صوت الجنوب من باندونغ إلى برازيليا


 

بسم الله الرحمن الرحيم

بعد عامين من التحضير لها انعقدت في العاصمة البرازيلية مؤخراً القمة العربية الأمريكية الأولى من نوعها التي تجمع بين العرب وقارة أمريكا الجنوبية، ولكن في ظل شبه حضور عربي، وفي ظل صمت إعلامي عربي واضح لم يمنح القمة الاهتمام الذي تستحقه مقارنة بقضايا أخرى.

الجانب الإعلامي وحده في هذه القمة يستحق وقفة سريعة، فما حدث من تغطيات إعلامية للقمة في الصحافة العربية المرئية والمكتوبة والمسموعة - على الأقل فيما لاحظت شخصياً - أمر يدعو في الحقيقة إلى الاستياء، ولو اقتصر ذلك على الإعلام غير الرسمي لهان الأمر، وقلنا: إنه مهتم بمتابعة البؤر الساخنة، وملاحقة ما يجري وما يصدر من شمال وغرب الكرة الأرضية حيث أوروبا وأمريكا الشمالية، مقر صناعة الأحداث في المسرح العالمي الراهن، أما أن يصل ذلك إلى الإعلام الرسمي العربي فهذا ما لا يمكن فهمه إلا إذا رجحنا أنه كان مقصوداً، وترجم حقيقة الموقف العربي من القمة، فقد اعتاد هذا الإعلام أن يضخم الحدث الذي يريد، وأن يوسع دائرة التغطية عندما يكون ذلك مرغوباً فيه لدى المسؤولين، ولم يول القمة اللاتينو - عربية الاهتمام الكافي لعدم قناعة البلدان العربية بها، وعدم القناعة هذه عكسها في الواقع مستوى الحضور العربي ونوعهº إذ لم تحضر القمة سوى دول عربية قليلة لم يتجاوز عددها ست دول، بعضها حضر ممثلاً بوزراء خارجيته - من بين اثنين وعشرين دولة عضواً في جامعة الدول العربية -، مع أن القمة عنوانها القمة العربية - اللاتينية، بينما حضر من أمريكا الجنوبية اثنا عشر دولة من أصل عشرين.

الضغوط الأمريكية والإسرائيلية على بعض البلدان العربية لمنعها من الحضور لم تكن خافية، ولم تعد سراً كما تناقل الإعلام ذلك، وهي التي كانت وراء عدم حضور جل البلدان العربية، وغياب عدد من القادة العرب الذين حضر بدلهم مندوبون عنهم، ولكن غياب الاهتمام العربي بالقمة يعود أيضاً إلى قضية أخرى تخص اللغة، أي أنها في النهاية عائدة إلى عامل ثقافي، إذ الأواصر بين القارة الأمريكو - لاتينية وبين العالم العربي منعدمة أو تكاد بسبب عدم انفتاح المناهج التعليمية على اللغة الإسبانية، اللغة الأكثر انتشاراً في القارة أمام البرتغالية، وليس جديداً أن العنصر الثقافي يحدد بدرجة كبيرة مستوى الاختيارات السياسية، كما أنه ليس اكتشافاً أن فرنسا وأمريكا تحرصان على إبقاء لغتهما الفرنسية والإنجليزية كجزء من المنظومة التعليمية في العالم العربي، وتسعيان إلى توسيع مجال انتشارهماº لأنهما تدركان بأن اللغة إحدى مفاتيح العلاقات الدولية.

الأهم في هذه القمة أنها تزامنت مع ذكرى مرور خمسين عاماً على مؤتمر باندونغ في النصف الأول من خمسينيات القرن الماضي، الأمر الذي يترك مساحة واسعة للإيحاءات السياسية والحضارية، ويجعل المقارنة مسألة لا تخلو من وجاهة، ولكنها لا تخلو أيضاً من مفارقات، ففي 18 أبريل 1955 اجتمعت عدة بلدان من إفريقيا وآسيا في قمة تاريخية بأندونيسيا لمحاولة رسم خط ثالث في السياسة الدولية بين المعسكرين الاشتراكي والرأسمالي، الأول ممثلاً في الاتحاد السوفياتي آنذاك، والثاني ممثلاً في الولايات المتحدة الأمريكية ومعها عدد من بلدان أوروبا الغربية، وقد كانت تلك المرحلة مرحلة مخاض كبير بالنسبة لبلدان الجنوب الذي كان يرزح تحت الاحتلال الأوروبي، أو الوصاية الغربية، أو السوفييتية، ولهذا أراد إطار باندونغ أن يتحول إلى ميدان للدفاع عن مصالح بلدان الجنوب في آسيا وإفريقية، وأن يختط لنفسه طريقاً ثالثاً من أجل تحقيق التنمية والنهوض، والاستقلال السياسي والاقتصادي وحتى العسكري، كانت عبارة "العالم الثالث" قد أصبحت بمثابة شعار أيديولوجي تعبوي قوي، فقد تجمعت فيه جميع المقابلات لما في أوروبا، الاستعمار مقابل التحرر، التخلف مقابل التقدم، الحروب الأهلية مقابل السلام الديموقراطي، ولكن السنوات التالية لما بعد حصول غالبية هذه البلدان على استقلالها السياسي، وأيضاً لما بعد رحيل الزعماء الذين كانوا وراء الفكرة، أبان على أن الشعار السابق لم يستمر حاضراً بنفس القوة لدى جميع الأطراف، فقد خرجت آسيا من التخلف، وبدأت تسلك طريق التنمية الذاتية، وبناء القوة الاقتصادية لتصبح اليوم تِنّيناً يُحسب له حساب، ودخلت إفريقية مرحلة الانقلابات العسكرية المتوالية، والصراع على السلطة، والاقتتال الأهلي الداخلي، ووضعت للعرب قضية فلسطين كالسمّ في الطعام لشغلهم عن أنفسهم وعن مستقبلهم، وتمزّق إطار باندونغ وحده بطريقة هادئة ليتحول إلى ذكرى أو أرشيف.

لكن مرحلة باندونغ ليست خالية من الدروس للجانب العربي، وأهم هذه الدروس أن العرب لم يفهموا في ذلك الوقت أهمية التحالفات لإيجاد مكان لهم في العالم، ونيل احترام الآخرين، بينما استطاعت آسيا أن تفعل ذلك من دون باندونغ.

أما قمة برازيليا اليوم فهي تختلف عن قمة باندونغ، ولكنها قريبة منها من حيث الأساس الذي ارتكزت عليه، في القمة الأولى لعب الأشخاص دوراً في بلورة فكرة التعاون جنوب - جنوب، فقد كان هناك الصيني شوان لاي، والهندي نهرو، والمصري جمال عبد الناصر، والأندونيسي سوكارنو، والكومبودي سيهانوك، والإيفواري هوفويت بوانييه، ولعب المزاج الشخصي والسياسي لهؤلاء والخلفية الوطنية لكل منهم - بسبب معاناتهم مع الاحتلال، وكذا لعب وجود عدو مشترك لهم وهو التبعية والاستعمار الغربي أو الشرقي - دوراً في إخراج فكرة التقارب والتحالف، أما في حالة قمة برازيليا فإن الأمر لا يتعلق بزعامات شخصية، ولكن بأهداف كبرى مشتركةº لأن عصر الزعيم الفرد ولى إلى غير رجعة، وإلى جانب هذا الفرق هناك أيضاً فرق آخر وهو: أن الأمر يتعلق اليوم بدول أمريكا الجنوبية وليس بدول آسيا التي لم تعد تقف في صف تلك البلدان، أو في صف البلدان العربية، بل تجاوزتهما معاً، وتشبه البلدان اللاتينية اليوم في ظروفها وبنيتها الاقتصادية ووضعها السياسي وتحدياتها الخارجية العالم العربي.

هذه العلاقة بين باندونغ وبرازيليا هي التي تبرر اليوم الغضب الأمريكي والإسرائيلي من القمة، خاصة وأن الذكرى الخمسين على المؤتمر الأول ما تزال طرية منذ ثلاثة أسابيع فقط، وقد احتفل بها الإعلام الغربي، وأعاد التذكير بأهدافها الاستراتيجية الكبرى التي لم تتحقق، بل ونظر إليها باعتبارها محاولة أخفقت لخلق تكتل عالمي واسع من البلدان الناهضة في تلك الفترة لمواجهة الهيمنة الأمريكية والسوفياتية على العالم، ومع أن هذه الأهداف والطموحات لا تزال مطروحة اليوم في ظل تزايد هيمنة الولايات المتحدة التي تعد القطب الأوحد المسيطرº فإن التخوف الأمريكي من شأنه أن يكون جدياً، بل إن مما زاد في ذلك أن البرازيل رفضت السماح لها بالحضور بصفة مراقب في القمة، الأمر الذي جعل الإدارة الأمريكية ترى في ذلك إهانة لها، بل ورسالة إليها مفادها أنها غير مقبولة، وأن القمة هي أصلاً موجهة إليها.

يصعب في نهاية هذا المقال الحديث عن رهانات عربية من وراء المشاركة في القمة، ويبدو أنها كانت ستكون أكبر، في ضوء التصريح المتأسف لأمين عام جامعة الدول العربية عمرو موسى الذي تمنى لو أن المشاركة العربية كانت أوسع، فليس في عالم اليوم أمة تستحق أن تكون موضوعاً لـ"رثاء" طويل كالأمة العربية، ولكن رهانات البرازيل الداعية للقمة ورهانات البلدان الأمريكو - لاتينية الأخرى هي رهانات كبيرة، فالقارة لم تزل بعد تعاني من مخلفات الهيمنة الأمريكية في العقود الماضية عندما كانت واشنطن ترى فيها وتتعامل معها على أساس أنها"مربع خلفي" لها، وتزرع فيها أنظمة الاستبداد والبطش والإقطاع، وتحاول اليوم التخلص من هذا التاريخ البائس عبر سلوك طريق جديد مستقل، يمثله اليوم هوغو شافيز في فنزويلا، ولولا دي سيلفا في البرازيل، وهما الرجلان اللذان لا تنظر إليها واشنطن بعين الارتياح، وفوق ذلك تسعى القارة إلى الحصول على مقعد دائم في مجلس الأمن، وتراهن في ذلك على التأييد العربي، والخلاصة هي أن العرب مدعوون إلى عدم تفويت هذه الفرصة لخلق تحالف قوي مع قارة سيحسب لها ألف حساب قريباً، وعليهم أن لا يرخوا أيديهم من أمريكا اللاتينية كما أرخوها من آسيا في باندونغ، فما يستنتج من هذه القمة التي أزعجت أمريكا وإسرائيل أن الجنوب بإمكانه أن يرفع صوته، وأن التاريخ لا يصنع في مكان واحد باستمرار، إذ يمكن أن يصنع من الجنوب.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply