بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
يُعد الوسواس القهري واحدًا من أكثر الاضطرابات النفسية شيوعًا وتعقيدًا، حيث يُعاني المصابون به من أفكار ومخاوف غير منطقية تؤدي إلى تصرفات قهرية. يُعتبر فهم هذا الاضطراب وعلاجه أمرًا بالغ الأهمية، خاصة من منظور إسلامي يعتمد على القرآن الكريم والسنة النبوية.
ما هو الوسواس القهري؟
الوسواس القهري، وفقًا للإدارة العامة للتثقيف الإكلينيكي بالمملكة العربية السعودية، هو نوع من الاضطرابات النفسية المرتبطة بالقلق، يتميز بأفكار ومخاوف غير منطقية تؤدي إلى تكرار بعض التصرفات إجباريًا، مما يعوق الحياة اليومية. باختصار: *هو مرض يُصيب الفكرة والسلوك معًا ويظهر في صورة أفكار مُلحة وسلوك متكرر*.
الوسواس القهري كمرض نفسي:
هو مرض نفسي ويختلف عن وسواس الشيطان. ففي فهم الأطباء النفسيين هو مجموعة من الخواطر المتكررة أو الأفعال المتكررة أو الألفاظ المتكررة أو ربما أشياء تسيطر على الفكر. هذا المرض يتميز بالتكرار، وهو يكون بغيضًا إلى ذات الإنسان، مما يجعله يقاومها، ولكنها في أغلب الأحيان تغلب عليه.
على سبيل المثال، قد يشعر الشخص بأنه صدم أحدهم بسيارته ويظل يعود إلى مكان الحادث مرارًا وتكرارًا للتأكد. أو قد تخاف المرأة من دخول المطبخ لأنها تخشى أن تأخذ سكينًا وتؤذي أحد أفراد عائلتها. كما قد يتجنب الإنسان السكن في الأدوار العليا خوفًا من أن يلقي نفسه من النافذة.
أو الشخص الذي يصاب بوسواس في الوضوء، فتأتيه فكرة أنه لم يتوضأ جيدًا، أو أن وضوءه غير صحيح، أو أنه قد أحدث. وهذه الفكرة تظل تُطارده وتُزعجه، وتُسبب له توتر شديد وقلق إلى أن يُعيد الوضوء مرة ثانية. مثال آخر: شخص يصاب بوسواس أنه لم يُغسل يده جيدًا بعد الخروج من الحمام، وتظل الفكرة تطارده وتُزعجه إلى أن يُعيد غسل يده مرة أخرى.
درجات الوسواس القهري:
تكون أعراض المرض في بعض الأحيان طفيفة، بحيث يستطيع الإنسان تجاهلها والتغلب عليها، أو قد تكون شديدة مؤلمة تؤثر على حياة الإنسان اليومية وقد تمنعه من ممارسة الحياة الطبيعية. وهذا يعني أن مرض الوسواس القهري له درجات، فبعض الناس تكون لديهم أفكار مُلحة تُسبب لهم إزعاجًا، لكن يستطيعون التغلب عليها والتعايش معها. بينما في حالات أخرى، تزداد الأعراض حتى تصل إلى مرحلة صعبة جدًا تمنعهم من ممارسة حياتهم بشكل طبيعي.
قال ابن تيمية رحمه الله: *لا تشددوا على أنفسكم فيشدد الله عليكم، فإن قومًا شددوا على أنفسهم فشدد الله عليهم*.
أمثلة على الوسواس القهري:
- الوسواس في الطلاق: بعض الأشخاص يعتقدون أنهم طلقوا زوجاتهم بمجرد ذكر حرف معين، وهذا يدفعهم للتنقل من مفتٍ إلى آخر. وقد ذكر أحد العلماء أن الموسوس بالطلاق لا يقع طلاقه لفظًا، بل كتابة، لأن علة مرضه في لسانه.
- الوسواس في الوضوء: الكثير من الناس يعيدون الوضوء مرارًا وتكرارًا بسبب الوسواس، وكذلك الحال في الاستحمام أو التطهر.
نظرة دينية للوسواس القهري:
يختلف الوسواس القهري المرضي عن وسواس الشيطان الذي يمكن معالجته من خلال الاستعاذة بالله وذكره. وفي الحديث الشريف: "الحمد لله الذي رد كيده إلى الوسوسة". كما يجب على العلماء والدعاة تقديم الدعم النفسي والديني لمن يعانون من الوسواس القهري دون إصدار فتاوى تؤدي إلى زيادة معاناتهم.
علاج الوسواس القهري من منظور إسلامي:
- عدم الاستجابة للوساوس: يجب على المريض تجاهل الوساوس وعدم الالتفات إليها، وذلك باتباع قول النبي صلى الله عليه وسلم: "إذا وجد أحدكم في نفسه شيئًا فليستعذ بالله ولينتهِ".
قال النووي: *أَمَّا قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "فَلْيَسْتَعِذْ بِاَللَّهِ وَلْيَنْتَهِ" فَمَعْنَاهُ: إِذَا عَرَضَ لَهُ هَذَا الْوَسْوَاس فَلْيَلْجَأْ إلى اللَّه تعالى فِي دَفْع شَرّه عَنْهُ، وَلْيُعْرِضْ عَنْ الْفِكْر فِي ذَلِكَ، وَلْيَعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْخَاطِر مِنْ وَسْوَسَة الشَّيْطَان، وَهُوَ إِنَّمَا يَسْعَى بِالْفَسَادِ وَالْإِغْوَاء فَلْيُعْرِضْ عَنْ الْإِصْغَاء إلى وَسْوَسَته، وَلْيُبَادِرْ إلى قَطْعهَا بِالِاشْتِغَالِ بِغَيْرِهَا. وَاَللَّه أَعْلَم* انتهى.
وقال الخطابي رحمه الله: وَجْه هَذَا الْحَدِيث: أَنَّ الشَّيْطَان إِذَا وَسْوَسَ بِذَلِكَ، فَاسْتَعَاذَ الشَّخْص بِاللَّهِ مِنْهُ، وَكَفّ عَنْ مُطَاوَلَته فِي ذَلِكَ: اِنْدَفَعَ، قَالَ: وَهَذَا بِخِلَافِ مَا لَوْ تَعَرَّضَ أَحَد مِنْ الْبَشَر بِذَلِكَ، فَإِنَّهُ يُمْكِن قَطْعه بِالْحُجَّةِ وَالْبُرْهَان، قَالَ: وَالْفَرْق بَيْنهمَا أَنَّ الْآدَمِيّ يَقَع مِنْهُ الْكَلَام بِالسُّؤَالِ وَالْجَوَاب، وَالْحَال مَعَهُ مَحْصُور، فَإِذَا رَاعَى الطَّرِيقَة، وَأَصَابَ الْحُجَّة: اِنْقَطَعَ.
-الثقة بالله: على المريض أن يثق بأن الله رحيم وأنه لا يعذب عباده بهذه الوساوس، لقوله تعالى: {وما جعل عليكم في الدين من حرج}.
قال تعالى : }وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ){المؤمنون/97-98( .
-الاستعاذة بالله: ذكر الله والاستعاذة به من الشيطان الرجيم كما قال تعالى: {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم}.
-الانخراط في الأعمال النافعة: يجب على المريض أن يشغل وقته بالأعمال المفيدة والمثمرة التي تعود بالنفع عليه.
وقال ابن حجر الفقيه الشافعي في علاج الوسوسة، في كتابه *الفتاوى الفقهية الكبرى* 1/149، وقد سئل: عن داء الوسوسة هل له دواء؟
فأجاب: له دواء نافع، وهو الإعراض عنها جملة كافية، وإن كان في النفس من التردد ما كان؛ فإنه متى لم يلتفت لذلك: لم يثبت؛ بل يذهب بعد زمن قليل، كما جرب ذلك الموفقون.
قصص واقعية وتجارب علاجية:
اتصلت امرأة بأحد العلماء تشكو من الوسواس الذي دفعها إلى الطلاق بسبب شكها الدائم في الوضوء والصلاة. وقد نصحها العالم بأن تتجاهل هذه الوساوس وأن تعيش حياتها بشكل طبيعي دون الالتفات إلى الشكوك.
قصة الرجل والوسواس في الطلاق: اتصل رجل بأحد العلماء في منتصف الليل ليؤكد ما إذا كان قد طلق زوجته أم لا بسبب وساوسه. نصحه الشيخ ببساطة بالاشتغال بذكر الله وتجاهل الوساوس، ومع الوقت تعافى الرجل واستقامت حياته.
قال أبو حامد الغزالي: *وتجد النفوس عند رؤية السماء في سعتها نعيمًا وراحة لا سيما إذا انفطرت نجومها وظهر نور قمرها*. وقد قالت الحكماء: يحذوك من الراحة والنعيم في دارك بمقدار ما عندك فيها من السماء. وفي النظر إلى السماء عشر فوائد: تنقص الهم، وتقلل الوسواس، وتزيل وهم الخوف، وتذكر بالله، وتنشر في القلب التعظيم للّه، وتزيل الأفكار الرديئة، وتنفع لمرض السوداء، وتسلي المشتاق وتؤنس المحبين، وهي قبلة دعاء الداعين.
بالنهاية، فإن مرض الوسواس القهري هو مرض خطير يُعاني منه الكثير من الناس، وله تأثير كبير على حياة المريض. لكن بالعلاج المناسب والدعم النفسي، يمكن للمريض أن يتغلب على الأعراض ويُمارس حياته بشكل طبيعي. من خلال الاستعانة بالله، والتجاهل، والانخراط في الأعمال النافعة، والثقة برحمة الله.
ننصح كل من يشعر بأي بوادر لهذا المرض أن يذهب فورًا إلى الطبيب المختص، ولا ينتظر حتى تتطور الحالة وتزداد سوءًا. وأسأل الله تعالى أن يشفي جميع مرضى المسلمين.
الأسئلة الشائعة حول الوسوسة والوساوس:
-ما هو الوسواس القهري؟
الوسواس القهري هو اضطراب نفسي يتميز بأفكار ومخاوف غير منطقية تؤدي إلى تصرفات قهرية متكررة.
-كيف يمكن علاج الوسواس القهري دينيًا؟
يمكن علاج الوسواس القهري من خلال الاستعاذة بالله، ذكر الله، وتجاهل الوساوس.
-هل الوسواس القهري مرض نفسي أم ديني؟
الوسواس القهري هو مرض نفسي، ولكنه قد يتداخل مع جوانب دينية تتطلب فهمًا خاصًا وعلاجًا مناسبًا.
-ما هي أهم النصائح للتغلب على الوسواس القهري؟
أهم النصائح تشمل عدم الاستجابة للوساوس، الثقة برحمة الله، والانخراط في الأعمال النافعة.
-هل يمكن أن يؤثر الوسواس القهري على الحياة اليومية؟
نعم، الوسواس القهري يمكن أن يعوق الحياة اليومية إذا لم يتم التعامل معه بشكل صحيح.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد