقوّته وضعفه، ونوازعه ومشاعره.
وقد أشار ابن القيم إلى هذه الواقعية بقوله: \"لما كان العبد لا ينفك عن الهوى ما دام حيًّا، فإن هواه لازم له، كان الأمر بخروجه عن الهوى بالكلية كالممتنع، ولكن المقدور له والمأمور به أن يصرف هواه عن مراتع الهلكة إلى مواطن الأمن والسلامة، مثاله أن الله - عز وجل - لم يأمره بصرف قلبه عن هوى النساء جملة، بل أمره بصرف ذلك إلى نكاح ما طاب له منهن من واحدة إلى أربع، ومن الإماء ما شاء، فانصرف مجرى الهوى من محل إلى محل، وكانت الريح دبورًا فاستحالت صبًا. وكذلك هوى الظفر والغلبة والقهر، لم يأمر بالخروج عنه، بل أمر بصرفه إلى الظفر والقهر والغلبة للباطل وحزبه، وشرع له من أنواع المغالبات بالسباق وغيره مما يمرّنه ويعدّه للظفر …\".
ولقد كان الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - مدركًا لهذا الأمر فلما قال له ابنه عبد الملك: يا أبه ما يمنعك أن تمضي لما تريد من العدل، فوالله ما كنت أبالي ولو غلت بي وبك القدور في ذلك، فقال عمر: \"يا بني إنما أنا أروّض الناس رياضة الصعب، إني لأريد أن أحيي الأمر من العدل فأوخره حتى أُخرج معه طمعًا من الدنيا فينفروا من هذه ويسكنوا لهذه\".
وللحسن البصري مقالة نفيسة في هذا المقام يقول: \"إن هذا الدين واصب، وإنه من لا يصبر عليه يدعه، وإن الحق ثقيل، وإن الإنسان ضعيف، وكان يقال: ليأخذ أحدكم من العمل ما يطيق فإنه لا يدري ما قدر أجله وإن العبد إذا ركب بنفسه العنف وكلف نفسه ما لا يطيق أوشك أن يسيّب ذلك كله، حتى لعلّه لا يقيم الفريضة، وإذا ركب نفسه التيسير والتخفيف وكلّف نفسه ما تطيق كان أكيس وأمنعها من هذا العدو، وكان يقال: شرّ السير الحقحقة\".
وهذا أبو حازم سلمة بن دينار - رحمه الله - يقرر هذه الواقعية فيجمع بين موافقة الفطرة وملاءمة نوازع الإنسان مع الاعتناء بترويض النفس وتهذيبها على طاعة الله. \"فلما جاء رجل لأبي حازم وقال له: إني لأجد شيئًا يحزنني، قال أبو حازم: وما هو يا ابن أخي؟ قال: حبي الدنيا، فقال لي: اعلم يا ابن أخي إن هذا الشيء ما أعاتب نفسي على حبِّي شيءٍ, حبّبه الله - تعالى -إليَّ لأن الله - عز وجل - قد حبّب هذه الدنيا إلينا، ولكن لتكن معاتبتنا أنفسنا في غير هذا، أن لا يدعونا حبّها أن نأخذ شيئًا يكرهه الله، ولا أن نمنع شيئًا من شيء أحبّه الله، فإذا نحن فعلنا ذلك لا يضرّنا حبنا إياها\".
وقد أعرض طائفة من الصوفية عن تلك الواقعية في الإنسان، فلم يلتفتوا إلى نوازع الإنسان وغرائزه، وخالفوا الفطرة السوية، ولذا تعذّر عليهم قمع تلك الغرائز ثم انتكسوا إلى الإغراق في الشهوات والإباحة.
ولقد تحدّث ابن الجوزي عن هذا الصنف مبينًا سبب انحرافهم فقال: \"إن قوماً منهم وقع لهم أن المراد من رياضة النفوس التخلص من أكدارها المردية، فلما راضوها مدّة ورأوا تعذّر الصفاء قالوا: ما لنا نتعب أنفسنا في أمر لا يحصل لبشر، فتركوا العمل، وكشف هذا التلبيس أنهم ظنّوا أن المراد قمع ما في البواطن من الصفات البشرية مثل: قمع الشهوة والغضب وغير ذلك، وليس هذا مراد الشرع، ولا يتصوّر إزالة ما في الطبع بالرياضة، وإنما خلقت الشهوات لفائدة إذ لولا شهوة الطعام لهلك الإنسان، ولولا شهوة النكاح انقطع النسل، ولولا شهوة الغضب لم يدفع الإنسان عن نفسه ما يؤذيه، وإنما المراد من الرياضة كفّ النفس عما يؤذي من جميع ذلك، وردّها إلى الاعتدال فيه، وقد مدح الله - عز وجل - من نهى النفس عن الهوى، وإنما تنتهي عما تطلبه ولو كان طلبه قد زال عن طبعها ما احتاج الإنسان إلى نهيها، وقد قال الله - عز وجل -: {والكاظمين الغيظ}، وما قال: والفاقدين الغيظ، والكظم رد الغيظ\".
ومن معالم السلوك الشرعي: مراعاة تفاوت قدرات الناس في فعل الطاعات وذلك بسبب اختلاف استعداداتهم وتنوّع مواهبهم وميولهم.
وقد قرّر الإمام مالك - رحمه الله - ذلك لما كتب عبد الله العمري العابد إلى مالك يحضه على الانفراد والعمل، فكتب إليه مالك: \"إن الله قسم الأعمال كما قسم الأرزاق، فرب رجل فتح له في الصلاة ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الصدقة ولم يفتح له في الصوم، وآخر فتح له في الجهاد، فنشر العلم من أفضل أعمال البرّ وقد رضيت بما فتح لي فيه، وما أظنّ ما أنا فيه بدون أنت فيه، وأرجو أن يكون كلانا على خير وبر\". (سير النبلاء 8/114).
وسئل ابن تيمية - رحمه الله - عن الأسباب التي يقوى بها الإيمان إلى أن يكمل على ترتيبها، هل يبدأ بالزهد؟ أو بالعلم؟ أو يجمع بين ذلك على حسب طاقته؟
أجاب بقوله: \"الناس يتفاضلون في هذا الباب، فمنهم من يكون العلم أيسر عليه من الزهد، ومنهم من يكون الزهد أيسر عليه، ومنهم من يكون العبادة أيسر عليه منهما، فالمشروع لكل إنسان ما يقدر عليه من الخير، كما قال - تعالى -: (فاتقوا الله ما استطعتم)، فإذا ازدحمت شعب الإيمان قدّم ما كان أرضى لله وهو عليه أقدر، فقد يكون على المفضول أقدر منه على الفاضل، ويحصل له أفضل مما يحصل من الفاضل، فالأفضل لهذا أن يطلب ما هو أنفع له وهو في حقّه أفضل، ولا يطلب ما هو أفضل مطلقًاº إذا كان ذلك متعذرًا في حقه أو متعسرًا يفوته ما هو أفضل له وأنفع، كمن يقرأ القرآن فيتدبره وينتفع بتلاوته والصلاة تثقل عليه، أو ينتفع بالذكر أعظم مما ينتفع بالقراءة، فأي عمل كان له أنفع ولله أطوع أفضل في حقّه من تكلّف عملٍ, لا يأتي به على وجهه بل على وجهٍ, ناقص، ويفوته به ما هو أنفع له\" (مجموع الفتاوى 7/651).
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد