علاقة النظام بالإسلاميين بين الثابث والمتحوّل


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

جاءت تفجيرات 16 أيار/مايو الماضي بالدار البيضاء، والتي أودت بالعشرات من القتلى والمصابين، لتعيد إبراز السؤال حول علاقة السلطة السياسية بالإسلاميين في المغرب.

ثم جاءت حملة الاعتقالات والمحاكمات في صفوف أبناء الحركة الإسلامية لتؤكّد أن الجواب على السؤال كان في الاتجاه السلبي، حيث شملت الاعتقالات، حسب تصريح رسمي لوزير العدل محمد بوزوبع 1042 شخصاً موزعين على مختلف التنظيمات الإسلامية بغض النظر عن اعتدالها أو تشدّدها، وقربها من العنف أو بعدها عنه خطاباً أو ممارسة.

 

الاتجاه السلفي: من الدعم إلى الزنزانة

كان لأحداث 16 أيار/مايو الدور الحاسم في قلب علاقة الدولة المغربية بالتيار السلفي رأساً على عقب، فقد شملت الاعتقالات، حسب وزير العدل 699 ممن ينتسبون لما سمي بتنظيم السلفية الجهادية أو الهجرة والتكفير، أو ممن يتجمعون حول خطيب بارز ذي خلفية وهابية.

وقد صدرت أحكام متشدّدة في حق عدد ممن أحيلوا على المحكمة حتى الآن فكانت كالتالي: 14 إعداماً، 39 مؤبداً، 16 حوكموا 30 سنة، 20 بـ20 سنة، 20 بـ10 سنوات، 25 بين سنة و9 سنوات.

وإذا علمنا أن من بين المحكوم عليهم رموزاً كانوا معروفين بدعمهم من طرف الدوائر الرسمية لمجابهة الجماعات الإسلامية الأخرى خاصة جماعة العدل والإحسان، وكان يسمح لهم بالتجمعات وبناء المقرات والخطابة داخل المساجد وإصدار الكتب والأشرطة، ندرك حجم الانقلاب في العلاقة، مما يترك الباب مشرعاً للعديد من الأسئلة: هل الأمر نابع من اقتناع السلطة بأن السلفية قلبت ظهر المجن لحظة الشعور بالاستقواء؟ أم أن ذلك من باب حسن حزم المرء سوء الظن والمؤاخذة بالشبهة وأن ليس في القنافذ أملس؟ أم أن اليد الأجنبية (أميركا أساساً) ضالعة في هذا الاختيار انطلاقاً من محاربتها لكل من يمتّ للوهابية بصلة؟ أم أنها بداية حرب شاملة على عموم الإسلاميين واقتضى الترتيب في القائمة أن يُبتدأ بالتيار السلفي لاعتبارين: جاهزية التهمة ومناسبة طلب رأسه عالمياً، ثم لضعفه التنظيمي والكمّي؟

والعديد من المراقبين يتجهون إلى أن المحاكمات الجارية والأحكام الصادرة ذات بعد سياسي أكثر منه قانوني، وإلا فإنه لم يكن بين يدي جهاز القضاء من القرائن المادية ما يبرر قساوة الأحكام في حق العديد من المعتقلين إلا ما كان من اعترافات متضمنة في محاضر الشرطة أكّد معظمهم أنها انتزعت منهم تحت التعذيب، في فترة الحراسة النظرية التي مدّدها قانون مكافحة الإرهاب الذي تمّت المصادقة عليه من طرف جميع الفرق النيابية في البرلمان مباشرة بعد حادث 16 أيار/مايو، بعدما سبق رفضه من طرف معظمها لما يتضمن من إجراءات تشرّع لأجهزة الأمن ما كان مرفوضاً حقوقياً في السابق.

 

جماعة العدل والإحسان: توتٌّر لم يقطع الحبل

استغلّ عدد ممن يُنعتون في المغرب بالاستئصاليين، وهم أشخاص أو رموز في جمعيات أو في أحزاب أو كتّاب في جرائد، الأحداث الجارية لشحن التوتر الحاصل منذ عقدين بين جماعة العدل والإحسانº كبرى التنظيمات الإسلامية بالمغرب، وبين النظام، وذلك بالتلويح بمسؤولية الجماعة المعنوية فيما حدث، لكن إطلاق سراح أزيد من 100 عضو من الجماعة اعتقلوا إثر الأحداث، أعطى انطباعاً أن الجماعة غير مستهدفة بشكل مباشر حالياً، وهذا ما أكده السيد فتح الله أرسلان، الناطق باسم الجماعة، بقوله "لحد الآن لا نلمس من خلال ما حدث وجود نيّة مبيّتة لمواجهة الجماعة واستئصالها، خصوصاً وأن الحالات التي وقعت تبين أننا لسنا مستهدفين مباشرين حتى إشعار آخر".

ويذهب المراقبون للشأن المغربي أن عدم الاستهداف المباشر للجماعة في هذه الظروف يُردّ إلى عاملين أساسيين: الأول أن تاريخ الجماعة وأدبياتها أثبتا أنها متشبثة بمبدأ نبذ العنف فكراً وممارسة، وأنها لم تنجرّ إلى ردود الأفعال العنيفة رغم ما طالها، منذ تأسيسها من اعتقالات وتضييقات، كان أعنفها تدخل قوات الأمن في الجامعة حيث سيطرة طلبة الجماعة على مؤسسات الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، وكذا خلال أحداث ما عُرف بحرب الشواطئ صيف 1999، لما تدخل الأمن بعنف لفض مخيمات الجماعة، وأيضا التدخل العنيف للشرطة لتفريق مظاهرات الجماعة بمناسبة اليوم العالمي لحقوق الإنسان يوم 10 كانون الثاني/ديسمبر 2000.

والعامل الثاني الممكن هو أن سياسة التضييق على الجماعة لم تأت بنتيجة لصالح السلطة إلى الآن، بل بالعكس من ذلك استقوت معها وازدادت تغلغلاً وتوسعاً وسط مختلف فئات المجتمع، وأن الجماعة تعايشت مع أجواء الحصار المضروب عليها سياسياً وإعلامياً وحتى جغرافياً بالنسبة للحركة ومرشدها الأستاذ عبد السلام ياسين، وكذا مجالات حركة الجماعة من جمعيات ونوادٍ,... مما يعطي الاستنتاج أن الوضع سيبقى على ما هو عليه: فالسلطة تشد طرف الحبل لكن في الحدود التي لا تجرّ إلى المواجهة الاستئصالية ولا تترك المجال رحباً لحركة الجماعة. والجماعة تشد الطرف الآخر لكن في الحدود التي لا تنزلق إلى العنف ولا ترتمي في ملعب النظام. وهذا ما يؤكده السيد فتح الله أرسلان في ردّه على سؤال حول استراتيجية الجماعة بعد أحداث 16 أيار/مايو فيقول "لا شيء تغير بخصوص توجهاتنا، فنحن لا نرى أي مبرر للتغيير من خططنا" وهو يشير هنا إلى الاستمرار في موقف الجماعة بعدم المشاركة في اللعبة السياسية بشروطها الحالية. وجماعة العدل والإحسان تفرّق بين المشاركة السياسية والمشاركة الانتخابية، وهي ترى أنها تشارك سياسياً انطلاقاً من تأثيرها في أهم قرارات الدولة واعتباراً من وزنها بين الفرقاء السياسيين، لكنها تقاطع الانتخابات البرلمانية والبلدية باعتبارها لم تتوفر فيها حتى الآن شروط الحرية الكافية والنزاهة المطلوبة لسلامة العملية الانتخابية، وقبل كل هذا غياب الإصلاح السياسي والإرادة السياسية المستعدين لقبول نتيجة الانتخابات كيفما كانت نتيجتها.

 

حركة التوحيد والإصلاح: الاندماج المنضبط

كان وقع تداعيات أحداث 16 أيار/مايو شديداً على حركة التوحيد والإصلاح وجناحها السياسي الممثل في حزب العدالة والتنمية. كما استغل المتضررون من المشاركة الانتخابية للحزب في الانتخابات التشريعية في 27 أيلول/سبتمبر 2002 الأحداث للدفع في اتجاه حلّ الحزب أو على الأقل إضعافه قبل الانتخابات البلدية التي ستجري في أيلول/سبتمبر المقبل، أو حمله على فك الارتباط بينه وبين مرجعيته الإسلامية.

كما كان لحدث استقالة الدكتور أحمد الريسوني من منصب رئاسة حركة التوحيد والإصلاح بسبب تصريح له حول وظيفة إمارة المؤمنين التي ينسبها الدستور المغربي للملك، كان لذلك الوقع المضاعف في الضغط على الحزب والحركة.

وقد كانت مظاهر الضغط واضحة في إقصاء الحزب من وسائل الإعلام الرسمية للتعبير عن إدانته للتفجيرات، وكذا منعه، إضافة إلى جماعة العدل والإحسان، من المشاركة في مسيرة بالدار البيضاء للتنديد بالعنف، وظهر الضغط أيضاً في عدم إحضار نواب الحزب في المناسبات الرسمية كما يقضي بذلك البرتوكول، إضافة إلى اضطرار الحزب للتصويت لصالح اعتماد قانون مكافحة الإرهاب وهو من كان يعارضه بشدة قبل 16 أيار/مايو.

وكان واضحاً أن الضغوط على الحركة والحزب لم تكن بدافع الشك في المسؤولية عن الأحداث، فالكل يعرف أن حركة التوحيد والإصلاح من أشد النابذين للعنف، لكن كان ذلك في اتجاه تعميق سياسة الاندماج المنضبط للحزب ضمن المشهد وفق الحجم الذي تريده السلطة، لا الذي يرغب فيه الحزب أو يناسب حجمه، وذلك تجنباً لأي تضخم غير محسوب أو لأية مفاجأة مثلما وقع في الانتخابات التشريعية الماضية، التي احتل فيها الحزب المرتبة الثالثة رغم عدم تغطيته لكل الدوائر. يقول السيد عبد الإله بنكيران القيادي في حزب العدالة والتنمية "إننا نحمد الله أن هؤلاء ليس بأيديهم استئصال الحركة الإسلامية، ولكنهم يسعون لدفع الدولة لتبنّي هذا النهج بهدف تصفية حسابات هزيمتهم في مواجهة حزب العدالة والتنمية في الانتخابات التشريعية الأخيرة".

وقد استوعب الحزب الرسالة فأتت تصريحات قياداته لتطمئن الجهات المعنية بكون المشاركة في الانتخابات البلدية ستكون رمزية ولن تشمل كل الدوائر واستبعاد نية الاكتساح.

يستنتج من هذا أن النظام من مصلحته أن يكون لإسلاميي العدالة والتنمية مكان في المشهد السياسي، لكن بالشكل الذي يؤثث المشهد حتى يحظى بصفة الديمقراطية لا بالحجم الذي يحدث تغييراً جذرياً في المشهد.

 

وعي المرحلة

وقد أظهرت الشهور الماضية حجم التحدي أمام الحركة الإسلامية المغربية في الوقوف المسؤول أمام سيل جارف من الاتهامات والعنف اللفظي، الذي وظفته كل مؤسسات الدولة ومسؤوليها في تصريحاتهم وبياناتهم وخطاباتهم وصلت ببعضهم حد المطالبة بالفصل الرسمي بين الدين والدولة و حذف المواد الإسلامية من البرامج التعليمية، وعدم استنكارهم للتجاوزات الحقوقية في حملة الاعتقالات والاختطافات. وتحولت المناسبة لدى البعض إلى تصفية الحسابات السياسية، ومنهم وزراء في الحكومة الحالية الذين كانت تصريحاتهم متشددة جداً في حق كل الإسلاميين من غير تمييز، خاصة وزراء الإعلام وإعداد التراب الوطني والعدل والشباب، وفي هذا الصدد يقول الأستاذ عبد الإله بنكيران "هناك تيار استئصالي له حضور قوي داخل الحكومة، وهو تيار ليس جديداً ويحمل توجهات معادية للحركة الإسلامية وضمنه عدد من الشيوعيين السابقين، وهم أعداء للحركة الإسلامية ويناصرون التطبيع مع إسرائيل".

لكن في المقابل نلمس نضجاً ومسؤولية سياسية لدى الإسلاميين في تفاعلهم مع حملة الاستهداف، حيث لم يضعوا مؤسسات الدولة ومسؤوليها في سلة واحدة، وإنما تناولوا كلاً من موقعه وتفهموا دوافعه واعتبروا الأمر سحابة حنق ودعاية انتخابية سابقة لأوانها وتركوا للزمن فعله في التهدئة، وانصرفوا إلى التنبيه من المشاكل الكبرى والحقيقية أمام المغرب وهي التنمية والشغل والتعليم والحرية، وأن المواجهة الحقيقية هي مع البطالة والأمية والاستبداد السياسي، وهذا ما يذهب إليه الأستاذ فتح الله أرسلان بقوله "يمكن أن نعتبر ما حدث جزءاً من الانفجار الاجتماعي، فالعمليات التي تمّت نفّذت من طرف فئة اجتماعية معروفة، ولحد الساعة جلّ المتابعين في الملف ينتمون إلى هذه الفئة. قد يؤطّرهم فكر معين يؤمن بالتطرف، وقد تؤطّرهم جهة خارجية، كل هذا محتمل، لكن يجب أن نعترف بأن هذا الفكر أو هذه الجهة وجدت تربة مهيأة لها القابلية للاستجابة لهذه الأفكار المتطرفة".

وهذا ما تنبهت له هيئات أخرى من المجتمع حيث وقّعت 40 هيئة سياسية ونقابية وحقوقية ونسائية وشبابية رسالة موجهة إلى الوزير الأول، يؤكدون فيها مسؤولية الدولة أيضاً فيما جرى، ومعلنين عن مطلب جامع "بكلمة واحدة إنها الديمقراطية ودونها الطوفان الذي لن يبقي ولن يذر".

 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply