حكاية المناظرة


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 





الحمد لله والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد:

هذه حكاية تصويرية، نقص فيها مثالا، لمناظرة تمت بين طائفتين، طائفة تكفر محكّمة القوانين الوضعيّة، وطائفة لا تحكم بكفرهم.

وأنهم اختصموا، فرفعوا خصومتهم إلى قاض يقضي بينهم، وارتضوا حكومته، فلما دخلوا عليه، وأخذت كل طائفة منهما، مجلسها بين يديه.

قال القاضي، بعد أن حمد الله - تعالى -وأثنى عليه:

سأسمع من كل طائفة منكم قولها حتى تنتهي، ثم أقضي بينكما بكتاب الله مستعينا به، مستهديا بهداه.

غير أنني قبل ذلك، سأقدم مقدمة مهمة، يتحرر فيها محل النزاع بينكما، ولا أريد أن تخلطوا ما أجمع عليه العلماء، مع ما اختلفتم فيه، فاسمعوا، وعُــوا:

اتفق العلماء على أن من استحل التحاكم إلى غير ما أنزل الله ـ ولو في شيء واحد ـ فهو كافر الكفر الأكبر، مرتد عن دين الإسلام، وهو الذي يعتقد جواز الخروج عن شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم -، كما جاز للخضر - عليه السلام - أن يخرج عن شريعة موسى - عليه السلام -، والعلمانيون اللادينيون يدخلون في هذا الحكم بلا ريب، بإجماع العلماء.

والعلمانيون اللادينيون أربعة أقسام:

أحدهما: جاحدون لوجود الله - تعالى -، فهم بشريعته أشد جحودا.

الثاني: يصدقون بوجود الله - تعالى -، غير أنهم يجحدون إرسال الرسل فهم كالدهرية الذين يعتقدون أن الله - تعالى -خلق الكون، وركب في الإنسان العقل ليكون رسوله الهادي، وليس ثمة يوم يرجع فيه الناس إلى خالقهم فيحاسبهم، إنما هي الحياة الدنيا، نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر.

الثالث: يصدقون بوجود الله - تعالى -وبإرساله الرسل، ولكنهم يقولون لم يرسلهم الله لكل الناس، بل لمن يحتاج إلى هدايتهم، أما من يستغني عنهم بعقله، أو بطريق أخرى يعرف بها الهدى، فله أن يخرج عن اتباعهم.

الرابع: يؤمنون بوجود الله - تعالى -، وبإرساله الرسل، والذين ينتسبون إلى الإسلام من هذا القسم، يصدقون بمحمد - صلى الله عليه وسلم -، وأنه خاتم الرسل، وأنه نسخ بدينه كل دين قبله، ووجب اتباعه على جميع الناس. غير أنهم يقولون إن للنبي محمد - صلى الله عليه وسلم -، منزلتين:

أحدهما: منزلة دينية هي التي يجب علينا اتباعه فيها، كالصلاة والصيام والحج وأداء الزكاة، وما كان من أمر التعبد المحض.

والثانية: منزلة دنيوية، هي التي بها حكم، وقضى، وسن العقوبات، ومنع وأباح من التعاملات المالية، وحارب أعداءه، وسالمهم، وساس الدولة، وعامل غيره من الدول في عصره...إلخ، وهذه كلها لم يوجب الله علينا اتباعه فيها، لأنه - صلى الله عليه وسلم -، لم يقم بها من باب الرسالة الدينية التي بعث بها، وإنما مـــن باب (أنتم أعلم بشئون دنياكم)، وهذه المنزلة، لم يلزمنا بها - صلى الله عليه وسلم -، وإن تركناها فليس في تركها، خروج عن شريعته، ولا مخالفة لدينه، ولا مشاقة لسبيل المؤمنين.

وكذبوا، وكفروا كفرا واضحا بيّنا لكل من عرف ما دلت عليه قطعيات الشريعة المستفيضة أدلتها في الكتاب والسنة، وكذبهم ظاهر البطلان، واضح للعيان، لأن ماحكم به النبي - صلى الله عليه وسلم - في الأمور المذكورة، إنما امتثل فيها آيات الكتاب العزيز.

فهو - صلى الله عليه وسلم -، لم يحكم بشيء في عصره، ولم يقض بين الناس، ولم يأمر عقوبة في نفس أو مال، ولم يمنع شيئا، أو يبيح أمرا، أو يحارب، أو يسالم عدوا، ولم يسـس دولتـه، ولم يعامل أتباعه، أو أعداءه، إلا تنفيذا لآيات الكتاب التي أمر الله - تعالى -فيها بالحكم بكل ما أنزل، في كل شيء، من أمور الحياة، على التفصيل والإجمال.

وهذا كله من المعلوم من الدين بالضرورة، وكل من علم سيرته - صلى الله عليه وسلم -، يتبين له أنه - صلى الله عليه وسلم - كانت، تتنزّل عليه الآيات مفرقة وفق الحوادث، فيأمره الله - تعالى -، ويرشده، فيمتثل أمر ربه، وأن كل ما كان يصدر منه، إنما كان وحيا من الله - تعالى -، كما قال - تعالى -(وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا) وقال (وما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى) وغيرها من الآيات الكثيرة.

قال القاضي: وقد اتفق العلماء على كفر العلمانيين اللادينيين بجميع أقسامهم السابقة، وما أكثرهم في هذا العصر، حكاما، وزعماء، وساسة، وقضاة، ومثقفين، ومفكرين، وأما من كان منهم مثله قد يعذر بجهله، فلا يكفر بعينه حتى تقام عليه الحجة.

فليست خصومتكم في حكم هؤلاء، وإلاّ فقوموا عنّي، فلا يتخاصم في هذا إلا الجهلاء.

قال القاضي: كما اتفق العلماء على أن الحاكم الذي يستند في أحكامه على ما أنزل الله فيما يظهر للناس، وقد أنشأ مجلس حكمه على الإقرار بذلك ظاهرا، ولم ينصب طاغوتا يجعله حاكما بين الناس، بل الشريعة الإسلامية هي مرجعه، ثم هو تارة يقضي بما يوافق ما أنزل الله، وتارة يقضي بخلاف ذلك، لهوى ينصر به عصبة، أو شهوة يميل بها إلى رشوة، أو خوف من سلطان يرهبه، أو طمع فيه أن يقربه، أنه من الظالمين الفاسقين، ومن الكافرين الكفر الأصغر، لا الأكبـــــر.

أما من يجعل مستند أحكامه، ومرجع قضاءه، فيما يقضي به بين الناس، إلى غير ما أنزل الله، وينصب طاغوتا ـ هو القوانين ـ حاكمة بين الناس لا يعقب على حكمها أحد.

وقد أنشأ مجلس حكمه على أساس التحاكم إلى الطاغوت، مستبدلا أحكام الشريعة به، قد جعله مرد التنازع، وفصل الخصومات، فإن وافقت أحكام هذا الطاغوت، أحكام الشريعة الإلهية، فذاك محض اتفاق، وإلا فلا يلتفت إلى الشريعة الإلهية في أحكامه.

ثم مع ذلك يزعم أنه غير مستحل، فهل يكون كافرا كفرا أكبر، من غير اشتراط الاستحلال، كما هو الحال في كل النواقض العمليّة، أم لا يكفر حتى يقر باستحلال كما فعل؟ هذا هو خلافكم، وفي هذه القضية سأقضي بينكم.

فهيـــا: لنسمع من الطائفة الأولى:

*** قالت الطائفة الأولى التي تكفر محكمة القوانين:

إنه مرتد كافـــر، لايشك في ردته إلا الخاســـر.

أولا: لأن الله - تعالى -جعل هؤلاء الذين يتخذون لهم مطاعين، يطيعونهم كطاعة الله، ناصبين أقوالهم شريعة تتبع كشريعة الله - تعالى -، جعلهم كالمتخذين أربابا من دون الله، قال - تعالى -(اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله والمسيح بن مريم) قال المفسرون: أطاعهم في تحليل ما حرم الله، وتحريم ما أحل الله.

وقال - تعالى -(ولا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله)، قال الطبري - رحمه الله -: (وأما قوله: لا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله، فإن اتخاذ بعضهــم بعضا، ماكان بطاعة الاتباع الرؤساء فيما أمروهم به من معاصي الله، وتركهم ما نهوهم عنه من طاعة الله كما قال جل ثناؤه.. وذكر الآية السابقة (اتخذوا أحبارهم.. الآية) وساق بسنده عن ابن جريح قال: إن تلك الربوبية أن يطيع الناس سادتهم وقادتهم في غير عبادة وإن لم يصلوا لهم).

فهؤلاء مشركون شرك الطاعة، وهو أحد أقسام الشرك الأربعة، شرك المحبة، وشرك الإرادة، وشرك الدعاء، وشرك الطاعة.

ثانيا: قالوا: ولأن الله - تعالى -جعل من ينصب حاكمــاً يُتحاكم إليه، ويُرجع إليه في فصل الخصومات ورد التنازع، جعله عابدا للطاغوت، وطاغوته هو هذا المُتحاكَم إليه من دون الله، قال - تعالى -: (ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت قد أمروا أن يكفروا به)، فدلت الآية على أن من يجعل له طاغوتا يرد إليه التحاكم، غير الله - تعالى -، فإنه لم يكفر بالطاغوت.

وبين في غير هذا الموضع أن الإيمان لا يصح إلا بالكفــر بالطاغوت، قال - تعالى -(فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها)، وقال (والذين اجتنبوا الطاغوت أن يعبدوها وأنابوا إلى الله).



*** قالوا: كما قال الإمام ابن القيم - رحمه الله -: (ثم أخبر - سبحانه - أن من تحاكم، أو حاكم إلى غير ما جاء به الرسول - صلى الله عليه وسلم -، فقد حكم الطاغوت وتحاكم إليه، فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله) إعلام الموقعين 1/50



*** وقالوا: وكما قال الإمام المجدد محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله -: رؤوس الطواغيت خمسة، وعد منها الحاكم بغير ما أنزل الله، قال (الثاني الحاكم الجائر المغير لأحكام الله.. الثالث: الذي يحكم بغير ما أنزل الله) مجموعة التوحيد ص 13



*** قالوا: ومعلوم في أصول العقيدة الإسلامية، أن من يتخذ طاغوتا وربا من دون الله، فهو الكافر، لافرق بينه وبين من يسجد للأصنام، أو يعبد الأوثان، أو يركع للصليب، أو يعبد النيران، إذ كل هؤلاء صور شتى للطواغيت، ولا يشترط الاستحلال، للحكم بالردة في مثل هذا الحال، إلا المرجئة أول العمى والضلال.



ثالثا: وقالوا: ولأن الله - تعالى -قال (ولا يشرك في حكمه أحدا) وقرأ ابن عامر من السبعة (ولا تشرك في حكمه أحدا) أي لا تشرك متخذا المتحاكم إليه شريكا مع الله، وبيّنه الله - تعالى -في القرآن في غير موضع قال (إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه) فعطفُ أمرِه بعبادته وحده، على بيان أن الحكم له وحده، يوضح ما تقدم.

ولهذا قال (وإن الشياطين ليوحون إلى أولياءهم ليجادلوكم وإن أطعتموهم إنكم لمشركون)، فصرح أنهم مشركون باتباعهم التشريع المخالف لشريعة الله.

قالوا: ومن يتخذ له شريكا مع الله، لا يكون إلا كافرا، سواء الشريك في الدعاء، و الشريك في المحبة، والشريك في الحكم والطاعة، والشريك في الإرادة.



رابعا: قالوا: ولأن الله - تعالى -قال: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) ومعلوم أن قوله (فأولئك هم الكافرون) يختلف عما لو قيل: (فهم كفر)، أو (فهم كافرون)، ذلك أن في الآية تأكيدا باسم الإشارة، وضمير الفصل، والإتيان بالاسم المطلق المعرف باللام (الكافرون)، وكل هذا يدل على إرادة الكفر الأكبر، كما قال شيخ الإسلام ابن تيميه (وفرق بين الكفر المعرف باللام كما في قوله (ليس بين العبد وبين الكفر أو الشرك إلا ترك الصلاة) وبين كفر منكر في الإثبات) اقتضاء الصراط المستقيم ص 70



خامسا: قالوا وإذا كان العلماء قد حكموا بنقض الإيمان على من أظهر الطاعة والموافقة للمشركين على دينهم، وإن لم يستحل، فلأن يُحكم بنقض الإيمان على من يتحاكم في القليل والكثير إلى قوانين الكفار، معرضا عن شريعة الله أولى وأحرى.

كما جاء في مجموعة التوحيد ص (404): (وذكر الفقيه سليمان بن الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد بن عبد الوهاب في هذه المسالة عشرين آية من كتاب الله وحديثا عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، استدل بها على أن المسلم إذا أظهر الطاعة والموافقة للمشركين من غير إكراه، أنه يكون بذلك مرتدا خارجا عن الإسلام، وإن شهد أن لا إله إلا الله ويفعل الأركان الخمســة، أن ذلك لا ينفعه).



قالوا: فيا للعجب أفلا يكون من يظهر الطاعة لهم في اتباع قوانينهم الكفريّة، دون تشريع الله جملة، ومن يظهر الموافقة لهم في تحكيم قوانينهم الطاغوتيّة بحذافيرها بدل كتاب الله، أفلا فيكون أولى بحكم التكفير.



سادسا: قالوا: وقد قال - تعالى -: (إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الكُفرِ يُضَلٌّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلٌّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلٌّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُم سُوءُ أَعمَالِهِم وَاللَّهُ لا يَهدِي القَومَ الكَافِرِين).

قال ابن كثير - رحمه الله -: (هذا مما ذم الله - تعالى -به المشركين من تصرفهم في شرع الله بآرائهم الفاسدة، وتغييرهم أحكام الله بأهوائهم الباردة، وتحليلهم ما حرم الله، وتحريمهم ما أحل الله، فإنهم كان فيهم من القوة الغضبية والشهامية، ما استطاعوا به مدة الأشهر الثلاثة في التحريم المانع لهم من قضاء أوطارهم، من قتال أعدائهم فكانوا قد أحدثوا قبل الإسلام بمدة تحليل المحرم فأخروه إلى صفر، فيحلون الشهر الحرام، ويحرمون الشهر الحلال، ليواطئوا عدة ما حرم الله الأشهر الأربعة، كما قال شاعرهم وهو عمير بن قيس المعروف بجذل الطعان:

ألسنا الناسئين على معدّ *** شهور الحل نجعلها حرامـا

فأي الناس لم ندرك بوتر ***وأي الناس لـم نعلك لجاما

قالوا: فإذا كان تغيير حكم واحد من أحكام الله، ومغيّره مع ذلك يقصد بزعمه، تعظيم شهور الله الحُرُم، ليشابه عدة ما حرم الله، قد سماه الله - تعالى -زيادة في الكفر، وقال في ختام الآية (والله لا يهدي القوم الكافرين)، فكيف بمن يغيّر كل، أو جـلّ، أحكام الله - تعالى -، ويجلب بدلها أحكام الكفار الملاعين، ويفرضها بالحديد والنار على بلاد المسلمين، إلى أيّ مدى يبلغ كفره، وإلى أيّ حد يصل ظلمـــــه؟!!



قالوا: ولنا حجج أخرى يضيق عنها المقام، وفيما ذكر كفاية لأولى الافهام، وقد صرح بعض كبار المحققين من العلماء المعاصرين بالفرق بين من يجعل القانون الوضعي هو المرجع، لحكمه، وبين من لا يكون كذلك.

قال العلامة محمد بن إبراهيم آل الشيخ - رحمه الله -: (وأما الذي قيل فيه كفر دون كفر، إذا حاكم إلى غير الله مع اعتقاد أنه عاص، وأن حكم الله هو الحق، فهذا الذي يصدر منه المرة ونحوها، أما الذي جعل قوانين بترتيب وتخضيع فهو كفر، وإن قالوا أخطأنا وحكم الشرع أعدل، ففرق بين المقرر، والمثبت والمرجع، جعلوه هو المرجع، فهذا كفر ناقل عن الملة).

وقال أيضا: (فمن اتخذ مطاعا مع الله فقد أشرك في الرسالة والألوهية، وهذان الواحد منهما كفر، بخلاف المسألة الواحدة، فإنها ليست مثل الذي مصمم ومحكم، فإن هذا مرتد، وهو أغلط كفرا من اليهودي والنصراني) فتاوى الشيخ محمد بن ابر أهيم 12/208

قالوا: وما أحسن قول الحافظ بن كثير في هذه المسألة قال: (فمن ترك الشرع المحكم المنزل على محمد بن عبد الله فقد كفر، فكيف بمن تحاكم إلى الياسا وقدمها عليه، فمن فعل ذلك فقد كفر بإجماع المسلمين) البدايـــــة والنهاية 13/118

وقال في تفسيره عن الياسا: (هو عبارة عــن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها ـ يعني جنكيز خان زعيم التتر ـ من شرائع شتى، من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية وغيرها، وفيها كثر من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه، فصارت في بنيه شرعا متبعا، يقدمونها على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، فمن فعل ذلك فهو كافر).

فهؤلاء الذين يحكمون القوانين الطاغوتية المعاصرة، كأولئك الذين كانوا يحكمون (الياسا) سواء بسواء.

قالوا: والأمر عندنا في هذه المسألة كما قال العلامة أحمد شاكر - رحمه الله -: (إن أمر هذه القوانين الوضعية واضح وضوح الشمس، هي كفر بواح، لاخفاء فيه، ولا مداورة) عمدة التفسير 4/174

قالوا: وكما قال العلامة محمد الأمين الشنقيطي (ومن هدي القرآن التي هي أقوم، بيانه أنه كل من اتبع تشريعا غير التشريع الذي جاء به سيد ولد آدم محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه، فاتباعه لذلك التشريع كفر بواح، مخرج عن الملة الإسلامية) وقال أيضا: (وهذا النصوص السماوية التي ذكرنا يظهر غاية الظهور أن الذين يتبعون القوانين الوضعية التي شرعها الشيطان على ألسنة أولياءه مخالفة لما شرعه الله - جل وعلا - على ألسنة رسله - صلى الله عليه وسلم -، أنه لايشك في كفرهم وشركهم إلاّ من طمس الله بصيرته وأعماه عن نور الوحي مثلهم) أضواء البيان 4/84

وقال أيضا: (فالإشراك في الله في حكمه، كالإشراك به في عبادته، قال في حكمه: (ولا يشرك في حكمه أحدا)، وفي قراءة ابن عامر من السبعة (ولا تشرك في حكمه أحدا) بصيغة النهي، وقال في الإشراك به في عبادته (فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا) فالأمران سواء كما ترى إيضاحه إن شاء الله)

وقال: (وقد دل القرآن في آيات كثيرة، على أنه لاحكم لغير الله، وأن اتباع تشريع غيره كفر به، فمن الآيات الدالة على أن الحكم لله وحده، قوله - تعالى -(إ ن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه)، وقوله: (إن الحكم إلا لله عليه توكلت) الآية، وقوله - تعالى -(إن الحكم إلا لله يقص الحق وهو خير الفاصلين) وقوله: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) وقوله - تعالى -(ولا يشرك في حكمه أحدا)، وقوله (كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون)، وقوله - تعالى -(وله الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون) والآيات بمثل ذلك كثيرة.

وقد قدمنا إيضاحها في سورة الكهف في الكلام على قوله - تعالى -: (ولا يشرك في حكمه أحدا).

وأما الآيات الدالة على أن اتباع تشريع غير الله المذكور كفـر، فهي كثيرة جدا، كقوله - تعالى -(إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون)، وقوله - تعالى -(وإن أطعتموهم إنكم لمشركون)، وقوله - تعالى -(ألم أعهد إليكم يا بني آدم ألا تعبدوا الشيطان)والآيات بمثل ذلك كثيرة جدا، كما تقدم إيضاحه في سورة الكهف)

وقال: (فمن الآيات التي أوضح بها - تعالى -صفات من له الحكم، والتشريع قال هنا:: (وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله)، ثم قال مبينا صفات من له الحكم، (ذلكم الله ربي عليه توكلت وإليه أنيب، فاطر السموات والأرض، جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الأنعام أزواجا يذرؤكم فيه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير، له مقاليد السموات والأرض، يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه بكل شيء عليم).



فهل في الكفرة الفجرة المشرعين للنظم الشيطانية، من يستحق أن يوصف بأنه الرب الذي تفوض إليه الأمور، ويتوكل عليه، وأنه فاطر السموات والأرض، أي خالقهما ومخترعهما، على غير مثال سابق، وأنه هو الذي خلق للبشر أزواجا، وخلق لهم أزواج الأنعام الثمانية... فعليكم أيها المسلمون أن تتفهموا صفات من يستحق أن يشرع ويحلل ويحرم، ولاتقبلوا تشريعا من كافر خسيس حقير جاهل) 7/162ـ 164

وتأمل كيف جعل محكمة القوانين الطاغوتية، متولّين للشيطان، قد اتخذوه شريكا مع الله، واستدل على شركهم بقوله - تعالى -(إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون).

قالوا: وكما قال العلامة سليمان بن سحمان - رحمه الله - في تعريف الطاغوت وتفسير قوله - تعالى -(ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت) قال: (وأما حقيقته والمراد به، فقد تعددت عبارات السلف عنه، وأحسن ما قيل فيه كلام ابن القيم - رحمه الله - حيث قال: الطاغوت ما تجاوز به العبد حده من معبود، أو متبوع، أو مطاع، فطاغوت كل قوم من يتحاكمون إليه غير الله ورسوله، أو يعبدونه من دون الله ويتبعونه، في غير بصيرة من الله، أو يطيعونه فيما لا يعلمون أنه طاعة لله، فهذه طواغيت العالم إذا تأملتها، وتأملت أحوال الناس معها، رأيت أكثرهم ممن أعرض عن عبادة الله إلى عبادة الطاغوت، وعن طاعته ومتابعة رسوله إلى طاعة الطاغوت ومتابعته) انتهى

وحاصله أن الطاغوت ثلاثة أنواع: طاغوت حكم، وطاغوت عبادة، وطاغوت طاعة ومتابعة.. والمقصود في هذه الورقة، هو طاغوت الحكم، فإن كثيرا من الطوائف المنتسبيــن إلى الإسلام قد صاروا يتحاكمون إلى عادات آبائهم) ثم قال: (وهذا هو الطاغوت بعينه الذي أمرنا باجتنابه) الدرر السنية 8/272

وقالت هذه الطائفة: وإنما قلنا إن جعل القوانين الوضعية حاكمة بين العباد، من النواقض العملية، لان الكفر الأكبر يكون بالاعتقاد تارة، وبالعمل تارة، أما من قال إن الكفر الأكبر لا يكون إلا اعتقاديا، فهو قول المرجئة.

ذلك أن قولهم الباطل: إن الكفر لا يكون إلا بالجحود التكذيب والاستحلال، فمن سجد للصنم، أو سب الرسول - صلى الله عليه وسلم -، أو استهزأ بالدين، لا يكفر بهذه الأفعال ـ في عقيدتهم الضالة ـ بل كفره بسبب اعتقاده واستحلاله المقارن لهذه الأفعال، ولو فُرض أنه غير معتقد، أو غير مستحل لما فعل، فهو مؤمن في الباطن، لانه مصدق، لان الإيمان عندهم هو التصديق فحسب.

أما الاعتقاد الصحيح الذي عليه أهل السنة، أن الإيمان تصديق وعمل، وأن الكفر الأكبر منه ما يكون بالاعتقاد، جحود أو تكذيب والاستحلال صورة منه، ومنه ما يكون بالعمل أو القول، أو الترك، مثل من ترك الانقياد للتوحيد وإن صدق بقلبه ونطق بلسانه.

ومن الأمثلة على الكفر الأكبر الذي يكون بالعمل أو القول، سب الدين، والاستهزاء بشعائره، والسجود للأصنام، والسحر، واتخاذ الطواغيت حكاما، ونحو ذلك، أما مطلق الكبائر، كالزنى، والسرقة، والقتل، ونحوها، فلا يكفر المسلم بفعلها مالم يستحلها، قد أجمع على هذا أهل السنة.

ولهذا يعرف الفقهاء الردة بأنهـــا الكفر بعد الإسلام، باعتقاد أو شك أو قول أوفعل.

قالوا: وكيف لا يكفّر محكم القوانين، و السيوف لم تسل إلا لتعظيم الشريعة، وتحكيم الكتاب والسنة في الأرض، والجهاد أصلا لم يشرع إلا لتكون كلمة الله هي العليا، كما قال - صلى الله عليه وسلم -: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله) متفق عليه من حديث أبي موسى - رضي الله عنه -.

وكلمة الله هي كلمته الشرعيّة الدينيّة، وهي أحكامه، فإن أحكامه تضمنها كلامه الذي أمر به، ونهى، - جل وعلا -، كما قال - تعالى -(وتمت كلمة ربك صدقا وعدلا لامبدل لكلماته.. الآية)، أي كلماته الشرعية، ومعلوم أن غاية الجهاد إظهار الحكم بشريعة الله - تعالى -، كما قال - تعالى -(وقاتلوهم حتى لاتكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فإن الله بما يعلمون بصير)، كما قال الإمام الطبري - رحمه الله -: (يقول: حتى تكون الطاعة والعبادة كلها لله خالصة دون غيره).

قالت هذه الطائفة التي تكفّـر محكمة القوانين: هذا قولنا وهذه حججنا، نحن فيها متبّعون لكتاب الله - تعالى -، مقتدون بمن سلف من أهل العلم المرضييّن، والعلماء الربانيّين.

قال القاضي: قد أحسنتم في الاستدلال، والآن نسمع مــن الطائفــــة الأخرى.. فليدلـُـوا بالحجج على نحو هذا المثال.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply