ما أشبه الليلة بالبارحة


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

هذا شطر بيت للشاعر الجاهلي طرفة بن العبد قاله في تشابه الأيام والحوادث. أردده كلما قرأت قصيدة الشاعر العباسي أبو المظفر محمد بن أحمد المعاوي العتبي الأموي الأبيوردي(1)، من ذرية عتبة بن أبي سفيان بن حرب بن أمية، أخو معاوية ابن أبي سفيان - رضي الله عنهما -.

عاين شاعرنا تهاوي بلاد الإسلام في أيدي أعدائها من الصليبيين الذين انساحوا في بلاد الشام بدءاً من عام 490هـ حتى استولوا على بيت المقدس في اليوم الثالث والعشرين من شعبان من عام 491هـ(2)، وهال شاعرنا المصاب الجلل فأطلق هذه القصيدة صرخة مدوية ولكن لا مجيب، لماذا؟

لقد وصل المسلمون إلى حالة من التشرذم والتقاتل على الدنيا تماثل حالنا المعاصرة إن لم تزد، ولننقل بعض النماذج مما سجله المؤرخون:

1- دعا صاحب مصر العبيدي الباطني الصليبيين إلى غزو بلاد الشام لما انتزعها السلاجقة منه، وحاصروا حاضرة ملكه القاهرةº بل تعاون معهم، وكان سابقاً يقاتل السلاجقة على تملك الشام، فلما قدم الصليبيون الشام واستولوا عليها لم يحرك ساكناً(3).

2- أنطاكية من أمنع بلاد المسلمين آنذاك، فلما اقترب الصليبيون منها أمر واليها بحفر خندق يحيط بسور المدينة، وجعل السكان قسمين: المسلمون يخرجون ليس معهم نصراني، والنصارى يخرجون ليس معهم مسلم، خرج المسلمون في اليوم الأول، فلما خرج النصارى في اليوم الثاني أغلق دونهم الأبوابº ليأمن غائلتهم وممالأتهم لبني دينهم(4) كان تصرف الوالي حكيماً، ولكن الخيانة والطمع جعلت البلدة تقع في أيدي الصليبيين بعد تسعة أشهر من الحصار.

3- كان سلطان السلاجقة أثناء ما كان الصليبييون يجوسون في بلاد الشام يخمد ثورة قامت عليه في خراسان قام بها أخوه، وكأن الأمر لا يعنيه، وقد تتابعت الكتب عليه لنجدة المسلمين يقول الذهبي(5): "وتتابعت كتب أتابك طغتيكين صاحب دمشق، وفخر الملك ابن عمار صاحب طرابلس، إلى السلطان محمد بن ملكشاه يستنجدون به ليدركهم...وكاتب صدقة ابن مزيد صاحب الموصل وغيرهما لينهضوا إلى حرب الكفار، فثقل ذلك على المكاتبين ونكلوا عن الجهاد، وأقبلوا على حظوظ الأنفس" أ.هـ.

أما الخليفة في بغداد فليس له من الأمر شيء، وأمره ونهيه لا يجاوز باب قصره، ويُسمع اسمه على المنابر ولا يُرى أثر له في ما يجري على المسلمين وبلادهم.

4- انتشر الباطنية في كثير من بلاد الإسلام، وهم بقية القرامطة(6)، فعاثوا في الأرض فساداً، واشغلوا المسلمين عن جلاد الأعداء والجهاد.

5- أقبل حكام المسلمين على التنازع على السلطة حتى استعانوا بالأعداء من الصليبيين والباطنيين القرامطة على بعضهم البعض، وعن ذلك يقول ابن الأثير: (7) "ولما استطال الفرنج بما ملكوه من بلاد الإسلام واتفق انشغال عساكر الإسلام وملوكه بقتال بعضهم بعضاً تفرقت حينئذ بالمسلمين الآراء، واختلفت الأهواء وتمزقت الأموال"أ. هـ.

ويقول كذلك: (8) "ولقد راسل أحد أمراء دمشق وهو بكتاش بن تتش بن ألب أرسلان (وجده صاحب المعركة الشهيرة ملاذكرد التي هزم فيها الصليبيين وأسر ملكهم) الصليبيين ليملك دمشق من ابن أخيه"أ. هـ.

هذا بخصوص أهل الأمر، أما الناس والعامة فحالهم مثل حال ولاة أمرهم.

يقول ابن الأثير(9) عن بعض الأعراب: "ولقد كانت فرقة من العرب البادية وهم بنو نمير مع الصليبيين على المسلمين طمعاً في الغنائم"أ. هـ.

ويقول كذلك(10): "وأخذ والي طرابلس أثناء حصار الفرنج لها مالاً لتاجرين فيها، فهربا إلى الفرنج ودلوهما على طريق الأقوات التي تصل إلى البلد"أ. هـ.

هذه النماذج مما ساقه المؤرخان ابن الأثير والذهبي تدل على أن الداء العضال هو: التفرق والتمزق مما مكن الصليبيين قديماً وحديثاً من التسلط على رقاب المسلمين، وأن يجوسوا خلال بلادهم، ويهلكوا الحرث والنسل.

عاين شاعرنا هذا الموقف المؤلم، ووقف عاجزاً عن عمل أي شيء فقال قصيدة دامية تحث الهمم التي كانت في ذلك الزمان رمماً، تحب الحياة، وتهاب الموتº لكثرة ذنوبها، وتخشى اللقاء جبناً وحباً للدنيا وكرهاً لجلاد الكفار. وقد لمس الشاعر في الناس ضعف الإيمان، فناشدهم بالنخوة والذود عن الحمى والمحارم، ولكن هيهات هيهات! فصرخته ذهبت مع الريح، يقول شاعرنا - رحمه الله تعالى -وغفر له(11):

مزجنا دماء بالدموع السواجم

فلم يبق فينا عرصة للمراحمِ

وشر سلاح المرء دمع يفيضه

إذا الحرب شبت نارها بالصوارم

فهيا بني الإسلام إن وراءكم

وقائع يلحقن الذرى بالمناسم

أتهويه في ظل أمن وغبطة

وعيش كنوار الخميلة ناعم

وكيف تنام العين ملء جوفنها

على هفوات أيقظت كل نائم

وإخوانكم بالشام يضحي مقيلهم

ظهور المذاكي أو بطون القشاعم

تسومهم الروم الهوان وأنتم

تجرون ذيل الخفض فعل المسالم

وكم من دماء قد أبيحت ومن دمى

تواري حياء حسنها بالمعاصم

بحيث السيوف البيض محمرة الظبا

ومر العوالي داميات اللهازم

وبين اختلاس الطعن والضرب وقفة

تظل لها الولدان شيب القوادم

وتلك حروب من يغب عن غمارها

ليسلم يقرع بعدها سن نادم

سللن بأيدي المشركين قواضبا

ستغمد منهم في الطلى والجماجم

يكاد لهن المستجن بطيبة

ينادي بأعلى الصوت يال هاشم

أرى أمتي لا يشرعون إلى العدا

رماحهم والدين واهي الدعائم

ويجتنبون النار خوفاً من الردى

ولا يحسبون العار ضربة لازم

أترضى صناديد الأعاريب بالأذى

ويغضي على ذل كماة الأعاجم

فليتهم إذا لم يذودوا حمية

عن الدين ضنوا غيرة بالمحارم

وإن زهدوا في الأجر إذ خمس الوغى

فهلا أتوه رغبة في الغنائم

لئن أذعنت تلك الخياشم للبرى

فلا عطسوا إلا بأجدع راغم

دعوناكم والحرب ترنو ملحة

إلينا بالحاظ النسور القشاعم

تراقب فينا غارة عربية

تطيل عليها الروم عض الأباهم

فإن أنتم لم تغضبوا بعد هذه

رمينا إلى أعدائنا بالجرائم

 

__________________

الهوامش:

1- ترجمته في إنباه الرواة ج (17) ص: (234) وبهامشه مراجع كثيرة لترجمته.

2- الكامل في التاريخ لابن الأثير أحداث 491ه.

3- تاريخ الإسلام للذهبي ص: (8).

4- الكامل في التاريخ ج(8) ص: (400).

5- تاريخ الإسلام (81/80).

6- الكامل في التاريخ أحداث 492ه.

7- السابق أحداث 497ه.

8- السابق أحداث 497ه.

9- السابق أحداث 499ه.

 

.

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply