استقلال كوسوفا .. نظرة عن قرب


 

بسم الله الرحمن الرحيم

"الولايات المتحدة، وبريطانيا، وفرنسا، وإيطاليا، وألمانيا" تلك الدول الغربية كانت أوائل الدول التي اعترفت ودعمت هذه الدولة الأوروبية الوليدة "كوسوفا" في سعيها نحو الاستقلال عن صربيا.

ولعل السؤال الذي يطرح نفسه على كل متابع للشأن السياسي وقضايا المسلمين هو: ما الدافع الذي جعل تلك الدول الغربية تدعم استقلال "كوسوفا"؟ وهو الإقليم الذي يدين أغلبية سكانه بالإسلام، أكثر من 95 في المئة من سكانه مسلمون، وتحتل القومية الألبانية الرافد الأكبر من تعداد السكان الذي يربو على 2.5 مليون نسمة، فهل رقّ لتلك الدولة الوليدة ضمير أمريكا بعد غفوة طويلة عاشها في العراق وأفغانستان؟

أم أن ساركوزي فرنسا شعر فجأة بالحزن على آلاف الكوسوفيين الذين راحوا ضحايا المذابح الصربية - وهو الذي أعلن أنه لن يضع يده في يد من لم يعترف بإسرائيل التي تتسبب في قتل مئات المسلمين الفلسطينيين كل يوم جراء حصارها لغزة - فسارع بالاعتراف.

أم أن بريطانيا العظمى - صاحبة وعد بلفور الذي مهد للصهاينة في فلسطين، وما زالت يدها ملوثة بدماء العراقيين - رأت أن في اعترافها بكوسوفا تعويضاً للأخطاء التاريخية في حق المسلمين.

معلوم أن الغرب برافديه الأمريكي والأوروبي حرص - وخاصة بعد أحداث سبتمبر - على التضييق على المسلمين الغربيين، فقد سنت القوانين، ووضعت مواد في دساتيرها غايتها حصار المسلمين والتضييق عليهم، حتى حظروا على فتيات المسلمين لبس الحجاب، ومنعوهم من بناء المساجد.

فما الذي دفع الغرب بعدائه الشديد للإسلام أن يدعم استقلال دولة غالبيتها من المسلمين، لا شك أن وراء هذا الموقف أسباب خفية، ولا شك أن الهوية الدينية والقيم الغربية تأتي في مقدمة الأولويات المصلحية إضافة إلى المصالح الاقتصادية والمالية، وسنحاول من خلال تحليل موقف الغرب تجاه تلك القضية أن نسبر الأسباب الخفية الدافعة له للاعتراف باستقلال "كوسوفا".

 

حقيقة الاستقلال:

كثير من البلاد تدعي الحرية والاستقلال، وأن لها سيادة على أرضها وشعبها، في الوقت الذي يوجد من يهيمن على قرارها السياسي، ويستنزف مواردها الاقتصادية والبشرية، ويضع لها نمط الحياة التي يجب أن تعيش عليه شعوبها، ويحدد لها أطر التفكير، ومعايير القيم.

فالاستقلال ليس مجرد عَلَمٍ,، أو حدود جغرافية، أو حكومة لا تمثل إرادة شعبهاº إن الاستقلال سيادة حقيقية، ومرجعية حضارية، وانتماء حقيقي لهوية الأمة، وحكومة تُمثل تطلعات أمتها.

 

هل استقلت كوسوفا؟

تخلصت كوسوفا من السيطرة الصربية على مقدراتها، فهل تخلصت حقيقة من الهيمنة والسيطرة الغربية؟

وبصورة أقرب واقعية فقد حرص الغرب على وضع كوسوفا تحت إدارة من الأمم المتحدة، هدفت تلك الإدارة إلى إعادة بناء "كوسوفا" من أجل ما يسمى استيفاء المعايير المسبقة للحصول على الاستقلال.

وتقود تلك الإدارة عملية إعداد أبنية الاستقلال من خلال إعداد نخب قومية وعلمانية قوية ذات توجه غربيº يكون هدفها تطبيق المعايير الأوروبية، وتجعل من الاندماج في الاتحاد الأوروبي هدفاً أساسياً لها بعد الاستقلال.

وهذا ما أشار إليه مستشار البيت الأبيض لشئون البلقان "كارلس إنجليز" بقوله: "ألبان كوسوفا يريدون الاستقلال عن صربيا، وهو الأمر الذي ترفضه بلجراد، إن تحديد الوضع النهائي لكوسوفا يجب أن يكون على أساس ما قامت به المؤسسات الكوسوفية من تطبيق المعايير الغربية التي وضعت لهذا الشأن".

وربما تكون عملية إعداد الشعب الألباني المسلم - أو قل عملية تغيير هويته - هي السبب الذي من أجله أُجلت عملية الاستقلال، ودفع الغرب لوضع الإقليم تحت إدارته وحمايته منذ 1999م حتى فبراير 2008مº ليتأكد أن خطته نجحت، ومعاييره طبقت، وإعادة تشكيل الهوية يسير في مساره الذي رسم له.

كل ذلك يعني أن الشعب الألباني المسلم بعد أن تخلص من احتلال القوة "الصلبة" الممثلة في صربياº أصبح يواجه احتلال القوة "الناعمة" الممثلة في الاتحاد الأوروبي وأمريكا.

 

الأسباب الخفية وراء اعتراف الغرب بكوسوفا:

1- وعت أمريكا والغرب منذ الوهلة الأولى من حرب الصرب ضد المسلمين الألبانº أن هذه الطريقة في حرب المسلمين لن تجدي نفعاً، وأنه ربما يؤدي ذلك إلى عودة روح الجهاد لمنطقة البلقان كما حدث في البوسنة والهرسك، ونرى ذلك جلياً حين فرضت واشنطن على جيش تحرير كوسوفا أن يحل نفسه، ويسلم أسلحته، ويتحول إلى حزب سياسي للحيلولة دون سيطرته على السلطة، أو تشكيل جيش مسلم مستقبلاً، فسعت لوقف آلة الحرب الصربية، ثم عملت بعد ذلك على طمس الهوية الإسلامية وإذابتها، وأنها في حال لو تُركت كوسوفا دون استقلال فسيكون هذا أحد العوامل التي ستُزكي مشاعر الانتماء إلى الهوية الإسلامية، والإحساس بالظلم والاضطهاد الدائم، سيكون هو الموقد الذي يؤجج الحماس للعودة للإسلام والتمسك به.

فكان التدخل العسكري، ثم الاعتراف الرسمي من قبل الغرب باستقلال كوسوفاº كحركة استباقية لمنع الشعب الألباني من الالتفات والعودة إلى هويته وجذوره الإسلامية.

2- كذلك حاولت أمريكا ومن ورائها الاتحاد الأوروبي تعظيم فكرة وجود "مسلمين معتدلين"، أو ثقافة إسلامية على الطريقة الأوروبية في منطقة البلقان، وهذا ما يفسر القيود الداخلية من قبل حكومة كوسوفا نفسها على التيارات الإسلامية بغية إزالة أي مخاوف غربية، وكذلك فرضت قيود أوروبية مماثلة عبر القوات الأوروبية على أي أنشطة لتيارات إسلامية، ووصم أي أنشطة تهدف للعودة للدين بأنها متشددة.

3- هيمنة أوروبا وبالتبعية أمريكا على الفناء الخلفي الروسي، واختراق متواصل للشرق الأوروبي لمحاصرة روسيا قبل أن تستعيد عافيتها، وتسعى للعودة للإرث الإمبراطوري السوفيتي القديم.

 

إضاءة على دعم روسيا للصرب:

تأتي الرابطة الدينية في مقدمة الروابط التي تربط روسيا بصربيا، فبعد انهيار المنظومة الشيوعية التي كانت لا تقيم وزناً لأي دينº بدأ الشعور الديني يتنامى، ومن هنا جاءت أهمية هذه الرابطة، فالروس كالصرب ينتمون إلى الطائفة "الأرثوذكسية" خلافاً لأغلبية دول أوروبا الغربية التي تنتمي إلى المذهب الكاثوليكي أو البروتستانتي.

أما الروابط القومية فتتمثل في كون الصرب والروس ينحدرون من قومية واحدة هي القومية "السلافية"، واللغة الروسية قريبة في مفرداتها من اللغة الصربية، في حين ينحدر مسلمو كوسوفا من القومية الألبانية.

وأخيراً تبرز أهمية المصالح الاقتصادية والسياسة في أن روسيا تريد الاحتفاظ بموطئ قدم لها في أوروبا الشرقية، تحاول من خلاله فك الحصار الذي يطوقها يوماً بعد يوم من خلال اتساع النفوذ الأمريكي في المنطقة، وانضمام أوروبا الشرقية إلى الناتو.

وبجانب ما سبق فإن هناك حقيقة أخرى تجعل كوسوفا مطمعاً للغرب، وتحد من محاولات إقامة دولة إسلاميةº ألا وهي الخيرات الكثيرة التي تنعم بها، ويتوقع أن تصب في صالح الاتحاد الأوروبي.

فكوسوفا رغم أن مساحتها لا تتعدى حوالي 11 ألف كم2 إلا أنها تعتبر من أخصب المناطق في البلقان، وأغناها بالثروة المعدنية، حيث إنه على مستوى الاتحاد اليوغسلافي السابق كان هذا الإقليم ينتج وحده ما نسبته 75% من الرصاص والزنك، و60% من الفضة، و50% من النيكل، و20% من الذهب.

كما تحتوي على 100% من احتياطي البسموس، و79% من احتياطي الفحم، و61% من احتياطي المغنيسيوم، وتوجد في كوسوفا أيضاً كميات كبيرة من البوكسيت الحديدي، والجاليوم والحديد، والنحاس والزئبق، وتزرع القمح والشعير، والشوفان وزهرة دوار الشمس، والبنجر، وبالنظر إلى تركز كل هذه الثروات الطبيعية فيهاº كانت دوماً هدفاً للطامعين على مر التاريخ، ويرجح أن يستمر هذا مستقبلاً.

وأمام ما سبق يتفق كثير من المراقبين أنه في ظل حاجة أوروبا وأمريكا لإخماد أي نزعة دينية عند الكوسوفيين، وطمس الهوية الإسلامية لذلك الشعب المسلمº كان يجب التدخل للسيطرة على ذلك الإقليم بالقوة "الناعمة"، والتي تأتي عبر التدخل بأساليب الغزو الفكري، والتلويح بجزرة الاستقلال أو عصا صربيا.

إن القضية الأهم التي أصبحت محل إجماع بين أوروبا والولايات المتحدة هي وجوب إعلان دولة مستقلة تسمى "كوسوفا"، لكن بدستور علماني، وهيمنة مسيحية.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply