بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده لا شريك له، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده، وبعد:
هذه صورة التقطها تصوري من مقروءاته ومسموعاته ومرئياته أعرضها للناظرين:
يراد للعولمة أن تكون ملّة عامة تجتمع عليها جميع شعوب الأرض، تعطيها ولاءها الملِّي العام، تجتمع عليه وتتعايش به.
وهذه مع كونها رغبة تبدو مغرقة في الخيال لاستحالة نزع ولاء مختلف الناس لمعتقداتهم، وجمعهم على ولاء لملّة واحدة، إذ قال خالقهم: "وَلَو شَاءَ رَبٌّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُختَلِفِينَ" [هود: 118]. إلا أن ذلك استُدرك بإظهار أخذ الملل المتباينة التي تعتنقها الشعوب بعين الاعتبار، ولكن مع إحالتها إلى ثقافات تظهر خصوصياتها من غير أن تمنع اندراجها في تعايش منضبط بضوابط العولمة، ويتأطر بأطرها ويستبقي الولاء العام لها.
واستُدرك أيضًا بحركة عملٍ, مغرقة في الجديّة والإتقان، تقوم على دراسات تفصيلية تجمع دقائق المعلومات وتستقرئ دلالالتها، وتستجلي أغوارها وتستظهر معالمها وتحلل أبعادها، وتؤلف بين متوافقها وتميز بين متباينها وتستنبط طرق التعامل معها وتستنبئ مختلف المتوقعات، ثم تضع الخطط المتعددة المناسبة لكل حالٍ, متوقعةٍ,، ثم تتتبع النتائج بدراسات تقريرية توضع عليها خطط عمل تتلافى الأخطاء، وتستدرك الإخفاقات وتستديم النجاحات.
وقد أنشئت لحركة العمل هذه مؤسسات، واستُغلت مؤسسات.
فمما أُنشئ: المؤسسات التبشيرية التي من أهم أعمالها المسح وجمع المعلومات وإعداد البيانات للعمل بعيد المدى، وإشاعة معتقدات التبشير للعمل قريب المدى.
والمؤسسات الإعلامية التي من أهم أعمالها تلقين المبادئ، وإشاعة الأفكار وتهيئة الساحة.
ومما استُغل: هيئة الأمم المتحدةº فاستخدمت مؤسساتها في عقد التعهدات والمواثيق وجمع التواقيع عليها ومتابعة الالتزام بها، وفي إقامة المؤتمرات للتمهيد لإقرار التحولات الثقافية والتشريعية.
والمراكز الاستخباراتيةº فاستخدمت في عمليات المسح، وجمع التقارير وإجراء الدراسات واقتراح الخطط.
وفي الطريق إلى العولمة اتخذت وسائل وركزت دعائم.
أما الوسائل: فاستهدفت أمرين:
الأول: إنشاء روح قبول العولمة والإقبال عليها، وذلك بإشاعة قدر من العلاقات العامة، يجمع مختلف أهل الملل على روح إخاء ومودة متحررة من ضوابط مللهم.
واتٌّخذت (الرياضة) وسيلة فاعلة لتحقيق هذا الهدف.
فالرياضة - بدوراتها المختلفة وأولمبياتها المتنقلة بين دول العالم، وما يرافقها من زخم إعلامي فاعل - أحدثت تعايشًا بين شعوب العالم متحررًا من التباين الملي والثقافي، بإشاعة الروح والأخلاق الرياضية التي تنتمي في ولائها لقوانين الفيفا تجتمع عليها وتصدر عنها.
فالمسلم والكافر المسيحي والكافر البوذي وغيرهم يجتمعون في حميمية رياضية، يتنافسون مجتهدين للوصول إلى الكؤوس وتحصيل الميداليات، لا تلحظ فرقًا يميِّز أحدهم عن الآخر أو خصوصية يبرزونها إلا ألوان الأعلام على أجسادهم، ولا شريعة يدينون لها إلا أحكام الفيفا.
وأحكام الفيفا هي الملة الرياضية التي تأخذ بتلابيب الحركة الرياضية في العالم، حتى إنه لا عبرة لأي حركة رياضية في أي مدينة في أي دولة من العالم ما لم تكن مسجلة في كشوفات الفيفا وتحمل تصريحها.
وفي الرياضة يتبلور نموذج حي للعولمة في هيئتها النهائية.
الثاني: نزع روح رفض العولمة والإعراض عنها، وذلك بالتركيز على الفرد، وربطه بشهواته، وتدريبه على التمرد على الروابط الثقافية التي ينتمي إليها وتربطه بأهل ملته خاصة، وإغرائه بروابط تدفعه إلى الانتماء إلى كل ما يشبع شهواته من أي ملَّة كان.
واتٌّخذت (الإباحية) وسيلةً فاعلة لتحقيق هذا الهدف.
فأغرق العالم بإعلام إباحي ينشر ثقافة الحرية العاطفية والجنسية المتحررة من قيود الدين والتقليد والعادة إلا قيدًا واحدًا هو قيد التراضي بين طرفي العملية العاطفية والجنسيةº فلا يُقبل التحرش والاغتصاب، وهو القيد الذي تحل طاقاته الإثارات الصارخة التي تجري مجرى الدم في الطرفين، التي يروجها الإعلام ويلقن الطرفين معها ثقافة الحرية الفردية في ملة العولمة، ويرفد ذلك توفير وسائل ممارسة تلك القاذورات:
- من وسائل اتصال عديدة كالمحادثات في الإنترنت.
- وأماكن ممارسة الرذائل، كالخمارات ودور الدعارة والملاهي الليلية.
- وسن القوانين التي تحتضن هذه الممارسات، وتحرسها بسلطة من سلطان العولمة، كقانون الإجهاض.
وأما الدعائم فاستهدفت أمورًا:
الأول: ربط العالم أجمع بمختلف ملله بمصالح مشتركة لا تقوم حياة الشعوب إلا بها، وتديرها جهة واحدة يبتدئ منها وينتهي إليها سائر شأن هذه المصالح.
واتٌّخذ (الاقتصاد) دعامةً ليس ثمة أثبت منها لتحقيق هذا الهدف، إذ هو عصب الحياة.
وهاهي دول العالم تلهث لهاثًا شاقًا للانضمام إلى (منظمة التجارة العالمية) التي تجمع أعضاءها على الولاء لملةٍ, اقتصادية عولمية تلغي كثيرًا من خصائص الملل التي ينتمون إليها، وتلحق ما تتبناه بهوية العولمة، فلا تبقى له خصوصية يتميز بها.
وإنما يدفع دول العالم إلى هذا اللهاث أن المنظمة العولمية هذه أمسكت بزمام الاقتصاد العالمي، حتى بدا أن مصالح الشعوب لا تتم إلا بالانضمام إليها، والولاء لملّتها، وإلا فليصارع الرافض الممتنع البقاء.
الثاني: نشر الحرية الفكرية والدينية في كل مجتمع، ومنع غلبة دين أو فكر في أي مجتمع، ورد الشرائع التي يجري عليها عمل كل مجتمع إلى مجموع ما فيه من ديانات وأفكار.
واتخذت (الديمقراطية) دعامة تُثبت هذا الهدف.
فالديمقراطية نظام ثقافي يقوم على تمكين كل أصحاب دين أو فكر من ممارسة شعائره ونشر تعاليمه والدعوة إلى مبادئه، وتكوين قاعدة شعبية له من أفراد المجتمع، وذلك في ظل حزب يشكله ويتخذ مقرًا له، وهيئة تتولى إدارته وتأسيس مطبوعات دورية ونشرات دعائية، والقيام بسائر النشاطات الثقافية التي يمارس من خلالها عرض ثقافته والدعوة إليها، وفي الديمقراطية مجلس تشريعي يسمى (البرلمان) إليه يرد سنٌّ القوانين وتشريع الأحكام التي تكون شريعة المجتمع، تفرض على أفراده يلتزمونها ويتحاكمون إليها. وهذا البرلمان يتكون من مقاعد يشغلها المنتخبون من مرشحي الأحزاب، تقسم بينهم بنسب تعادل النسب التي يشغلها كل حزب في المجتمع. يجتمع هؤلاء ويقترح من شاء ما شاء من قوانين للمجتمع، ويعرض اقتراحه بعد مداولات على التصويت، فإن فاز بأغلبية أصوات أعضاء البرلمان اعتمد قانونًا يخرج للمجتمع للعمل به والتحاكم إليه، يخرج تشريعًا يحمل هوية شعبية مشتركة، لا هوية أي دين أو فكر اقترحه أو أعطى صوتًا له.
وعليه فليس للمجتمع ملة إلا ملة العولمة في نظامها المسمى بالديمقراطية، وكل ملة تنتهي في هذا النظام عند اقتراح تشريعاتها في برلمانه، فإن فازت أو شيء منها بأغلبية الأصوات استحالت شريعة شعبية ديمقراطية.
وأي حزب أراد أن تغلب في المجتمع تشريعات ثقافته فعليه ممارسة أكبر جهد لتكوين أكبر قاعدة شعبية لـه، لعله يحظى بأكبر عدد من مقاعد البرلمان، فيستطيع تمرير مقترحاته بأغلبية الأصوات، ثم هي بعد هذا لن تنسب إليه ولن تحمل اسمه.
الثالث: تعميم نظام دولة في كل مجتمع يحكم شؤونها بتمكين ثقافة الديمقراطية وممارستها عمليًا ورعايتها وحراستها وحماية حماها، فلا تتمكن أي ملة أو فكر من الإفلات من سلطة هذا النظام وتولي زمام الأمور.
واتخذت (العلمانية) دعامة تثبت هذا الهدف.
والعلمانية هي السلطة التي أقصت سلطة الكنيسة في المجتمع الغربي، وعزلت الدين عن الدولة وقيدته بالفرد، جعلته حريته التي لا تتجاوزه إلى غيره، فهي في أصلها حركة تمرد على التدين بدينٍ,º إذ هي (اللادينية)، وما دام الأمر على هذا فليس خير منها للعولمة في سياسة المجتمعات، وقمع تسلط الديانات فيها، وهي السلطة التي تمنح التصريح لإنشاء الأحزاب أو تمنعه، وهي التي تراقب وتشرف على حركة الأحزاب وممارساتها، وتنظم انتخابات المجلس التشريعي، وتنفذ القوانين التي يصدرها.
الرابع: تمكين تمييع الأديان وإزالة خصوصياتها بضم شعائرها بعضها إلى بعض لتكوين شعائر موحدة للعالم، والتقريب بين شرائعها للخلوص إلى شريعة موحدة للعالم.
واتخذت (وحدة الأديان) دعامة تثبت هذا الهدف.
والدعوة إلى وحدة الأديان والتقريب بينها دعوة غير خافية ولا مجهولة، فهي قائمة على قدم وساق منذ زمن ليس بالقريب، ولا تسل عن كثرة المؤتمرات والندوات الدورية في الشرق والغرب تتوالى فيها الدراسات للتقريب بين المسيحية والإسلام.
وفي الفاتيكان مركز لأرشفة الدراسات في التقريب، وتسهيل الاطلاع عليها واستفادة الباحثين منها.
ولا تسل عن شعار (الإبراهيمية) الذي استحدثه دعاة الوحدة، والصلاة الإبراهيمية التي رعتها الأمم المتحدة، وهي خليط من صلاة المسلمين والنصارى اليهود، ولا عن الدعوة إلى طبع القرآن مع الكتاب المقدس في مطبوعة واحدة مجتمعة بين دفتين، ولا عن إنشاء المبنى الواحد المشتمل على المسجد والكنيسة ودار الأوبرا، وشعار "الإبراهيمية" ناشئ عن دعوى أن الأديان السماوية الثلاثة تجتمع في الانتساب إلى إبراهيم - عليه السلام - فلا وجه للتفريق بينها.
هذا، وتقف هذه الصورة للعولمة بوسائلها ودعائمها أمام خلفية تطل من ورائها على النحو التالي:
أصل فكر هذه الملة (العولمة)، ومنشأ منهجها وُلد من رحم معاناة النصارى من سلطان الكنيسة، ولم تكن صورتها في البدء إلا تنحية الدين عن القيادة في المجتمع الغربي في فكر سمي بالعلمانية، ثم أثمرت الدراسات الاستشراقية العمل على تعميم هذا الفكر والمنهج في العالم الإسلامي، وتمكين ذلك بخدمته بالوسائل والدعائم المذكورة، وبإدراج بقية العالم فيه ليخلص الكون لهذا المنهج فلا يند منه شيء عنه.
والدراسات الاستشراقية إنما أنشئت لتخدم أمرين: أحدهما: حاجة الغرب وضرورته لثروات الشرق الإسلامي، ونزعة الغرب بتاريخ قيصريته وغاراته الصليبية للحصول على تلك الثروات بيد عليا عزيزة لا سفلى ذليلة، ولا يكون ذلك إلا بسيادة على تلك الثروات لا تكون بالاحتلال العسكري المباشرº لأنه يثير التمرد ويؤدي إلى الصراع، فتتكدر السيادة أو تزال، ولكن بسيادة مستقرة دائمة آمنة، ولا سيادة تحقق ذلك كالسيادة الفكرية الروحية التي تضمن تبعية عقول أصحاب الثروات وسلوكهم للغرب، والسيادة الاقتصادية التي تضمن تعلق أسباب حياتهم بالولاء للسياسات الغربية.
والأمر الثاني في مقاصد الدراسات الاستشراقية هو التوصل إلى وسائل المواجهة الفعّالة لخطر الإسلام على الغرب الصليبي الخطر الذي لا يعوق طموح السيادة الصليبية فحسب، بل ويؤذن بإزالة ثقافتها ووجودها.
وقد سبق في تجارب صراع الصليبية مع عدوها هذا ما أظهر -بجلاء لا ريب معه ولا شك وراءه - أن الجند والسلاح والاحتلال، وإن أزالت في حينٍ, دولة الإسلام إلا أنها لم ولن تستأصل شأفته، فهو يبقى حيًا ظاهرًا يغالب ظروفه بقوةٍ, ذاتيةٍ, شامخةٍ, لا يضره من خذله.
وقد تيقنت تلك الدراسات أن خطر الإسلام يكمن في ذاته عقيدة ومنهجًا، فهو حيث كان سليمًا من القوادح كانت قوته واستشرت خطورته، فالحرب معه ذاته، وكلما أمكن تحريفه بالشبهات والصد عنه بالشهوات كلما أمكنت السلامة من خطره، ثم إن من أسرار قوته عالميته، فهو يخاطب كل فرد في كل عصر على كل شبر، ويجد خطابه القبول التام الواثق المتيقنº لأنه حاجة كل فرد ومنهج كل عصر وعمارة كل شبر، فكلما أمكن تحييده وتمييعه ومنع تميزه عن أي منهج يضاده، وجعله فردًا في مجموعة له ما لها وعليه ما عليها كلما أمكنت السلامة من خطره.
وأثمرت تلك الدراسات أن معالجة خطر الإسلام إنما تكون بما عولج به سلطان الكنيسة، بالعلمانية اللا دينية، ولما كان الإسلام عالمي المنهج والخطاب جابهوه بعالمية الإقصاء والاحتواء حتى لا تبقى له كوة يطل منها، ولكن من غير إثارة تلفت النظر، ولا صراعٍ, يذكي روح المقاومة والدفاع، بل بسحر بيان وكهانة شيطان، بمنهج يعد ويمنّي ويضل ويأتي من أمام ومن خلف وعن يمين وعن شمال حتى يغيّر أمر الله ويغوي عن طريقه المستقيم، فكانت (العولمة) بوسائلها ودعائمها ذلك السحر وتلك الكهانة.
وابحث عن الإسلام في ظل العولمة ستجده حرية فردية، فإن ترقّى فحزب في جملة أحزاب، فإن ترقّى فمقعد وصوت في برلمان، ثم ليس له وراء ذلك جنس وجود.
وإذا علمت أن الإسلام دين الله وقد تكفل بحفظه، فاعلم أن (العولمة) حرب مع الله.
وإذا كنت مؤمنًا، وتصوَّرت عاقبة تلك الحرب استبشرت ولا بد.
ولينظر العاقل إلى أي الحزبين يركن.
والحمد لله في الأولى والآخرة لا شريك له.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد