بسم الله الرحمن الرحيم
الموضع الرابع: تفسير قوله - تعالى -: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم وما أمروا إلا ليعبدوا إلهاً واحداً لا إله إلا هو سبحانه عما يشركون} [سورة براءة].
قال - رحمه الله تعالى -: \"ذكر الله - جل وعلا - في هذه الآيات الكريمات من سورة براءة ما جرى من اليهود والنصارى. فعد منها أنهم نسبوا له الأولاد وأتبع ذلك بقوله {قاتلهم الله أنى يؤفكون} كيف يصرفون عن الحق مع وضوحه ويدّعون له الأولاد فيقولون: عزير ابن الله، مسيح ابن الله - سبحانه وتعالى - عما يقولون علواً كبيراً، ثم ذكر في معائبهم وإجرامهم بلايا أخر فقال: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله والمسيح ابن مريم} أي واتخذوا من المسيح ابن مريم رباً من دون الله، هذه الآية جاء عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه فسرها لعدي بن حاتم - رضي الله عنه - لما سأله عنها، فقد أخرج الترمذي وغيره عن عدي بن حاتم - رضي الله عنه - أنه أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - وفي عنقه صليب من ذهب، فقال له - صلى الله عليه وسلم -: أخرج هذا الوثن من عنقك، وسمعه يقرأ {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله}، وكان عدي في الجاهلية نصرانياً فقال عدي: ما كنا نعبدهم من دون الله، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: ألم يحرموا عليكم ما أحل الله ويحلوا لكم ما حرم الله فتتبعوهم قال: بلى، قال: فذلك عبادتهم وهو معنى اتخاذهم أرباباً، وهذا التفسير النبوي يقتضي أن كل من يتبع مشرعاً بما أحل وحرم مخالفاً لتشريع الله أنه عابد له متخذه رباً مشرك به كافر بالله هو تفسير صحيح لاشك في صحته والآيات القرآنية الشاهدة لصحته لا تكاد تحصيها في المصحف الكريم، وسنبين إن شاء الله طرفاً من ذلك.
اعلموا أيها الإخوان: أن الإشراك بالله في حكمه والإشراك به في عبادته كلها بمعنى واحد لا فرق بينهما البتة فالذي يتبع نظاماً غير نظام الله وتشريعاً غير تشريع الله (أو غير ما شرعه الله) وقانوناً مخالفاً لشرع الله من وضع البشر معرضاً عن نور السماء الذي أنزله الله على لسان رسوله...
من كان يفعل هذا هو ومن كان يعبد الصنم ويسجد للوثن لا فرق بينهما البتة بوجه من الوجوه فهما واحد كلاهما مشرك بالله. هذا أشرك به في عبادته وهذا أشرك به في حكمه والإشراك به في عبادته والإشراك به في حكمه كلهما سواء. وقد قال الله - جل وعلا - في الإشراك به في عبادته: {فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً}. وقال - تعالى - في الإشراك في حكمه أيضاً: {له غيب السموات والأرض أبصر به وأسمع مالهم من دونه من ولي ولا يشرك في حكمه أحدا}. وفي قراءة ابن عامر من السبعة: {ولا تشرك في حكمه أحداً} بصيغة النهي فكلاهما إشراك بالله ولهذا بين النبي - صلى الله عليه وسلم - لعدي بن حاتم أنهم لما اتبعوا نظامهم في التحليل والتحريم وشرعهم المخالف لشرع الله كانوة عبدة لهم متخذيهم أرباباً. والآيات القرآنية في المصحف الكريم المصرحة بهذا المعنى لا تكاد تحصيها، ومن أصرحها المناظرة التي وقعت بين حزب الرحمن وحزب الشيطان في حكم تحليل لحم الميتة وتحريمه فحزب الشيطان يقولون: إن الميتة حلال ويستدلون بوحي من وحي الشيطان وأن الشيطان أوحى إلى أصحابه تلامذته في حكمه أن اسألوا محمداً عن الشاة تصبح ميتة من هو الذي قتلها فلما قال الله قتلها احتجوا على النبي وأصحابه في تحريمهم الميتة بفلسفة من وحي الشيطان وقالوا: ما ذبحتموه وذكيتموه بأيديكم حلال وما ذبحه الله بيده الكريمة بسكين من ذهب تقولون حرام فأنتم أحسن من الله إذن! وهذا على فلسفة الشيطان ووحي إبليس استدل بها كفار مكة على اتباع نظام الشيطان وتشريعه وقانونه بدعوى أن ما ذبحه الله أحل مما ذبحه الناس، وأن تذكية الله أطهر من تذكية الخلق، واستدل أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - على تحريم الميتة بوحي الرحمن بقوله - تعالى -: {حرمت عليكم الميتة} {إنما حرم عليكم الميتة} فأدلى هؤلاء بنص من نصوص السماء، وأدلى هؤلاء بفلسفة من وحي الشيطان، ووقع بينهم جدال وخصام، فتولى رب السماء والأرض الفتيا بنفسه فأنزلها قرآناً يتلى في سورة الأنعام معلماً بها خلقه أن كل من يتبع نظاماً وتشريعاً وقانوناً مخالفاً لما شرعه الله على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فهو مشرك بالله كافر متخذ المتبوع رباً. فأنزل الله قوله {ولا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه} من الميتة أي وإن قالوا إنها ذكاة الله وأنها أطهر ثم قال {وإنه لفسق} أي إن الأكل من الميتة لفسق أي إنه خروج من طاعة الله إلى طاعة الشيطان {وإن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم} من الكفرة كفار مكة {ليجادلوكم} بوحي من الشيطان ما ذبحتموه حلال وما ذبحه الله حرام فأنتم أحسن من الله، ثم قال وهو محل الشاهد: {وإن أطعتموهم} أي اتبعتموهم في ذلك النظام الذي وضعه الشيطان لأتباعه، وأقام الدليل من وحيه عليه {إنكم لمشركون} بالله متخذون من اتبعتم تشريعه رباً غير الله وهذا الشرك المذكور في قوله {إنكم لمشركون} هو الشرك الأكبر المخرج عن الملة (ملة الإسلام) بإجماع المسلمين وهو الذي أشار إليه بقوله {إنما سلطانه على الذين يتولونه والذين هم به مشركون} وهو الذي صرح به الشيطان في خطبته يوم القيامة المذكورة في قوله - تعالى - {وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم} إلى قوله {إني كفرت بما أشركتموني من قبل} وهو المراد على أصح التفسيرين بقوله {بل كانوا يعبدون الجن} أي يعبدون الشياطين باتباعهم أنظمتهم وتشريعاتهم على ألسنة الكفار وهو الذي نهى إبراهيم عنه أباه {يا أبت لا تعبد الشيطان} أي باتباع ما يقرر لك من نظام الكفر والمعاصي مخالفاً لشرع الله الذي أنزله على رسوله وهذه العبادة هي التي وبخ الله مرتكبها وبين مصيرها الأخير في سورة {يس} بقوله: {ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين}.
فهم ما عبدوه بسجود ولا ركوع ولكن عبدوه باتباع نظام وتشريع وقانون، شرع لهم أموراً غير ما شرع الله، فاتبعوه وتركوا ما شرع الله، فعبدوه بذلك واتخذوه رباً كما بينه النبي - صلى الله عليه وسلم - لعدي ابن حاتم - رضي الله عنه -. وهذا أمر لاشك فيه وهو المراد بقوله {وإن يدعون إلا شيطاناً مريداً} يعني ما يعبدون إلا شيطاناً مريداً أي عبادة نظام وتشريع.
ويقول الله - تعالى -: {ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت} فكل من تحاكم إلى غير ما أنزل الله فهو متحاكم إلى الطاغوت، وهؤلاء قوم أرادوا التحاكم إلى الطاغوت ويزعمون أنهم مؤمنون بالله فيعجب الله نبيه من كذب هؤلاء وعدم حيائهم بقوله: {ألم تر إلى الذين يزعمون} بتعجيبه منهم {يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به} ويريد الشيطان الذي شرع لهم تلك النظم والأوضاع التي يسيرون عليها يريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً.
وأقسم الله - جل وعلا - إقساماً سماوياً من رب العالمين على أنه لا إيمان لمن لم يحكم رسول الله فيما جاء به من الله خالصاً من قلبه في باطنه وسره وذلك في قوله: {فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً}.
فبين الله - جل وعلا - في آيات كثيرة من كتابه أن الحكم له وحده لا شريك له في حكمه، وجاء بكل ما ذكر من اختصاصه بالحكم أوضح العلامات التي يفرق بها بين من يستحق أن يحكم ويأمر وينهى ويشرع ويحلل ويحرم، وبين من ليس له شيء من ذلك، قال - تعالى -: {إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه}، وقال - تعالى -: {وله الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم}، وسنبين لكم أمثلة من ذلك.
من ذلك قوله في سورة الشورى: {وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله}، ثم إن الله كأنه قال: هذا الذي يكون المرجع إليه والقول قوله والكلمة كلمته حتى يردّ إليه كل شيء اختلف فيه ما صفته التي يتميز بها عن غيره، قال: {وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله}، ثم بيّن صفات من يستحق الحكم والتشريع والتحليل والتحريم والأمر والنهي فقال: {ذلكم الله ربي عليه توكلت وإليه أنيب فاطر السموات والأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجاً ومن الأنعام أزواجاً يذرؤكم فيه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير له مقاليد السموات والأرض يبسط الرزق لمن يشاء ويقدر إنه بكل شيء عليم}.
هذه صفات من له أن يحكم ويحلل ويحرم ويأمر وينهى، أفترون أيها الإخوة أن واحداً من هؤلاء القردة والخنازير الذي يضعون القوانين الوضعية أفيهم واحد يستحق هذه الصفات - التي هي صفات من يحكم ويحلل ويحرم ويأمر وينهى؟ ومن الآيات الدالة على هذا النوع قوله - تعالى - في سورة القصص: {وهو الله لا إله إلا هو له الحمد في الأولى والآخرة وله الحكم وإليه ترجعون}. ثم بين من له الحكم فقال: {قل أرأيتم إن جعل الله عليكم الليل سرمداً إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بضياء أفلا تسمعون. قل أرأيتم إن جعل الله عليكم النهار سرمداً إلى يوم القيامة من إله غير الله يأتيكم بليل تسكنون فيه أفلا تبصرون. ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون}.
هل من القردة والخنازير الذي يضعون النظم ويزعمون أنهم يرتبون بها علاقات الإنسان ويضبطون بها شئونه، هل من هؤلاء من يستحق أن يوصف بهذه الصفات التي هي صفات من له أن يحكم ويأمر وينهى ويحلل ويحرم؟ ومن ذلك قوله - تعالى - في أواخر سورة القصص: {ولا تدع مع الله إلهاً آخر لا إله إلا هو كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون}. والآيات في ذلك كثيرة.
والحال أن التشريع لا يكون إلا للأعلى الذي لا يمكن أن يكون فوقه أمير ولا ناهٍ, ولا متصرف، فهو السلطة العليا، أما المخلوق الجاهل الكافر المسكين فليس له أن يحلل أو يحرم، والعجب كل العجب من قوم كان عندهم كتاب الله - عز وجل - وورثوا الإسلام عن آبائهم وعندهم هذا القرآن العظيم والنور المبين وسنّة خير الخلق - صلى الله عليه وسلم - وقد بين الله ورسوله لهم كل شيء ومع ذلك يعرضون عن هذا لاعبين لأنه بزعمهم لا يحسن القيام بشؤون الدنيا بعد تطوراتها الراهنة!! يطلبون الصواب في زبالات أذهان الكفرة الخنازير وهم لا يعلمون شيئاً، وهذا من طمس البصائر والعياذ بالله ولا يصدق به إلا من رآه، ولكن الخفافيش يعرضون عن القرآن الكريم، فالقرآن العظيم نور عظيم والخفّاش لا يكاد يرى النور، فالخفافيش أعماها النور بضوئه وهي لا ترى إلا في الليل المظلم.
فهذا القرآن العظيم ينصرفون عنه وترى الواحد الذي هو مسئول عنهم يعلن في غير حياء من الله ولا حياء من الناس بوجه لا ماء فيه وبكل وقاحة أنه يحكم في نفسه وفي الناس الذين هم رعيته ومسئول عنهم يحكم في أديانهم وفي أنفسهم وفي عقولهم وفي أجسادهم وفي أموالهم وفي أعراضهم قانوناً أرضياً وضعه خنازير الكفرة الجهلة الذين هم من الكلاب والخنازير أمثالهم، والذين هم أجهل خلق الله معرضين عن نور السماء الذي وضعه الله - جل وعلا - على لسان خلقه! هذا من طمس البصائر لا يصدق به إلا من رآه والعياذ بالله، اللهم لا تطمس بصائرنا ولا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا.
اعلموا أيها الإخوة أن كل من يتعالى أمام الخالق - جل وعلا - بلا حياء في وجهه، إنه يعرض عما أنزل الله على محمد - صلى الله عليه وسلم - مدعياً أنه لا يقدر أن يقوم بتنظيم علاقات الدنيا، يطلب النور والهدى في زبالات أذهان الخنازير الكفرة الفجرة، والذين هم جهلة في غاية الجهل، اعلموا أنه هو وفرعون وهامان وقارون في الكفر سواء لأنه يعرض عن الله وعن تشريع الله فيفضل عليه تشريع الشيطان ونظام إبليس الذي شرعه على ألسنة أوليائه، وليس له نصيب في الإيمان بوجه من الوجوه كما رأيتم الآيات الكثيرة الدالة على ذلك وتعجيب الله نبيه من ادعائهم الإيمان، فعلى المسلمين جميعاً أن يعلموا ويعتقدوا ونحن نقول بلا شك يجب على كل مسلم كائناً من كان أن يعلم أنه لا حلال إلا ما أحله الله، ولا حرام إلا ما حرمه الله، ولا دين إلا ما شرعه الله فمن سوى الله لا تحليل له ولا تحريم لأنه عبد مسكين ضعيف مربوب، عليه أن يعمل بما يأمره به ربه فينتفع بما شرعه ربه وهذا معنى قوله اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد