لا يمكن أن يغفل المُتردد على الأكشاك السويسرية هذه الأيام الحضور القوي للإسلام على أغلفة أشهر المجلات الوطنية، وعلى الصفحات الأولى، وملفات مختلف الجرائد، سواء الرصينة منها أو صحف "التابلويد" الشعبية.
هنا صورة شابة مُحجبة على غلاف مجلة "فاكتس" التي تتساءل عن حدود التسامح بين الجالية المسلمة وأبناء الكنفدرالية.. وهناك صورة مسلمات محجبات وغير محجبات في صحيفة "لوتون" التي تتساءل عن مدى استيعاب وتفهّم السويسريين لتقاليد هذه الجالية.
ومن الصحف الصفراء من اختار مؤخراً عرض صورتين للمذيعة السعودية الشابة (قبل وبعد تلقيها للكمات الزوج الذي شوه ملامحها إلى أقصى درجة)، وكأن كل ما له علاقة بالإسلام من قريب أو بعيد - صائباً أم خاطئاً - أصبح مثيراً لاهتمام الرأي العام.
سيل المقالات المرتبطة بالإسلام والمسلمين ليس "موضة" بالضرورة، لكنه يندرج بلا شك كنتيجة للجدل الذي فجرته أحداث 11 سبتمبر حول الإسلام والمُسلمين، وما صاحبها من خوف وخلط بشأن هذه الديانة ومعتنقيها، وللارتفاع المُذهل لحجم الجالية المُسلمة خلال السنوات العشرين الماضية، وبحث سُبل اندماجها في المُجتمع السويسري، أضف إلى ذلك تعزيز السلطات الفدرالية لإجراءات مراقبة الأوساط الإسلامية في الكنفدرالية.
هذه الأحداث المتلاحقة مُضافاً إليها هذا الواقع الجديد في سويسرا جعل وسائل الإعلام تتهافت على المواضيع ذات الصلة بالإسلام والمسلمين في البلاد، وفي خضم هذه الاهتمامات أعادت صحيفة "لوتون" في عددها الصادر بتاريخ 3 و4 أبريل الجاري تسليط الضوء على فكرة إنشاء معهد لتكوين الأئمة في جنيف.
"من صُنع سويسرا":
الصحيفة التي تصدر بجنيف ربطت المشروع باستياء وانزعاج بعض مسلمي المدينة من خطب نعتتها بـ"المتطرفة" و"المتشددة" لبعض الأئمة الذين يستدعيهم مسجد المدينة من المملكة العربية السعودية أو دول إسلامية أخرى خلال المناسبات الدينية، وخاصة بمناسبة شهر رمضان.
ونقلت الصحيفة شهادات مُسلم - لم يفصح عن هويته - عبّر عن صدمته لمضمون خطبة إمام سعودي في اليوم الأخير من شهر رمضان الماضي في مسجد جنيف.. خطبةٌ جعلت هذا المُسلم ومصلين آخرين يشعرون بوجود هوة شاسعة بين "إسلامهم" والإسلام الذي يدعو إليه ذلك الإمام، وفي عنوانها الرئيسي على الصفحة الأولى أكدت "لوتون" أن مسلمين "رافضين للخطب المتطرفة يطالبون بأئمة من صنع سويسرا".
عبارة " أئمة من صنع سويسرا " قد توحي بـ"فبركة" أئمة على مقاس مُعين ربما يتناسب بشكل أفضل مع واقع وخصوصيات الجالية المُسلمة في الكنفدرالية ويتفهم احتياجاتها، لكن هل توحي العبارة أيضاً بالإستغناء التام عن خبرة الأئمة المشرقيين؟ "لا"، يُجيب السيد عبد الحفيظ الورديري المتحدث الرسمي باسم المؤسسة الثقافية الإسلامية في جنيف الذي قال: "إنشاؤنا للمعهد لا يمنع من قدوم أئمة من أي بلد لزيارتنا، وإفادتنا بعلمهم".
لكن قبل الخوض في أية تفاصيل حرص السيد الورديري على إزالة أي خلط أو سوء فهم بخصوص الأسباب الحقيقية الكامنة وراء إطلاق مشروع تكوين الأئمة في جنيف، حيث أوضح أن الفكرة لم تأت مُطلقاً كرد فعل على ما يوصف بـ"الخطب المُتشددة" لبعض الأئمة الوافدين أو على ما تتداوله الصحف، بل أكد أن الفكرة راودت الساهرين على المؤسسة الثقافية الإسلامية في جنيف منذ عام 2000، أي ما لا يقل عن أربع سنوات قبل انطلاق هذا الجدل في صفوف مسلمي الكنفدرالية ووسائل إعلامها.
ويقول السيد الورديري: "بناء على الخبرة التي اكتسبتها المؤسسة طيلة 25 سنة ارتأينا أنه لا بد من إنشاء معهد يُعلم أولاً الإسلام للمُسلمين الموجودين هنا، ثم يُكوِّن محاورين جيدين مع الجهات الرسمية".
الانفتاح يبدأ بفهم جيد للدين:
ويعتزم أصحاب المشروع - الذي مازال في خطواته الأولى - أن يوفر المعهد للطلبة الجامعيين من أبناء الجالية المولودين في سويسرا دروساً في القرآن والسنة وفقه الأقليات، وأيضاً في القانون السويسري، والقانون المقارن بالإضافة إلى الأدب والثقافتين السويسرية والأوروبية.
وينوه السيد الورديري إلى أن هذا التنوع يهدف بالدرجة الأولى إلى الانفتاح من خلال تمكين مسلمي سويسرا من ممارسة دينهم "بفهم وعمق، وبعلاقة اطمئنان مع الغير، وليس علاقة خوف وعنف"، وقد بدأت المؤسسة الثقافية الإسلامية في جنيف بالفعل بتنظيم حلقات دراسية أسبوعية يحضرها حالياً ما لا يقل عن 15 طالب.
وشدد المتحدث باسم المؤسسة على أن "الجالية الحالية تحتاج إلى أئمة يخاطبونها بالأسلوب الذي تفهمه، بأسلوب المجتمع الذي ترعرعت وتربت فيه"، لذلك يرى وجوب تعليم اللغة الإنجليزية والألمانية والفرنسية في المعهد حتى يتمكن الأئمة من التكلم عن الدين - سواء أمام الجالية، أو مع المُهتمين بالإسلام عموماً - بلغات شتى، وعلى مستوى رفيع يبتعد كل البعد عن "الترقيع" الذي مازال يُميز خطاب شريحة من المتحدثين باسم الإسلام سواء في سويسرا أو خارجها.
ويتفق مع هذا الرأي الإمام الألباني مصطفى ميميتي مدير المركز الإسلامي في برن حيث يقول: "إن أغلبية الأئمة يأتون من الخارج ولا يفهمون حتى لغة البلد، لا بد أن يكون الإنسان خبيراً بالجو الذي يعيش فيه".
في المقابل لا يعتقد الإمام ميميتي أن يضمن تكوين أئمة في سويسرا الابتعاد عن كل تطرف أو تشدد، بل يرى أن هذه الفكرة تتعارض مع الواقع والتاريخ اللذين أثبتا في حالات متعددة أن التشدد لا تحكمه الحدود الجغرافية، وأنه طالما تم تصنيف العلماء المسلمين أنفسهم إما في خانة التشدد أو خانة الاعتدال أو خانة التساهل.
قضية نسبية:
وفي نفس السياق وصف الشيخ يوسف إبرام إمام مسجد زيوريخ هذه القضية بالنسبية حيث تساءل: "هل المسلم المتخرج من هذه البلاد سيكون مرضياً عنه أكثر من غيره؟ هذه مسألة أشك فيها بدليل أن الأحداث الأخيرة التي وقعت في العالم الأوروبي كان بعض مرتكبيها من المسلمين الذي ولدوا في هذه البلاد".
وأوضح الشيخ إبرام أن فكرة تكوين الأئمة في سويسرا - التي لا يعارضها مبدئياً - "تُرضي من الناحية النظرية كافة الأطراف"، مُشدداً في المقابل على أن " أساس القضية يكمن في نظرة الغرب وأصحاب القرار فيه للمؤسسات الدينية والفعاليات الإسلامية".
وفي رده على ما ورد في صحيفة "لوتون" من شهادات بعض المسلمين قال الشيخ إبرام: "إن هذا الكلام فيه بلا شك بعض الصواب كما فيه بعض الخطأ "، مؤكداً أنه لا يمكن وصف كل الخطب التي يلقيها أئمة المشرق في سويسرا بالمتطرفة، ومُذكراً أن "هناك فصيلة من المسلمين تحب خطاب التساهل غير المُؤسس، والتسامح غير المسنود بالدليل".
الشيخ إبرام حرص أيضاً على التنويه بأن مؤسسة الجمعية الإسلامية في زيوريخ تطلب من الأئمة التي يزورونها من الخارج عدم التطرق إلى الفتوى لأن الإفتاء يحتاج إلى معرفة دقيقة جداً بالبيئة.
من ناحيته قال المتحدث باسم المؤسسة الثقافية الإسلامية في جنيف السيد عبد الحفيظ الورديري: "عندما نستدعي الأئمة لا يتكلمون على المنابر إلا بعد أن نعطيهم فكرة عامة عن الجالية واحتياجاتها، وعن المجتمع الذي نعيش فيه، فهؤلاء الأئمة لا يمكنهم الإفتاء في أمور الجالية هنا لأن الفتوى يجب أن تصدر من أناس يعيشون واقع المجتمع".
مشكلة تواصل:
ولتوضيح الصورة بشكل نهائي أكد السيد الورديري أن معهد التعريف بالإسلام وتكوين الأئمة في جنيف، والذي سيفتح أيضاً حلقاته الدراسية لغير المسلمين، سيعتمد أساساً على صفوة الأئمة المقيمين في سويسرا منذ مدة طويلة والمُتفهمين لواقع المجتمع بهدف "سد ثغرة" في عملية تواصل المسلمين بين بعضهم البعض أولاً، ثم في تواصلهم مع محيطهم.
ويرى السيد الورديري أن انغلاق المسلمين على أنفسهم هو أسوأ الحلول، وأن المشكل الذي تعاني منه الجالية بالدرجة الأولى هو مشكل "اتصال وجهل" قائلاً: "إذا أردنا التصدي لجهل الغير بنا يجب أن نعالج أولاً جهلنا بقيمنا مع ترك الباب مفتوحاً على الآخرين".
وحذر المتحدث باسم مسجد جنيف من أن " الإسلام صار هدفاً، ومن يريد التهجم على الإسلام يستخدم ضعف المسلمين"، لذلك فهو يرى أن تظافر جهود الجالية، وتعلم دينها في إطار محاور " الأولويات والأقلية والواقع"، وفي إطار الانفتاح، والتراضي مع سلطات وأبناء البلد المضيف قد يؤتي ثماراً طيبة لكن .. تدريجياً.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد