بسم الله الرحمن الرحيم
حينما بدأ العدوان الغادر على البوسنة، وتدفَّقت الأسلحة الثقيلة والمساعداتº لتشد أزر المعتدين الصرب- من جانب روسيا واليونان وبلغاريا ورومانيا وبلجراد-، واقتحم الصربُ أرضَ البوسنة يهتكون الأعراض، ويغتصبون النساء، ويحرقون المساجد، ويمزقون المصاحف، ويذبحّون الأطفال أمام أمهاتهم في غزوة بربرية تشمئز منها النفوس، وكان الطرف المعتدَى عليه نساءً وشيوخًا وأطفالاً وشبابًا ورجالاً، لاسلاح في أيديهم سوى بنادق قديمة...، كان لابد لأطراف المؤامرة أن يخترعوا عذرًا لعدم التدخلº حتى لا يُفتضح تخاذلهم، ومكرهم أمام رأي عامٍ, غاضبٍ, ورافضٍ,.
سمعنا الرئيس "بوش الأب"- ساعتها- يقول بلهجة حاسمة: إن ما يجري في البوسنة هو حرب أهلية، وخلافات عرقية، وتصفية حسابات قديمة، وإن الحل الأمثل هو الحل الدبلوماسي. وفي الوقت نفسه حظَر السلاح على الأطراف المتحاربة، وهو حظر لم يطبَّق إلا على المسلمين، بينما ظلَّ السلاح الثقيل يتدفق على الصرب، والحجة التي ابتدعها في ذلك وصارت مثلاً هي "لا ننصح بإمداد المسلمين بالسلاحº حتى لا يطول أمد الحرب..، والأفضل هو التفاوض والحل الدبلوماسي .. لمنع إراقة الدماء.."!!! ويالها من حجة عجيبة أدَّت إلى عكس منطوقها، وإراقة الدماء أكثر وأكثر لمدة ثلاث سنوات.
وفوجئنا بـ"جون ميجور" يومها يقول نفس الكلمات.. و"ميتران" يردد نفس الكلمات.. والأمم المتحدة تقول نفس الكلمات.. و"بطرس غالي" يكرر نفس الكلمات في آلية وببغاوية عجيبة.. لا تُمدوا المسلمين بالسلاحº حتى لا تطول الحرب، ويزداد نزيف الدم.. والمقصود طبعًا هو توفير دم الصربº لأن دم المسلمين مباح.
وكان عذرًا أقبح من ذنب، وحجة متهافتة، ومنطقًا مقلوبًا لا يقبله عقل، وقلت في نفسي: تُرى ماذا كان يحدث لو أن أمريكا لجأت إلى نفس الحجة، حينما استنجدت بها بريطانيا وأوروبا في حربها مع "هتلر"؟! وقال "روزفلت وأيزنهاور"- ساعتها-: "لا ننصح بإرسال السلاحº حتى لا تطول المعركة، ويزداد عدد القتلى، وتراق الدماء أكثر وأكثر.
وقلت: لو فعلوها لما كان هناك الآن "جون ميجور"، ولا "ميتران"، ولا أي رئيس أوروبي، ولا أية دولة أوروبية.. ولما كان هناك سوى ألمانيا النازية.
والهدف الشرِّير والخفي من هذا المنطق المقلوب كان إبادة الطرف المسلم، ومسح البوسنة من الخريطة.
لقد ابتلعوا- كلٌّهم- أكبرَ حقٍّ, من حقوق الإنسان، وهو حقه في أن يدافع عن نفسه، وحرَموا القتيل من السلاح الذي يرد به غائلة الموت، ونطقوا إفكًا، وقالوا زورًا.
وطالت الحرب البوسنية رغم هذا لأكثر من ثلاث سنوات، والجنود المسلمون يجابهون الموت كل يوم بأسلحة خفيفة، وافتضح التخاذل والتآمر الغربي، وشَعُر البعض بالخجل، وبحثوا عن أسلوب أكثر ذكاءًº ليُغَطٌّوا به على تآمرهم.. ورأينا "كلينتون" يطالب برفع حظر السلاح عن المسلمين، ورأينا فريق الكونجرس يتكتل ضده ويرفض.
وفي جولة أخرى تقرر أغلبية الأصوات في الكونجرس رفع الحظر، فيرفض "كلينتون" توزيع أدوار هزلية وغبية، وحدث نفس الشيء في فرنسا وفي إنجلترا، أصوات تقول: نرفع الحظر وأصوات تقول: لا نرفع الحظر.. غطاءٌ كوميدى لجريمة تاريخية قذرة تورَّط فيها الكل.. ويستقيل وزراء من ألمانيا ومن فرنسا وقد شعروا بالمهانة. ولقد شعروا كلهم بالفعل أن حجتهم أصبحت (ماسخة)، وأصبحت لا تجوز على أحد، وأن التمثيلية التي حبكوها ساذجة، وبحثوا عن غطاء جديدº ليغطوا به وجوههم التي شاهت.
وتفتقت أذهانهم عن عبارة جديدة، سمعتها أول مرة من أمريكا، ثم من فرنسا، ثم من إنجلترا.. عبارة مختصرة جدًّا من كلمتين.. هي "فات الوقت"، فات الوقت على أية فرصة لإرسال سلاح، فالأسلحة الثقيلة سوف تحتاج لشهور أخرى لنقلها إلى ساحة المعركة، ثم شهور أخرى للتدريب عليها، وفي ذلك الوقت يكون الصِّرب قد أنهَوا الحرب، واحتلَُوا الأرض كلها، ولم يعد هناك مجالٌ لعمل شيء، وكذبوا مرة أخرى، بل هم الذين كذبّوا أنفسهم بأنفسهمº فقد بادرت ألمانيا بوساطة من "بابا الفاتيكان" بإمداد الجيش الكرواتي بأسلحة ثقيلة فورية، ودفع "الفاتيكان" الفاتورة، وقام الجيش الكرواتي بهجوم كاسح على الصرب المعتدين في "كرايينا"، وطردَهم منها في فلول وطوابير وأرتال من السيارات الهاربة، مائتا ألف صربي تحولوا إلى سِرب من اللاجئين في أربع وعشرين ساعة، وحدث هذا منذ شهور أمام أعين الكل على شاشات التليفزيون.
إذن.. فلم يفت الوقت يا سادة!!.
وأوروبا إذن كانت تستطيع أن تنجد وتسعف حينما تريد، وقد أرسلت نجداتها للإخوة الكروات الكاثوليك، ولكن الكاثوليك أمرُهم مختلف، فعندهم من ينجدهم، ومن يدفع لهم. أما المسلمون فـ"كلينتون" يقول لهم: فات الوقت، ويقولها "جون ميجور"، ويقولها "شيراك": فات الوقت.. للأسف الشديد فاتت الفرصة يا سادة!! ولكن الوقت لم يَفُت، وإذا كان الوقت يفوت فالكبار هم الذين "يفوِّتونه" بعدم الرغبة في عمل شيء.
وموقف الجماعة الأوروبية وموقف إنجلترا وموقف روسيا وموقف أمريكا موقف مهين.. وهو للأسف موقف من الإسلام والمسلمين بإطلاق.. وما يجري لمسلمي الشيشان وأذربيجان وكازاخستان وبورما وكشمير وألبانيا والفلبين وفلسطين وليبيريا.. هل سمعتم عما يجري في ليبيريا.. وما يفعله جيش "تشارلز تيلور" (وهم جنود من أصل أمريكي زنجي americo) liberiams) بدأوا غزوهم لدولة ليبيريا بالإطاحة برئيسها "صمويل دو"، ثم انطلقوا يبيدون الشعب الليبيري المسلم، وهو يمثل 35% من المواطنين، ويبلغ حوالي المليون. وقتلوا وشرَّدوا خمسين ألفًا، وأحرقوا الدعاة والأئمة بصبِّ البنزين عليهم، وإشعال النار فيهم، وفصلوا رءوس آخرين عن أجسامهم، وعلقوها على المنابر، وقطعوا ألسن المؤذنين وهم أحياء، وبقَروا بطون الحوامل، وأحرقوا المساجد، ونسفوا المدارس الإسلامية، ونهبوا المتاجر، واغتصبوا الفتيات أمام أعين أهليهن، وكان تعليق النائب الديمقراطي الأمريكي "إدوارد كيندي"- أمام الكونجرس أيامها-: إنها من أسوأ المآسي الإنسانية المهمَلة والمنسيَّة في عالمنا.
والسؤال الذي يقفز إلى الذهن.. من أين جاء "تشارلز تايلور" بالسلاح الثقيل والذخائر والتموين لجيشه؟ ومن أين جاء بالأموال؟ وكيف تناسى الإعلام الغربي ما يجري من مذابح في أرض الذهب والماس في أفريقيا التي تُنتهك وتُغتصب في غفلةٍ, من العيون؟.. لقد ذهب التليفزيون إلى رواندا ليصور مذابح الهوتو والتوتسي، وكلهم وثنيون، ولم يقترب من أرض ليبيرياº ليكشف ما يجري لمسلميها، وإنما كان عليها ستار مريب.
هناك حملة صليبية جديدة يا سادة تقودها القوى الصهيونية. بدأوا باتهام الإسلام بالإرهاب وتشويهه (وهم الذين صنعوا هذا الإرهاب وموَّلوه واحتضنوا أقطابه)º حتى يجدوا مبررًا لهجمتهم الشاملة على كل ديار الإسلام لكسر شوكة المسلمين، وإضعاف الدول الإسلامية وإرهابها، تمهيدًا للهيمنة الإسرائيلية القادمة.. إنها حرب عامة.. وتزامنها في أكثر من دولة وفي أكثر من قارة في وقت واحد ليس مصادفة، بل تم بتدبير وتوقيت وإعداد وتخطيط سابق.
وهذه الحرب على بابنا، ونحن هدفها، وما عملية السلام إلا عملية تخدير وإستراتيجية مرحلة، وهو سلام بالاسم فقط، ولكن القتال والنسف والتفجير والهجوم بالطائرات والصواريخ واغتصاب أراضي القدس، وطرد ساكنيها يجري كلَّ يوم، ويملأ أعمدة الأخبار، والقتلى يسقطون والدماء تراق، ونحن شهودُ عصرٍ, رهيب.
لقد أدخلونا نفقًا مظلمًا من التعتيم السياسي والتعتيم الإعلامي والكلمات المضللة، وهم يحلون مشاكلهم بالقتل والغزو، وعلينا نحن أن نحل مشاكلنا بالمفاوضات.
والأسلحة النووية محظورة علينا.. والأبحاث النووية محظورة.. والأسلحة الكيماوية محظورة.. والأسلحة الميكروبية محظورة.. والتوسع في الأسلحة التقليدية أيضًا محظور.. وقد أباحوا لأنفسهم كل تلك المحظورات، وأكثر منها مما لا نعلمه.
ولكننا شهود عصر ويجب أن نتكلم.. وهم بكل ذكاء يضعون في أفواهنا الكلمات والصيغ والمصطلحات التي ننطق بها.. فنقول كما يقولون "فات الوقت"، ولكن الكلمة أمانة، والكلمة مسئولية، والكلمة هي الشرف الذي تبقَّى لنا.
وهي أضعف الإيمان حينما نبلغ نهاية الممكن، ولا نملك أية وسيلة للفعل والتغيير.
ويقول ربنا سبحانه وتعالى: ?يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَولاً سَدِيدًا يُصلِح لَكُم أَعمَالَكُم وَيَغفِر لَكُم ذُنُوبَكُم وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَد فَازَ فَوزًا عَظِيمًا? (70- 71 الأحزاب).. "كمبيالة" ربانية بالفوز العظيم، رهنها الله بصدق الكلمة.
وفي الآية التي تليها مباشرة: ?إِنَّا عَرَضنَا الأمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرضِ وَالجِبَالِ فَأَبَينَ أَن يَحمِلنَهَا وَأَشفَقنَ مِنهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً? (72- الأحزاب).
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد