مقدمة معالم التفسير عند السعدي (1)


  بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي (علّم القرآن خلق الإنسان علّمه البيان)، والصلاة والسلام على محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، إنّ أصدق الحديث كلام الله، وخير الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة.

 

وبعد، فإنّ تفسير الشيخ عبد الرحمن بن ناصر السعدي - رحمه الله -الموسوم بـ(تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنّان) مدعاةٌ للفخر، ورائعةٌ من روائع هذا العصرº وذلك مما يزيد من ثقة هذه الأمّة بعلمائها، ويقينها بأنّ الخير فيها دائمٌ إلى يوم القيامة.

 

ولا ريب أنّ القارئ المتأمّل لهذا التفسير يجد فيه من الفائدة والانتفاع ما لم يكن يخطر له على بالº مما نبيِّن بعض معالمه فيما يلي:

 

الأول: أنّ هذا التفسير قد جاء موافقاً لروح العصر: في صِغَر حجمه، وخفّة حمله، وقلّة صفحاتهº بحيث لم تبلغ ألفاً.

 

الثاني: أنّ (التيسير) قد أبدى من روعة التفسير والبيان ما أوحى بهذا العنوان: (روائحُ الوردِ المنبعثةُ من روائعِ السَّعدي).

 

الثالث: أنّ هذا التفسير قد رُزِق حظّاً من اسمهº فكان ميسَّراً في عبارته سهلاً في معانيه. وقد شهد بذلك تلميذه العلامة العثيمين - رحمه الله - تعالى -[1].

 

الرابع: أنّ الشيخ عبد الرحمن السعدي قد اعتنى في كتابه بقضايا العقيدة الإسلامية على منهج السلف الصالحº فاهتم بإثبات الصفات[ص 49، 64، 94، 109، 132]، والأسماء الحسنى [ص 110]، وقضايا الإيمان مثل: دخول العمل في مسمى الإيمان [ص 71]، وعدم تخليد الموحّدين في النار [ص 46، 117]، وأنّ العبد قد يكون فيه خصلةُ كفرٍ, وخصلةُ إيمان [ص 156]، وأدلّة التوحيد النقلية والعقلية [ص 125]، وخلق الجنة والنار [ص 46]، والرد على القدرية [ص 44]، وذكر صفات الأنبياء [ص 109، 110، 112]، والأدلّة على صحة النبوّات [ص 138].

 

الخامس: أنّ هذا التفسير قد عمل على ترسيخ الإيمان بالقدر، وبيان ثمراته كالتوكٌّل على الله، والتسليم بحكمة الله - تعالى - في ذلك:

ـ فمن ذلك قوله في تفسير: (إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكّل المؤمنون) [آل عمران: 160]:\"أي إن يُمددكم الله بنصره ومعونتهº (فلا غالب لكم)º فلو اجتمع عليكم مَن في أقطارها، وما عندهم من العَدَد والعُدَدº لأنّ الله لا مُغالبَ له، وقد قهر العبادَ وأخذ بنواصيهمº فلا تتحرّك دابّةٌ إلا بإذنه، ولا تسكن إلا بإذنه (وإن يخذلكم) ويَكِلكم إلى أنفسكم (فمن ذا الذي ينصركم من بعده)º فلا بُدّ أن تنخذلوا ولو أعانكم جميعُ الخلقº وفي ضمن ذلك الأمرُ بالاستنصار بالله، والاعتمادِ عليه، والبراءةِ من الحول والقوةº ولهذا قال: (وعلى الله فليتوكّل المؤمنون)...ففي هذه الآية الأمرُ بالتوكّل على الله وحده، وأنه بِحَسَب إيمانِ العبد يكون توكّلُه\"[ص 154-155].

 

ـ وكذلك قوله في تفسير: (أَوَ لما أصابتكم مصيبةٌ قد أصبتم مثليها قلتم أنَّى هذا قل هو من عند أنفسكم إنّ الله على كل شيء قدير) [آل عمران: 165]:\"هذا تسليةٌ من الله - تعالى - لعباده المؤمنين، حين أصابهم ما أصابهم يوم أُحُد، وقُتِل منهم نحو سبعين...(قلتم أنَّى هذا) أي من أين أصابنا ما أصابنا وهُزِمنا؟ (قل هو من عند أنفسكم) حين تنازعتم وعصيتم من بعد ما أراكم ما تُحِبّونº فعودوا على أنفسكم باللّوم، واحذروا من الأسباب المُردية (إنّ الله على كل شيء قدير)º فإيّاكم وسوءَ الظنّ باللهº فإنّه قادرٌ على نصركم، ولكن له أتمّ الحكمة في ابتلائكم ومصيبتكمº (ذلك ولو يشاء الله لانتصر منكم ولكن ليبلو بعضكم بعض)\"[ص 156].

 

السادس: أنّ الشيخ قد وُفِّق في إحكام التعريفات والتقاسيمº مما يؤكّد مَلَكَته المنطقية، ومعرفته التربوية:

 

ـ فقد عرّف (الحكمة) بأنها:\"وضع الشيء في موضعه اللائق به\"[ص 49]، و\"هي العلم النافع والعمل الصالح ومعرفة أسرار الشرائع...فكمال العبد متوقِّفٌ على الحكمةº إذ كماله بتكميل قوّتيه العِلميّة والعَمَليّة...وبذلك يتمكن من الإصابة بالقول والعمل وتنزيل الأمور منازلها في نفسه وفي غيرهº وبدون ذلك لا يُمكنه ذلك\"[ص 115].

 

ـ وأما التقسيم المنطقي الذي يستفيد منه طالب العلم في الحفظ والفهم فحَدِّث ولا حرجº فقد ذكر (التربية العامة والخاصة) [ص 39]، و(هداية البيان والتوفيق) [ص 40]، و(مرض الشهوات والشبهات) [ص 42], وبيّن أنّ (الفسق نوعان) [ص 47]، و(توبة الله على العبد نوعان) [ص 50]، و(إذن الله نوعان: قدريّ وشرعيّ) [ص 61]، و(الإحسان نوعان) [ص 148-149]، و(له ضدّان) [ص 57-178]، و(القنوت نوعان) [ص 64]، و(الحفظ نوعان) [ص 71]، و(المعيّة عامةٌ وخاصّةٌ)، و(الناس عند المصائب قسمان) [ص 76]، و(البدعة نوعان) [ص 77-88]، و(الدعاء نوعان والقرب نوعان) [ص 87]، و(الرزق دنيويُّ وأُخرويُّ) [ص 95]، و(الظلم ثلاثة أقسام) [ص 102]، و(معاملة الناس فيما بينهم على درجتين) [ص 105]، و(النفقة يعرض لها آفتان) [ص 114]، و(الخسران منه ما هو كفرٌ ومنه ما هو دون ذلك) [ص 48].

 

السابع: أنّ الشيخ قد اهتمّ بتربية النفوس وتزكية الأرواحº لعلمه بأنّ وظيفة الدعاة هداية الناس إلى الخير، وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر. وقد سجّل الشيخ - رحمه الله -مواعظَ بليغةً توجل منها قلوب الصالحين، وتذرف منها العيونº مما يدلّ على صلاحه، ورسوخ علمه:

 

ـ كما في قوله في تفسير (كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكّيكم) [البقرة: 151]:\"أي: يطهّر أخلاقكم ونفوسكم, بتربيتها على الأخلاق الجميلة, وتنزيهها عن الأخلاق الرذيلة, وذلك كتزكيتهم من الشرك إلى التوحيد, ومن الرياء إلى الإخلاص, ومن الكذب إلى الصدق, ومن الخيانة إلى الأمانة, ومن الكِبر إلى التواضع, ومن سوء الخلق إلى حسن الخلق, ومن التباغض والتهاجر والتقاطع إلى التحابّ والتواصل والتوادد, وغير ذلك من أنواع التزكية\"[ص 74].

 

ـ وكما في قوله في تفسير (يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة) [البقرة: 153]:\"فالصبرُ هو: حبسُ النفسِ وكفٌّها على ما تكره، فهو ثلاثة أقسام: صبرُها على طاعةِ الله حتى تؤدِّيَها، وعن معصيةِ الله حتى تتركَها، وعلى أقدارِ الله المؤلمة فلا تتسخّطها\"[ص 75].

 

ـ ومثل قوله في تفسير (ولا يكلّمهم الله يوم القيامة) [البقرة 174]:\"بل قد سخط عليهم، وأعرض عنهمº فهذا أعظم عليهم من عذاب النار!\"[ص 82].

 

ـ وكذلك تعبيره عند قول الله - تعالى -: (ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتاً من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابلٌ فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابلٌ فطل) [البقرة: 265] بقوله:\"فيالله لو قُدِّر وجودُ بستانٍ, في هذه الدار بهذه الصفةº لأسرعت إليه الهِمَم، وتزاحم عليه كلّ أحدٍ,، ولحصل الاقتتال عنده، مع انقضاء هذه الدار وفنائها، وكثرة آفاتها وشدّة نَصَبها وعنائهاº وهذا الثواب الذي ذكره الله كأنّ المؤمن ينظر إليه بعين بصيرة الإيمان، دائمٌ مستمرُّ فيه أنواع المسرّات والفرحاتº ومع ذلك تجد النفوسَ عنه راقدة، والعزائم عن طلبه خامدة! أتُرى ذلك زهداً في الآخرة ونعيمها؟ أم ضعف إيمان بوعد الله ورجاء ثوابه؟! وإلا فلو تيقّن العبد ذلك حقَّ اليقين، وباشر الإيمان به بشاشة قلبهº لانبعثت من قلبه مُزعِجات الشوق إليه، وتوجّهت هِمَم عزائمه إليه، وطوّعت نفسه له بكثرة النفقاتº رجاء المثوبات!\"[ص 114].

 

الثامن: أنّ الشيخ قد اهتم بشأن الموعظة البليغة، والذكرى النافعةº حتى يستفيد منها المسلمون في هذا العصر الذي طغت فيه المادّة، وقست فيه القلوب، وكثرت فيه المعاصي والخَبائث:

 

ـ فقد قال رحمه الله:\"قوله - تعالى - (صُمُّ) أي: عن سماع الخير, (بُكمٌ) أي: عن النطق به, (عُميٌ) عن رؤية الحق, (فهم لا يرجعون)º لأنهم تركوا الحق بعد أن عرفوه, فلا يرجعون إليه\"[ص 44].

 

ـ وقال عند قول الله - تعالى -: (ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون) [البقرة: 42]:\"من لَبَس الحق بالباطلº فلم يميِّز هذا من هذا، مع علمه بذلك، وكتم الحق الذي يعلمه وأُمِر بإظهارهº فهو من دُعاة جهنّم لأنّ الناس لا يقتدون في أمر دينهم بغير علمائهمº فاختاروا لأنفسكم إحدى الحالتين!\"[ص 51].

 

ـ وقال عند قول الله - تعالى -: (ألم تعلم أنّ الله له ملك السموات والأرض):\"فالعبدُ مُدَبَّرٌ مسخَّرٌ تحت أوامر ربّه الدينيّة والقدريّةº فما له والاعتراض؟!\"[ص 62].

 

ـ وقال في تفسير (إني جاعلك للناس إماماً):\"أي: يقتدون بك في الهدى, ويمشون خلفك إلى سعادتهم الأبدية, ويحصل لك الثناء الدائم والأجر الجزيل, والتعظيم من كل أحد. وهذه ـ لَعَمر الله ـ أعظم درجة تنافس فيها المتنافسون, وأعلى مقام شمَّر إليه العاملون, وأكمل حالة حصّلها أولو العزم من المرسلين\"[ص 65].

 

التاسع: أنّ الشيخ قد أُوتي من جمال الأسلوب وحلاوة اللغة ما يُوجب الحُبَّ، ويأخذ اللٌّبَّ، ويسحر القلبº فجمع ـ لله درٌّه ـ بين كمال المبنى وجلال المعنى: متمثِّلاً ما شرح به قول الله - تعالى -: (وإنّ فريقاً منهم ليكتمون الحقَّ وهم يعلمون) [البقرة: 146]:\"فالعالم عليه إظهارُ الحقِّ وتبيينُه وتزيينُه، بكلِّ ما يقدِر عليه من عبارةٍ, وبُرهانٍ, ومثالٍ,, وغير ذلك\"[ص 72].

 

ـ فمن أمثلة ذلك قولُه - رحمه الله -في الذي استوقد ناراً:\"فبينما هو كذلك إذ ذهب الله بنوره, فذهب عنه النور وذهب معه السرور, وبقي في الظلمة العظيمة والنار المحرقة, فذهب ما فيها من الإشراق, وبقي ما فيها من الإحراق, فبقي في ظلمات متعددة: ظلمة الليل, وظلمة السحاب, وظلمة المطر, والظلمة الحاصلة بعد النور, فكيف يكون حال هذا الموصوف؟ فكذلك هؤلاء المنافقون\"[ص 44].

 

ـ ومنه قوله:\"فيكون بذلك من الصالحين الذين يصلحون لمجاورة الرحمن في جنته\"[ص 46].

 

ـ وكذلك قوله في تفسير: (فأينما تُوَلُّوا فثَمَّ وجه الله) [البقرة: 115]:\"فيه إثباتُ الوجهِ لله - تعالى - على الوجه اللائق به - تعالى -، وأنّ لله وجهاً لا تُشبهه الوجوه\"[ص 63-64].

 

ـ وقوله في تفسير (والسّحاب المسخَّر) [البقرة: 164]:\"فيُنزله رحمةً ولُطفاً, ويصرفه عِنايةً وعطفاً, فما أعظمَ سلطانَه! وأغزرَ إحسانه! وألطفَ امتنانَه!\"[ص 79].

 

ـ وقوله في تفسير (وإذا قيل لهم اتّبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتّبع ما ألفينا عليه آباءنا) [البقرة: 170]:\"فاكتفَوا بتقليد الآباء, وزَهِدوا في الإيمان بالأنبياء!\"[ص 81].

 

ـ وكذلك الحال فيما ينقله عن غيره بنقدٍ, وذوقٍ,º كقوله عليه رحمة الله في تفسير آل عمران (إنّ أوّل بيتٍ, وُضع للناس لَلذي ببكّة مبارَكاً وهدىً للعالمين):\"وقد رأيتُ لابن القيّم هاهنا كلاماً حسناً أحببتُ إيرادهº لشدّة الحاجة إليه...\"فذكر مقالةً طويلةً في نحو صفحتين، جاء في آخرها\"ولو لم يكن له شرفٌ إلا إضافته إياه إلى نفسه بقوله: (وطهِّر بيتي)º لكفى بهذه الإضافة فضلا وشرفاً، وهذه الإضافة هي التي أقبلت بقلوب العالمين إليه، وسلبت نفوسهم حباًّ له وشوقاً إلى رؤيتهº فهذه المثابة للمحبِّين يثوبون إليه ولا يقضون منه وطراً أبداً! كلما ازدادوا له زيارةً ازدادوا له حبّاً وإليه اشتياقاً! فلا الوصال يشفيهم، ولا البعاد يسليهم. كما قيل:

 

أطوف به والنفس بعدُ مشوقةٌ ***إليهِ وهل بعد الطوافِ تدانِ؟!

وألثم منه الركن أطلب برد ما *** بقلبيَ من شوقٍ, ومن هَيَمانِ!

فواللهِِ ما أزدادُ إلا صَبــابةً *** ولا القلبُ إلا كثرة الخَفَقانِ!\"

 

حتى ذكر اثني عشر بيتاً من عُيون الشعر! [ص 140-141].

 

العاشر: أنّ التيسير قد تضمّن روح الشفقة على الخلق، والعطف على الفقراء، ومحبّة المساكينº وهذا يبيّن لنا مقدار الوعي بضرورة الإصلاح الاجتماعي عند السعدي - رحمه الله - تعالى -:

 

ـ واسمعه حين يقول عند قول الله - تعالى -: (وآتى المال على حبّه ذوي القربى واليتامى والمساكين) [البقرة: 177]:\"ومن اليتامى الذين لا كاسب لهم، وليس لهم قوةٌ يستغنون بهاº وهذا من رحمته - تعالى - بالعبادº الدالة على أنه - تعالى - أرحم بعباده من الوالد بولده، فالله قد أوصى العباد، وفرض عليهم في أموالهم الإحسان إلى من فُقِد آباؤهمº ليصيروا كمن لم يفقد والديه، (والمساكين) وهم الذين أسكنتهم الحاجة، وأذلّهم الفقرº فلهم حقُّ على الأغنياء بما يدفع مَسكَنَتهم، أو يخفّفهاº بما يقدرون عليه وبما يتيسّر، (وابن السبيل) وهو الغريب المنقطع به في غير بلدهº فحثّ الله عباده على إعطائه من المال ما يُعينه على سفرهº لكونه مَظِنّة الحاجة، وكثرة المصارفº فعلى من أنعم الله عليه بوطنه وراحته وخوّله من نعمته، أن يرحم أخاه الغريب الذي بهذه الصفة على حَسَب استطاعته، ولو بتزويده أو إعطائه آلةً لسفره، أو دفع ما ينوبه من المظالم أو غيرها\"[ص 83].

 

ـ وقال في تفسير (والصابرين في البأساء) [البقرة: 177]:\"أي الفقرº لأنّ الفقير يحتاج إلى الصبر من وُجوهٍ, كثيرةٍ,: لكونه يحصل له من الآلام القلبيّة والبدنيّة المستمرّة ما لا يحصل لغيرهº فإن تَنَعّم الأغنياء بما لا يقدر عليه تألّم، وإن جاع أو جاعت عيالُه تألّم، وإن أكل طعاماً غيرَ مُوافقٍ, لهواه تألّم، وإن عري أو كاد تألّم، وإن نظر إلى ما بين يديه وما يتوهّمه من المستقبل الذي يستعدّ له تألّم، وإن أصابه البردُ الذي لا يقدر على دفعه تألّم. فكل هذه ونحوها مصائبُ يُؤمَر بالصبر عليها، والاحتساب ورجاء الثواب عليها من الله\"[ص 83].

 

ـ وقال - رحمه الله - في تفسير (وأحسنوا إنّ الله يُحبّ المُحسنين) [البقرة 195]:\"يدخل فيه الإحسان بالجاه بالشفاعات ونحو ذلك، ويدخل في ذلك الإحسان بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وتعليم العلم النافع، ويدخل في ذلك قضاء حوائج الناس: من تفريج كرباتهم، وإزالة شدّاتهم، وعيادة مرضاهم، وتشييع جنائزهم، وإرشاد ضالّهم، وإعانة من يعمل عملاً، والعمل لمن لا يُحسن العمل، ونحو ذلك مما هو من الإحسان الذي أمر الله به، ويدخل في الإحسان أيضاً الإحسان في عبادة الله\"[ص 90].

 

ـ وقال في تفسير (زُيِّن للناس حبٌّ الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسوَّمة والأنعام والحرث ذلك متاع الحياة الدنيا والله عنده حُسن المآب) [آل عمران: 14]:\"في هذا تسليةٌ للفقراء الذين لا قدرة لهم على هذه الشهوات التي يقدر عليها الأغنياء، وتحذيرٌ للمُغترّين بها، وتزهيدٌ لأهل العقول النيِّرة بها\"[ص 124].

 

الحادي عشر: أنّ الشيخ السعديَّ قد اعتنى بتفسير القرآن بالقرآنº حتى إنه ليذكّر طالب العلم بطريقة ابن كثير - رحمه الله -º وذلك ما يجعل التفسير أقرب ما يكون إلى تفسير السلف الصالح رضوان الله عليهم:

 

ـ فمن أمثلة ذلك قول السعدي في تفسير الفاتحة:\"هذا (الصراط المستقيم) هو: (صراط الذين أنعمت عليهم) من النبيِّين والصّدّيقين والشهداء والصّالحين\"[ص 39].

 

ـ وفي البقرة:\"وفي قوله عن المنافقين: (في قلوبهم مرض فزادهم الله مرضاً) بيانٌ لحكمته - تعالى - في تقدير المعاصي على العاصينº وأنه بسبب ذنوبهم السابقة, يبتليهم بالمعاصي اللاحقة الموجبة لعقوباتها، كما قال: (ونقلّب أفئدتهم وأبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة)، وقال - تعالى -: (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم)، وقال - تعالى -: (وأما الذين في قلوبهم مرضٌ فزادتهم رجساً إلى رجسهم)º فعقوبة المعصية المعصيةُ بعدها, كما أنّ من ثواب الحسنة الحسنة بعدها, قال - تعالى -: (ويزيد الذين اهتدوا هدى)\"[ص 42].

 

ـ وكذلك قول السعدي في آية التحدّي (وإن كنتم في ريبٍ, مما نزّلنا على عبدنا) [البقرة: 23]:\"في وصف الرسول بالعبودية في هذا المقام العظيم, دلالةٌ على أنّ أعظم أوصافه - صلى الله عليه وسلم -, قيامه بالعبودية التي لا يلحقه فيها أحدٌ من الأولين والآخرين. كما وصفه بالعبودية في مقام الإسراء, فقال: (سبحان الذي أسرى بعبده)، وفي مقام الإنزال, فقال: (تبارك الذي نزَّل الفرقان على عبده)\"[ص 46].

 

ـ وكذلك قوله:\"وإذا كان لا أظلم ممن منع مساجد الله أن يُذكَر فيها اسمهº فلا أعظم إيماناً ممن سعى في عمارة المساجد بالعمارة الحسية والمعنوية، كما قال - تعالى -: (إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر). بل قد أمر الله برفع بيوته وتعظيمها وتكريمها، فقال - تعالى -: (في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه)\"[ص 63].

 

ـ وكذلك قوله:\"(وقال الذين لا يعلمون لولا يكلّمنا الله أو تأتينا آية) يعنون آيات الاقتراح التي يقترحونها بعقولهم الفاسدة وآرائهم الكاسدة، التي تجرؤوا بها على الخالق، واستكبرا على رسله كقولهم: (لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرةً)، (يسألك أهل الكتاب أن تنزل عليهم كتاباً من السماء فقد سألوا موسى أكبر من ذلك) الآية، وقالوا: (لولا أنزل معه ملك فيكون معه نذيراً أو يلقى إليه كنز أو تكون له جنة) الآيات، وقوله: (وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً) الآيات، فهذا دأبهم مع رسلهم, يطلبون آيات التعنت, لا آيات الاسترشاد\"[ص 64].

 

الثاني عشر: أنّ هذا التفسير المبارك قد اهتم بذكر أساليب القرآن وطرائقهº مما يدلّ على مَلَكةٍ, عاليةٍ, من التدبٌّرº فهو يذكر الأشباه والنظائر:

ـ كما في قوله:\"كثيراً ما يجمع الله - تعالى - بين الصلاة والزكاة في القرآنº لأنّ الصلاة متضمِّنةٌ للإخلاص للمعبود, والزكاة والنفقة متضمِّنةٌ للإحسان على عبيده, فعنوان سعادة العبد إخلاصه للمعبود, وسعيه في نفع الخلق, كما أنّ عنوان شقاوة العبد عدم هذين الأمرين منه فلا إخلاص ولا إحسان\"[ص 41].

 

ـ وقوله - رحمه الله -:\"وكثيراً ما يقرن بين خلقه للخلق وإثبات علمه كما في هذه الآية، وكما في قوله - تعالى -: (ألا يعلم مَن خلق وهو اللطيف الخبير)º لأنّ خلقه للمخلوقات أدلّ دليل على علمه وحكمته وقدرته\"[ص 48].

 

ـ وقوله - رحمه الله - في تفسير (فمن تبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون والذين كفروا وكذّبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون) [البقرة 38-39]:\"في هذه الآيات وما أشبهها انقسام الخلق من الجنّ والإنس إلى أهل السعادة وأهل الشقاوة وفيها صفات الفريقين والأعمال الموجبة لذلك، وأنّ الجنّ كالإنس في الثواب والعقاب\"[ص 50].

 

ـ وبيانه في تفسير (وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين) [البقرة: 43] أنّ في ذلك جمعاً\"بين الأعمال الظاهرة والباطنة، وبين الإخلاص للمعبود والإحسان إلى عبيده، وبين العبادات القلبية والبدنية والمالية\"[ص 51].

 

ـ كما أشار إلى\"طريقة القرآن في ذكر العلم والقدرة عَقِبَ الآيات المتضمّنة للأعمال التي يُجازى عليها\"[ص 69].

 

ـوأما عِنايته بطريقة القرآن في إزالة الأوهام من الأذهانº فحدِّث ولا حرج: فإنّ السعديَّ لا يكاد يغادر موضعاً من هذا القبيل إلا نصّ عليه [كما تراه في ص 54، 71، 73، 86، 89، 138، 155، 165].

 

الثالث عشر: أنّ السعديَّ - رحمه الله -قد سجّل في تفسيره تجاربَ نافعةً من آداب السلوك، وزهراتٍ, يانعةً من فقه الدعوة:

 

ـ كما في قوله:\"فإنّ النفوس مجبولةٌ على عدم الانقياد لمن يخالف قولُه فعلَهº فاقتداؤهم بالأفعال أبلغ من اقتدائهم بالأقوال المجرَّدة\"[ص 51].

 

ـ وكذلك قوله:\"هكذا كلٌّ مُبطلٍ, يحتج بآيةٍ, أو حديثٍ, صحيحٍ, على قوله الباطلٍ,º فلا بدّ أن يكون فيما احتَجّ به حجة عليه\"[ص 57].

 

ـ ومنه قوله في تفسير (ولئن أتيتَ الذين أُوتوا الكتابَ بكلّ آيةٍ, ما تبعوا قِبلتَك) [البقرة: 145]:\"فالآياتُ إنما تنفع وتفيد مَن يتطلّب الحقَّ وهو مُشتَبِهٌ عليه, فتوضح له الآيات البيّنات, وأما من جزم بعدم اتباع الحق فلا حيلة فيه\"[ص 72].

 

الرابع عشر: أنّ المصنّف - رحمه الله -قد اعتنى بالمسائل الاجتماعيّة ومعرفة العوائد والسنن:

 

ـ كما في قوله:\"من العوائد القدرية والحكمة الإلهية أنّ مَن ترك ما ينفعه وأمكنه الانتفاع به فلم ينتفعº ابتُلي بالاشتغال بما يضرّه!\"[ص 60].

 

ـ وكما قال في تفسير (إذ قالوا لنبيٍّ, لهم ابعث لنا ملِكاً نُقاتل في سبيل الله) [البقرة: 246]:\"لعلّهم في ذلك الوقت ليس لهم رئيسٌ يجمعهمº كما جرت عادة القبائل أصحاب البيوت، كل بيتٍ, لا يرضى أن يكون من البيت الآخر رئيسٌº فالتمسوا من نبيّهم تعيين ملكٍ, يُرضي الطرفين، ويكون تعيينه خاصّاً لعوائدهم، وكانت أنبياء بني إسرائيل تسوسهم كلما مات نبيُّ خلفه نبيُّ آخر\"[ص 107].

 

ـ وكما قال في تفسير (ليقطع طرفاً من الذين كفروا أو يكبتهم فينقلبوا خائبين) [آل عمران: 127]:\"يُخبر - تعالى - أنّ نصره عبادَه المؤمنين لأحد أمرين: إمّا أن يقطع طرفاً من الذين كفروا: أي جانباً منهم وركناً من أركانهم: إما بقتلٍ,، أو أسرٍ,، أو استيلاءٍ, على بلدٍ,، أو غنيمة مالٍ,º فيقوى بذلك المؤمنون ويذلّ الكافرون...الأمر الثاني: أن يريد الكفار بقوّتهم وكثرتهم طمعاً في المسلمين ويُمنّوا أنفسهم ذلك...فينصر الله المؤمنين عليهم ويردّهم خائبين لم ينالوا مقصودهم، بل يرجعون بخسارةٍ, وغمٍّ, وحسرةٍ,º وإذا تأمّلتَ الواقع رأيتَ نصرَ الله لعباده المؤمنين دائراً بين هذين الأمرين، غيرَ خارجٍ, عنهما: إما نصرٌ عليهم، أو خذلٌ لهم\"[ص 146].

 

ـ وكما قال في تفسير (هم للكفر يومئذٍ, أقرب منهم للإيمان يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم) [آل عمران: 167]:\"هذه خاصّة المنافقينº يُظهرون بكلامهم وفِعالهم ما يُبطنون ضدّه في قلوبهم وسرائرهم\"[ص 156].

 

الخامسَ عشر: أنّ الشيخ السعدي كان عارفاً بواقعه، وما يكيده أعداء الإسلام لهذا الدّين:

 

ـ كما تراه في تفسير قول الله - تعالى -: (ولا يزالون يُقاتلونكم حتى يردٌّوكم عن دينكم إن استطاعوا):\"هذا الوصفُ عامُّ لكلّ الكفار: لا يزالون يُقاتلون غيرهمº حتى يردّوهم عن دينهم، وخصوصاً أهل الكتاب من اليهود والنصارى، الذين بذلوا الجمعيّات، ونشروا الدعاة، وبثٌّوا الأطبّاء، وبنوا المدارسº لجذب الأمم إلى دينهم، وتدخيلهم عليهم كل ما يُمكنهم من الشٌّبَه التي تُشكِّكهم في دينهم\"[ص 97].

 

ــــــــــــــــــــــــ

[1] انظر مقدمة (تيسير الكريم الرحمن) [ص 11]، تحقيق عبد الرحمن بن معلا اللويحق، مؤسسة الرسالة، ط1، 1421هـ.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply