على دروب القدس، تناثرت القوافي...
على دروب الوجع، تصحو "القصيدة الرنتيسية" لتكتب أجمل الأشعار وبأغلى ما يكون الثمن.
اليوم، تعانق فلسطين شاعرها الشهيد الذي طالما غنى لحلمها، وتغنى بمجدها، والذي رسم على طريق الوطن زيتونه الأخضر، ورسم
فأحب، ليلحق بمن عشق من الأنبياء والشهداء...
كان يمكن أن يجعل من قلمه رصاصًا في صدور الأعداء،... غير أنه كان يريد أن يجاهد بلسانه وبقلمه وبسيفه في زمن تيبست فيه رصاصات الأشقاء وصارت أقلام الكثير منهم تهفو إلى " لغة التعايش لفضائه أروع الشموس قبل أن يخضب الأفق المقدسي بالشفق، ويعانق الأرض التي طالما " مع العدو الصهيوني.
كان يمكن أن يترك نفسه ليداوي الأطفال الذين تعلم العلم لعلاجهم، لكنه أراد لفلسطين أن تتعافى من علة الاحتلال لا العلل الصورية البسيطة. من هنا يطرق نداءه الشعري قلوبنا وهو ينادي في أبناء أمته ألا يخافوا الموت
وقفتنا مع الشاعر الشهيد وقفة فخر، وقراءة يحق للقصائد أن تفخر بصاحبها لأنها ستحلق من الآن فصاعدًا في فضاء الوطن، جاعلة من تحليقه في أفق المجد طريقًا لتحليقها في صدور المحبين وألسنة المجاهدين وديوان الإباء والصمود. وهنا، ونحن نبدأ لنرى في وصيته القديمة الجديدة نداءً كي يسارع أبناء الأمة في صنع الحياة.. الحياة الكريمة و العزيزة عبر الممات الكريم والعزيز لقائد هو "عبد العزيز"، لن أكتب أكثر فمطلع القصيدة خير من يقدم نفسه:
قم للوطن، وادفع دماكَ لهُ ثمن *** واطرح بعيداً كلَّ أسبابِ الوهن
فالموتُ أهونُ مِن غبارِ مذلَّةٍ, *** فلربَّ ذُلٍّ, دامَ ما بقيَ الزَّمن
أفمن يذوقُ الموتَ كأساً واحداً *** يجلو كما الترياقُ أوصاب البدن
أمَّن يعيشُ العمرَ ميتاً يشتهي *** .... طعمَ البلى فيرد كلاّ، لا، وَلَن
وهذا النداء، نجده أيضا في قصيدته الشهيرة "حديث النفس" التي انسابت على شفاهه في "مرج الزهور"، وهو يؤكد على الوصية ذاتها في الحرص على الممات بكرامة خير من حياة الذلة:
فالموتُ خيرٌ من حياةِ الخنَّــعِ *** ولذا فشــدِّي هَّمتي وتشجَّعـي
وهو هنا يُذكِّر بملحمة الصمود التي ارتسمت في مسيرة الشيخ الشهيد أحمد ياسين مرورًا بحكاية الثبات في مرج الزهور، وكيف تحولت خيمة اللاجئ إلى خيمة للإصرار ورفض التهجير والتمسك بالحلم والأمل في العودة إلى الوطن في قصيدة حمل عنوانها " التحدّي" في كلمة تختصر كثيرًا مما نريد أن نقول أو نُفصِّل:
عُودوا إلى المشلولِ ياسين العُــلا *** بحماسِهِ دارت على البغيِ الدَّوائـِـر
فَغداً تعودُ لنــا الدِّيــــــــــارُ تبثٌّنا *** أشـواقها، ونقــيلُ في ظـلِّ البيادر
لنكــــــحِّــلَ العينين مِـن أطيافِهــا *** ونردِّدَ التَّسبيــحَ مع رنّاتِ طائــر
عودوا إلى مرجِ الـزٌّهور لتعلموا *** أنَّ المبادئَ لا تـَذِلٌّ إلـى مُـكابـر
وهو في هذا المقام لا يعرف اليأس طريقًا إلى قلبه فكيف يصل إلى قلمه؟؟! فالظلام الذي يلقي بسواده على فلسطين وأشواقها، ويحاصر ظلم الاحتلال آمال النفوس، كل هذا لن يغير الحقيقة الجلية أو يزلزل الإيمان الراسخ في الصدور:
أنَّى التفتٌّ وجـدتُ أنَّ *** اللَّيـلَ آذن بـالرحيـل
فالكـلٌّ من حَولي يسـوقُ *** بشـائرَ المجدَ الأثيل
والبدرُ يحكي في العـلا *** شـمماً بطولاتِ الرَّعيل
ولعل " فلسفة الشهادة " المتعمقة في نفس شاعرنا الشهيد، ولذلك نرى أن ثقافة الاستشهاد تجعل من كل الذين صاروا في حواصل طيور خضر عند مليك مقتدر، وهذا ما نراه في قصيدة " الشاعر الشهيد " حين كتب رثاء في " المهندس يحيى عياش ":
عيّاشُ حيُّ لا تقل عيّاش ُ مات *** أو هل يجفٌّ النّيلُ أو نهرُ الفرات
عيّاشُ شمسٌ والشّموسُ قليلةٌ*** بشُروقها تُهدي الحياةَ إلى الحياة
والجميل والعجيب في نفس الوقت، ما نقرؤه في ختام هذه القصيدة حين يتلو النداء الشعري على قلوب محبي عياش فيقول:
أبشر فإنَّ جهادنا متواصلٌ *** إن غابَ مقدامٌ ستخلُفُهُ مئات
ربما يكون عشق التضحيات أصدق ما في هذه الأبيات وأكثر ما يُعبِّر عن الهوية الشعرية للشهيد الحبيب، ولذا فإنّ قصيدته " حديث النفس " وما بها من معان وصور وانسيابية شعرية ورقة في موسيقى قوافيها وتنوعها يجعل من هذه الأبيات شعارًا يرمز إلى هوية شاعرنا، ويلخص أمله في مسيرته التي اختلط فيها الوجع والألم بالحلم والأمل:
إنَّ الحياةَ وإن تطل يأتِ النَّعي *** فإلى الزَّوال مآلُها لا تطمعـي *** إلآّ بنيــلِ شهادةٍ, فتشفَّعــي
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد