بسم الله الرحمن الرحيم
يمضى عليهم الليل والنهار، لا يفرقون بينهما، والفضاء المترامي الأرجاء، قد ضاق عليهم فصار كسم الخياط، جاثمون على ركبهم في زنزانة سوداء الجدران ملؤها الكآبة، ليس فيها إلا مصباح ضئيل يجاهد لتمزيق الظلام فلا يفلح إلا قليلا، قد ذبلت أجسامهم، فصارت كأفراخ ضم الجوع والبؤس بين ضلوعها، فهي تعانق الحزن والأسى صباح مساء.
شاحبة وجوههم، شاخصة أبصارهم، مرتعشة أيديهم، محزونة قلوبهم على مصاب الإسلام في كل بقاع الأرض، يسمعون
هدير أمواج جزيرة (غوانتناموا)، وزمجرة رعودها، وزفيف رياحها، وقعقعة سلاسل الحديد بين أرجلهم وأيديهم، فيحسبون أنها نذر شؤم، تأتيهم من مستقبل مجهول، في عالم مجهول، أو أنها أجراس الموت تعج عجيجا، وتلج لجيجا، فتبعث في الكبد لهيجا.
يقاسون الآلام الشداد، قد غدت قلوبهم نهبا مقسما في يد الهموم والأفكار، بعضها مما يحاك بالعالم الإسلامي من المكر الكبار، و بعضها
مما هم فيه من البلاء، وبعضها من ذكرى الآباء والأمهات الذين يعالجون كل يوم أنين الوالهين، وينفثون زفرات المكروبين، والأولاد الصغار الذين خلفوهم،
فهم يلحفون في السؤال للام المفجوعة:
*** أين أبي يا أماه، ما فعل أبونا حتى
يذهبوا به، فيلقوه هناك، بعيدا عنا في تلك الجزيرة الموحشة، وحيدا طريدا، لماذا يلبسونه هذا اللباس، لماذا يكبلونه بهذا الحديد، ما ذنبه يا أماه، ولماذا لا يأخذون الذين يقتلون المسلمين في فلسطين؟ ويأخذون آباءنا بدلا منهم؟
فتفيض الدموع من مقلتيها، وتمسك بيد الصغير، وتجيب بصوت متقطع لا يكاد يبين: أي بني، ليس لأبيك ذنب، أبوك البطل، قد نذر نفسه لأمر عظيم جلل،
قد نذر نفسه لينصر الإسلام، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
*** وسيرجع إليك ليأخذ
بيدك الصغيرة هذه، ويذهب معك إلى حيث كنتما تذهبان وتلعبان، أو يختاره الله شهيدا، فتحيى بموته أمته من بعده، وحسبت الأم أن هذه الكلمات كبيرة على عقل
ولدها الصغير، ولكنها أرادت أن تبقى في ذهنه حتى إذا كبر استرجعها، فغدت له نبراسا يعلي همته، فيغدو بطلا مجاهدا كأبيه.
وبينما أولئك الليوث القابعة وراء تلك القضبان، على هذا الحال، وبين هذه الهموم، إذا جاءهم صدق يقينهم
بالله، فقذف في صدورهم الانشراح، وتنزلت عليهم قوة توكلهم على الله فأرسلت على قلوبهم أعطر الرياح، وتذكرت قلوبهم احتساب ثواب الآخرة فعادت إلى أرواحهم
الأفراح.
إن الأبطال الذين في غوانتناموا ـ مهما حاول الإعلام الغربي
زخرفـــة جريمة أسرهم ـ ليسوا سوى ضحية إرهاب القوى العظمى، التي في سبيل بلوغها أوج الاستكبار تعبث بكل الفضائل الإنسانية، وتعمى عن كل القيم البشرية،
وتستخف بكل حق، وتتلاعب بكل نظام، بروح طاغية في الاستبداد، وسادرة في العلو في الأرض والفساد.
وهاهم الأمريكيون الذين نصبوا تمثال الحرية على مدخل إمبراطوريتهم الصهيونية، ينتهكون كل حقوق الإنسان في حق هؤلاء الأسرى، لتسقط عنهم أقنعة الزيف التي طالما تبجحوا بها.
ولقد صدق الكاتب الساخر (برناندشو) إذ قال ذات مرة (يقولون إنني كاتب ساخر،ولكن لم تبلغ بي السخرية أن أذهب إلى أمريكا وأرى تمثال الحرية على مدخلها).
ويا أيها المتفاخرون بجبروتهم، القائلون: من أشد منا قوة، تربصوا، فستمضي عليكم سنة الله في المستكبرين (استكبارا في الأرض ومكر السيء، ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله، فهل ينظرون إلا سنة الأولين، فلن تجد لسنة الله تبديلا، ولن تجد لسنة الله تحويلا،
أولم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم وكانوا أشد منهم قوة، وما كان الله ليعجزه من شيء في السموات ولا في الأرض إنه كان عليما قديرا).
فيا رب لا تبعث إلي منيتي **** إلى أن أرى الوعد المؤمل والنصرا
في نهضة بكرية عمريـــة **** تعيــد إلينـــا مجدنــــــــا تارة أخرى
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد