القرار الأخير لمجلس الأمن الدولي بتحويل مواطنين سودانيين إلى المحاكمة أمام المحكمة الجنائية الدولية حمل دلالات خطيرة ومتعددة:
منها: مصير هؤلاء المواطنين السودانيين الذين سيتم اقتلاعهم من بلدهم، والاعتداء على سيادة وقانون السودان، والدفع بهم إلى 'زنازين دولية', حيث تجري محاكمتهم وسط أسوأ حالة تشهير بالعرب والمسلمين.
ومنها: أن تطبيق هذا الأمر وللمرة الثانية على مواطنين مسلمين [ليبيا من قبلُ أمام محكمة لاهاي]، إنما يجعل من فكرة اقتلاع المواطن المسلم والعربي ومحاكمته في الخارج أمراً عادياً، وهو الأمر الذي يجعل من فكرة هذه المحاكمة الدولية سيفاً مسلطاً على رقاب الجميع.
ومنها: أن فكرة المحاكمة الدولية التي جرت للمواطنين الليبيين من قبلُ لأسباب تفجير طائرة على أرض غير ليبية، توسعت الآن في محاكمة المواطنين السودانيين إلى محاكمة مواطنين على وقائع جرت داخل بلدهم.
ومنها: أن فكرة التطهير العرقي المتهم بها هؤلاء المواطنين هي فكرة يمكن أن تتغير حسب الجرائم التي تجري المحاكمات بسببها في حالات أخرى - من وجهة نظر الغرب -، فاليوم هناك اتهام يوجب المحاكمة بتهمة التطهير العرقي, وغداً سيكون هناك محاكمة بتهمة معاداة السامية, وبعدها بتهمة العداء للكيان الصهيوني - حيث القانون الذي أعد في الكونجرس يساوي بين انتقاد تصرفات الكيان الصهيوني وفكرة معاداة السامية - وبعدها ستجري المحاكمات بتهمة الإرهاب.
وإذا كان ما جرى من قبل بصورة أشد إجرامية وعدوانية في مسالة اقتلاع مواطنين، وتقييدهم بالسلاسل، وتعذيبهم على أرضٍ, عدوَّةٍ, [جوانتنامو]، قد جرى وفق 'لا قانون' - أو وفق شريعة الغاب - فمن بعد سيصبح الاتهام بالإرهاب اتهاماً يوجب المحاكمة أمام المحكمة الجنائية ووفقاً لقوانينها.
ولعل الأقرب في الحدوث في الوقت الراهن هو تحويل ملف اغتيال الرئيس الحريري - بعد انتهاء التحقيق من قبل اللجنة التي سيكلفها مجلس الأمن الدولي - إلى هذه المحكمة، وفي هذه الحالة سيتم استخدام أمر المحاكمة للتنكيل بأبرز الرموز المعارضة للتدخل الأمريكي الفرنسي في الشأن اللبناني، ومعهم كل المقاومين للوجود الصهيوني والأمريكي والفرنسي في لبنان.
ومنها: أن القرار جاء كيلاً بمكيالين بين أفراد في المجتمع الدوليº إذ إن الولايات المتحدة انتزعت - قبل الموافقة على هذا القرار - استثناءً ليس فقط لمواطنيها في مثل هذه المحاكمة، وإنما لمن يحمل جنسيتها, ومن ثم فإن المجرمين الحقيقيين فيما يجري في دارفور سيلتحفون بالجنسية الأمريكية للاحتماء من المحاكمة، بينما الذين سيحاكمون هم المواطنون السودانيون, وفي الأغلب سيكون قادة التمرد أول من يلتحفوا بالجنسية الأمريكية.
وفي القرار أيضاً دلالات دولية مهمة تؤكد مجدداً على أن الولايات المتحدة لم تعد صاغرة إلى هيئة الأمم المتحدة, بل باتت أكثر تعاوناً مع تمرير المصالح الأوروبيةº إذ كانت فرنسا بحكم طموحاتها الاستعمارية في دارفور - لأبعاد تاريخية وبحكم طموحها للاستئثار بثرواتها, وبالنظر إلى وجودها في تشاد - هي صاحبة القرار، إذ إن الولايات المتحدة التي رفضت المحكمة الجنائية الدولية منذ بدايتهاº تقرر التجاوب مع الطلب الفرنسي دون ضجيج, مكتفية بحماية مواطنيها - خروجاً من المأزق الذي وجدت نفسها فيه إلى جانب الحكومة السودانية ضد الأوروبيين -، ولو كانت الحال كما كانت في السابق من صراع أوروبي أمريكي لكانت تلك فرصة الولايات المتحدة للانتقام من فرنسا على مواقفها في مجلس الأمن خلال محاولة انتزاع قرار منه بالعدوان على العراق، وكذلك هو يطرح أن اتفاقهم إنما يأتي علينا كما هو خلافهم: خلافٌ على مصالح استعمارية لهم في بلادنا.
ومنها: أن هذا القرار هو الحالة الأولى التي تعمل فيها محكمة جرائم الحربº إذ ظلت المحكمة حتى الآن بلا عمل.
وهكذا فالقرار خطير لأسباب عديدة ومتنوعة، غير أن الأخطر هو هذه الحالة المأساوية التي يعيشها المسلمون تحت سيف مجلس الأمن بصفة دائمة، حيث بات مجلس الأمن مكرِّساً كل جهوده ضد العرب والمسلمين, الأمر الذي بات يطرح تساؤلاً حول استمرار هذه الحالة، وحول ضرورة طلاق الدول العربية والإسلامية من مجلس الأمن، أو خروج الدول العربية والإسلامية من زنزانة مجلس الأمن!
زنزانة مكيفة الهواء!
صحيح أن الدول العربية والإسلامية من الناحية الرسمية هي دول كاملة العضوية في المؤسسة الدولية المسماة بالأمم المتحدة, غير أن التمعن قليلاً يكشف أن هذه العضوية ليست إلا دخولاً إلى زنزانة مكيفة الهواء، وكل من مر بتجارب الحجز والحبس والاعتقال يعرف أن السجن سجن حتى لو كان مكيف الهواء.
فمن يتابع سيرة مجلس الأمن مع القضايا العربية والإسلامية يلحظ أن المجلس لم يخطئ يوماً ويصدر قراراً مشفوعاً بالتنفيذ لصالح أية دولة أو أية قضية عربية أو إسلامية، وإذا كانت قضية فلسطين شاهداً تاريخياً على عمق انحياز المجلس دوماً ضد العرب والمسلمين, وعلى أنه لم يفعل شيئاً ضد الكيان الصهيوني في أية مرحلة تاريخية, ولا بصدد أية جريمة مستحدثة أو جديدة، فإن من يتابع قرارات مجلس الأمن في الفترة منذ العدوان على العراق في عام 1991 وحتى الآن يلحظ أن المجلس قد أصبح متفرغاً لإصدار قرارات للنيل من العالم الإسلامي, وجميعها مشمولة النفاذ وبالقوة العسكرية، ويلحظ كذلك أن هذه القرارات يجري تنفيذها بأسرع من سرعة البرق، وقد كان آخر ما صدر عنه قرار إحالة نحو 51 سودانياً لمحكمة الجنايات الدولية, وعلى الفور أعلن في نفس يوم صدور القرار عن بدء استعدادات قضاة المحكمة للسفر للسودان، ومن قبلُ حينما صدرت قرارات بنزع أسلحة العراق كان القرار يصدر مشفوعاً بالتنفيذ, وعلى الفور كانت تصل لجان التفتيش والمطاردة إلى داخل العراق، كانت القرارات تصدر مشمولة بالتنفيذ الفوري، فإذا رفض موظف دخول لجنة إلى منشأة عراقية غير مشمولة في القرار السابق كان المجلس يتداعى إلى إصدار قرار جديد، وهكذا كان الحال في مشروع النفط مقابل الغذاء... إلخ.
وفي أحداث لبنان كانت الإجراءات فورية من صدور القرار 1559، إلى صدور قرار بتشكيل لجنة أولية للتحقيق في اغتيال الحريري، إلى انعقاد مجلس الأمن قريباً لإصدار قرار آخر بتشكيل لجنة دولية للتحقيق، وما سيعقبها من إحالة المتهمين أيضاً كما هو متوقع - وبينهم سيكون مسؤولون لبنانيون، وربما مسؤولون سوريون من الذين كانوا ضمن القوات السورية, وأجهزة الأمن السورية - إلى المحاكمة الدولية، وهو أمر لم يعطله إلا انشغال المجلس بإنهاء مسألة تحويل المواطنين السودانيين إلى المحكمة الجنائية الدولية، وقبلها قرار إرسال قوات دولية إلى جنوب السودان، وإذا عدنا للوراء قليلاً فسوف نجد أن سيرة المجلس قد انحصرت بصورة شبه مطلقة في ملاحقة العالم الإسلامي، إما تقسيماً لدوله كما هو الحال في إندونيسيا [بفصل أحد أقاليمه وتحويله إلى دولة]، أو ضغطاً على حكوماته بالحصار السياسي والاقتصادي والتكنولوجي والعسكري [العراق - ليبيا - السودان - سوريا]، أو تدخلاً في شؤونه الداخلية [السودان - العراق - لبنان]، أو إقراراً لعدوان عسكري [أفغانستان - العراق 1991], أو صراعاً على دولة [العراق]، كما يلاحظ أن كل ذلك جرى وبسرعة البرق، بينما لم تطرح قضية الشيشان على المجلس رغم المجازر التي تقوم بها روسيا ضد المسلمين في الشيشان، كما تمت مصادرة أية قرارات تقضي بإدانة الكيان الصهيوني حينما كان المجلس يصبح غير قادر - بحكم فظاعات الجُرم - أن لا يعرض الأمر - كما كان الحال في مجزرة جنين -، وقد كان الحال بالنسبة لمسلمي البوسنة مأساوياً على أكثر من صعيد سواء بأن المجلس حظر وصول السلاح للمسلمين، وأنه ظل على هذه الحال إلى أن انتهى المجرمون من ارتكاب كل المجازر المطلوب ارتكابها، أو لأن قوات الأمم المتحدة لم تقف فقط صامته وقت ارتكاب الجرائم بل ساهم بعضها في المجازر، وفي جرائم اغتصاب المسلمات... إلخ.
لم يعد المجلس وعلى أي مستوى محقِّقاً لأي هدف منه لصالح الأمة, بل أصبح الانضمام إليه وكأنه التزام عربي وإسلامي بالرغبة في قبول العقاب, أو أصبح سجناً وزنزانة موضوعة فيها الدول العربية والإسلامية استعداداً للذبح حسب مشيئة السجانين!
أصل الحكاية؟
والمؤلم في هذه الحالة المأساوية للعالم الإسلامي أو للدول الإسلامية هو أن لا جديد حقيقة من الأصل فيما يجري!
فتلك الأمم المتحدة التي تهافت عليها النظام الرسمي العربي والإسلامي، وبات يعاملها كعبد أمام سيده - هذا هو وضعها الحقيقي - قد تأسست على هذا الفهم, وتوزعت عوامل القوة فيها على هذا النحو منذ البداية.
لقد تشكلت الأمم المتحدة كحالة من حالات التراضي على تقاسم المصالح بين الدول المنتصرة في الحرب العالمية الثانية، فكان أن أصبح لهذه الدول الخمس حق الفيتو حتى لا تتغوّل دولة استعمارية على مصالح دولة استعمارية أخرى، وأصبح لهذه الدول الخمس حق القرار في الحصار السياسي والعسكري، وحق العدوان كذلك على أية دولة أخرى خارج إطار هذه الدول الخمس، والى جانب مجلس الأمن تأسس سجن كبير وضعت فيه مختلف دول العالم التي قبلت أن لا يكون لا حول لها ولا قوة فيما سمِّي بالجمعية العامة التي ليست هي أكثر من منتدى للدول، تتحدث فيه وتصدر قرارات لا قيمة لها، بينما الدولة الاستعمارية الكبرى تتخطفها الواحدة تلو الأخرى.
تأسست الأمم المتحدة إذن على هذا النحو، ومن ثم ترك الأمر في الجمعية العامة لإصدار كل القرارات التي تجعل الدول الصغرى في حالة من الحركة داخل سجن الاحتجاز، وبلا قوة لقراراتها، وبلا أهمية لما تفعل، فإذا جاء أوان ذبح إحداها فلا تجدي كل أصوات 'الغلابة' الآخرين في إنقاذها.
لكن وجود مصالح متضاربة إلى حد ما خلال الحرب الباردة كان فرصة لتخفيف الضغط عن البعض, حيث في هذه الفترة كانت هناك خلافات ومساومات، صحيح أنها في النهاية لم تنتج شيئاً جدياً لمصلحة المسلمين - قضية فلسطين الشاهد التاريخي الأكبر -º غير أنها على الأقل جعلت الذابحين يضطرون بحكم مصالحهم المتنافرة أن يرفعوا سكاكينهم - أو حق النقض الفيتو - في وجوه بعضهم البعض، غير أن المرحلة منذ انتهاء الصراع الدولي المسمى بالحرب الباردة جعلت كل القرارات موجهة ضد العالم الإسلامي، وبشكل مضطرد، وهنا يصبح السؤال: لم كل هذا التبلد في التعامل مع فكرة الانضمام إلى الأمم المتحدة؟
الانضمام بين مرحلتين:
لقد مرت فكرة العلاقة بين الدولة القطرية العربية أو الإسلامية والأمم المتحدة بين مرحلتين, الأولى كانت في بداية تشكٌّل هذه الدول, فوقتها كان كل أمل أية دولة من هذه الدول هو أن تعترف بها الأمم المتحدة، وأن تصبح عضواً فيها, وكان ذلك قد بدأ منذ تأسيس عصبة الأمم عقب الحرب العدوانية العالمية الأولى، وتطوّر على نحو شديد الاندفاع بعد تشكيل الأمم المتحدة عقب الحرب العدوانية العالمية الثانية.
غير أن هذه الدول خرجت من مأساة مباشرة ممثلة في الاحتلال المباشر لكي توضع في معتقل الأمم المتحدة - الجمعية العامة للأمم المتحدة - الذي دخلته بأقدامها مع سبق الإصرار والإلحاحº إذ لم تدرك أنها دخلت إلى مصيدة خطيرة، حيث باتت ملتزمة بكل ما يقرره الاستعماريون بشأنها أو ضدها أو على رقبتها، فهي إذ دخلت إلى الأمم المتحدة ظنّاً منها أنها تلجأ لحماية نفسها إذا بها ذهبت للالتزام بما سيقرر ضدها لتصبح أمام معادلة طرفاها مر، فإذا ظلت ملتزمة بالتواجد داخلها فهي لا تفعل شيئاً سوى أنها تعيش داخل معتقل مجلس الأمن المسمى بالجمعية العامة للأمم المتحدة انتظاراً لكيفية صراع المستعمرين عليها، وإذا خرجت منها باتت دولة منبوذة وحيدة من بين دول العالم أجمع!
وهنا فإن الخطأ الكبير لم يكن فقط في الاندفاع نحو الأمم المتحدة طلباً للعضوية في نادى البؤساء، وإنما أيضاً أن الدول الإسلامية لم تنجح - ليس فقط في بناء قدرة فعلية تجعلها في مصافّ القوى الكبرى - وإنما أيضاً لم تشكل هيئة إسلامية أو منظمة تجمع قدراتها المتناثرة لتكون ذات مهابة في الوضع الدولي.
فإلى أين المسير؟ وإلى متى؟!
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد