رمضان والأمة بين عامين


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الخطبة الأولى

 

أما بعد أيها الإخوة المؤمنون:

اكتمل القمر وانتصف الشهر، واقتربت العشر..وكل بداية تمضي إلى منتهاها، وتصل إلى غايتها، والعاقل المتدبر من يفكّر في العواقب، ومن يستعد للخواتم، ومن لا ينقطع في أثناء السير، وكل مشمر له عزم ونية خالصة يوشك - بإذن الله - جل وعلا - أن يتحقق له وعد ربه..قال - تعالى -: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا}.

 

ولا شك - أيها الإخوة الأحبة - أننا ننتظر في مثل هذا المقام أن يكون مختصاً بالحديث عن مزيد الطاعة والعبادة، والأجر والفضيلة فيما بقي من هذا الشهر العظيم، وفي عشره الأواخر على وجه الخصوص.. وهو أمر مطلوب ومرغوب، وجدير أن نتحدث عنهº ولكنني أعلم أن كثيراً مما يذكر في هذا الموضوع يكاد يكون محفوظاً في معرفة أن المصطفى - صلى الله عليه وسلم - كانت إذا دخلت العشر أحيا ليله، وأيقظ أهله، وشد المئزر.. وأنه - عليه الصلاة والسلام - كان يعتكف في كل عشرٍ, أخيرة من شهر رمضان، وأنه كان يخلي بينه وبين الخلائق ويتفرغ لصلته وما بينه وبين الخالق - سبحانه وتعالى -.

 

وكلنا يعرف ويستطيع ويجيد أن يتحدث عن ليلة القدر وفضيلتها، وما ورد من أنها في أوتار الشهر.. وذلك أمر نحتاج أن نتواصل به، وأن نتذكره لاسيما وأن صور من الواقع - للأسف الشديد - تعارضه وتناقضه وتخالفه، فعشر الذكر والتذكر والاعتبار نراها عشر اللهو والتسوق والانشغال، ومع عشر الليل الذي يحيى بالتلاوة والدعاء والركوع والسجود نرى العشر التي تشغل بشراء الأحذية والبحث عن الأكسية، والاستعداد للأطعمة إلى غير ذلك مما هو معلوم!

 

ومع كل هذه المقدمة التي أحدثكم بها إنني لن أتحدث عن العشر، ولا عن فضلها، ولا عن ليلة القدر وأجرها لما ذكرته من المعرفة، ولأنكم ستسمعون ذلك خلال الأيام القادمات في كل الكلمات والمواعظ.. غير أن وقفتنا اليوم عن رمضان والأمة بين عامين.. أليس جديراً بنا أن نتفكر في دور رمضان وأثر فريضة الصيام في أمة الإسلام.. ليس في الأفراد لِما يكثرون من تلاوة القرآن، وما يزيدون من صلاة الليل، وما يسعون إليه من أمور الخير هنا أو هناك.. لكن في تغير أحوال الأمة كلها.

أليس جديراً بنا - ونحن نمضي وتمر بنا الأيام وتتوالى الأعوام - أن ننظر إلى مسيرتنا، ونقوّم ما اعوج منها، ونكمل ما نقص منها، ونستدرك ما فات منها.. هذه نظرات عامة، ووقائع حاضرة، وبين صورٍ, من واقعٍ, مؤلم تبزغ أنوار وبشريات لمستقبل مشرق بإذن الله - جل وعلا -..

 

رمضان والوحدة:

وحدة في العباداتº فالأمة كلها تصوم الشهر في وقت واحد، وعلى صفة وهيئة واحدة، ووفق متابعة رسول الهدى - صلى الله عليه وسلم - واحدة.. إنها أمة تصوم وتصلي وتزكي وتعتمر وتتلو القرآن، وتكثر الذكر وتعظم الدعاء، وتجتهد في الابتهال، وتتواصل في التضرع.. إنها أمة يقول لها رمضان ما جاء في القرآن، قال - تعالى -: {وأن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقون}.

 

إنها الأمة التي يذكرها رمضان بأن لها إلهاً واحداً، لا تخضع إلا له، ولا تخشى إلا منه، ولا ترجو إلا إياه، ولا تعتمد إلا عليه.. ليس في قلبها رهبة من الخلق وإن عظمت قوتهم، ليس في نفوسها ذل للمخلوقين وإن عظمت أعطياتهم.. إنها أمة العبادة، أمة واحدة يجمعها التعبد لله - سبحانه وتعالى -، ووحدة في المشاعر.. وكلنا نردد هذا القول فنقول: إننا في رمضان نشعر بشيء من ألم الحرمان، ونتذكر الفقير والمسكين.. ولكننا كذلك في وحدة مشاعرنا تشدنا هذه المشاعر إلى أن نرتبط بكل مسلم على ظهر الأرض من أقصى الصين شرقاً إلى أقصى المغرب غرباً، ونذكر كل دمعة تذرفها أمُّ فلسطينية، وكل دمٍ, يراق على أرض العراق، وكل بيت يهدم فوق رؤوس ساكنيه، وكل جريمة ترتكب في حق أمتنا هنا أو هناك، ألم يكن رمضان هو الذي يوحّد مشاعرنا، ويربط قلوبنا، ويجدد وحدتنا، ويقوّي آصرتنا، ويذّكرنا بتاريخنا، ويلزمنا باستعادة ترتيب صفوفناº فإن رمضان يمر علينا وحينئذٍ, لا نخرج منه إلا بآيات تتلى، وأذكار تتردد، وركعات تصلى، وربما تكون القلوب ليست فيها حاضره، والنفوس ليست بها متأثرة.. فهل نرضى لأنفسنا ولأمة محمد - صلى الله عليه وسلم - خير أمة أخرجت للناس أن يكون حظها من فريضة من الفرائض، وركن من الأركان هو هذا الزاد الضئيل، والتأثير الخافق الذي لا يكاد يبين لننظر بين عامٍ, مضى وعام أتى ما الذي في أمتنا جرى؟!

 

ولنتنبه إلى صور أخرى في رمضان:

 

رمضان والتكافل:

ألسنا اليوم في مجتمعاتنا المحدودة نرى المال يهدى للفقير، والمواسات تبذل للحزين، وصور من التكامل والتكافل تجدد وتحرك المعاني المؤثرة المعبرة فيما وصف ومثّل به رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لأمة الإسلام: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً)، (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى).

فأين تكافلنا خارج نطاق حيّنا، وخارج نطاق مسجدنا ومدينتنا وبلدنا؟ إنه تكافل أمة الإسلام كلها! فهل نسينا ما كنا نذكره من قبل ونتحدث عنه بكل قوة وجرأة وحرقة.. عن فلسطين! واليوم تجددت لنا أحداث العراق ولم تكن من قبل، وغداً وبعد غدٍ,.. لكن الأصوات خفتت، والألسن خرست، والأقلام أغلقت، ولا يكاد المرء يسمع شيئاً من ذلك، وإن سمع فعلى ندره وربما بتخوف كأن الأمور تحتاج منا إلى تأمل أكبر..

 

رمضان والانتصار:

حقيقة مهمة لا بد أن نقف عندها وقفات كثيرة.. انتصار على الشهوات والملذات، انتصار على علل النفس والنزغات، انتصار على الضغائم والخصومات.. تلك هي حقيقة هذا الشهر في أمة الإسلام إذا وعدت وأدركت المقاصد العظيمة والحكم الجليلة لهذه الفريضة.

انتصار لهذا الشهر على سلطان شهوة الجسد، وعلى الكِبر والغرور في النفس، وعلى العادات والتقاليد المخالفة في المجتمع، وعلى السمعة والرياء في الأعمال، وعلى القوة والأذى من الأعداء.

إن رمضان الذي يحقق انتصار المؤمن في نفسه، وانتصاره على ضعفه، وانتصاره على شيطانه يحقق في حقيقة الأمر انتصار الأمة على ضعفها وذلها وخذلانها واستسلامها لأعدائها.. وذلك الذي تجدد في يوم بدر، ونحن قريبون بذكراهº اليوم الذي سماه الله - عز وجل - يوم الفرقان.. وفتح مكة الذي كان نهاية لصورة الجاهلية والظلم والطغيان، وما جرى بعد ذلك من فتوح وانتصارات في رمضان..

نعم قد يكون اتفاقاً تذكارياً! لكنه قطعاً تجدد في معاني الانتصار الحقيقية في أوصال الأمة بدءاً من قوة إيمانها، ومروراً بقوة وحدتها، وانتهاء بقوتها المادية العملية.

واليوم نتساءل: هل هذه المعاني موجودة في حياة أمتنا؟ ما هو الواقع بين عام مضى وعام أتى؟

أستبيحكم عذراً - ونحن في هذه الأيام التي تهش فيها النفوس، وتبش وتفرح القلوب، وتطرب لما في هذا الشهر والعشر من الخير - أن نذكر شيئاً من المآسي والأحزانº لأن الواقع يفرض علينا أن لا نكون أسرى لمجرد ما نحن فيه في دواتنا أو مجتمعاتنا فالدائرة أوسع.

 

وقفة سريعة أمام أرقام لقضيتنا الأولى في أرض فلسطين، خلال فترات الانتفاضة الجهادية المباركة.. أريد منها في ومضات سريعة أن نشير إلى أن الأمر ما يزال متفاقماً، وهناك صور تزيده ظلمة وظلاماً وحيرةً وأسفاً وألماً..

أكثر من ثلاثة آلاف وخمسمائة شهيدº منهم نحو سبعمائة من الطلبة، وواحد وثلاثون جنيناً.. قتلوا على الحواجز التي منعت وصول أمهاتهم إلى المستشفيات، ومثلهم أكثر من مئة مريض..

واحد خمسة وخمسون ألف جريح، وأكثر منهم ألفان وخمسمائة وأربعون امرأة، وأكثر من ستة آلاف إعاقة، وأكثر من أربعة آلاف وستمائة إصابة لطلبة، ونحو من أربعمائة إصابة لأهل الإسعاف من الممرضين، ثمانية آلاف أسير إلى يومنا هذا يقبعون في سجون الظلم والإرهاب في كيان الصهيونية، منهم سبعة وتسعون قد أمضوا عشرون عاماً، ومنهم فئات من صغار السن ما بين السادسة عشر والسابعة، ومنهم ست فتيات قاصرات يُعتدى عليهن ويؤذين بكل صور الإيذاء.

وأضف إلى ذلك نحو ثمانمائة من الأطفال الشهداء، وأكثر من تسعين بالمائة من أطفال فلسطين يشعرون في كل لحظة بأنهم معرضون للأذى أو القتل، ونحو ستة آلاف وسبعمائة بيت مدمر تدميراً كاملاً ونحو ذلك العدد بأقل من المباني التي هدّمت، ونحو عشرة آلاف شردوا من بيوتهم، وأكثر من مليون ونصف شجرة دُمّرت، وأكثر من مائتين وثمانمائة وثمانين بئراً هدّمت، وأكثر من آلافٍ, وآلافٍ, من رؤوس الأغنام والأبقار أتلفت وقتلت.. والمدارس التي أغلقت تجاوزت ألفاً، والمعاهد والجامعات العليا تجاوزت عشراً وستة وأربعون في المائة.. من إخواننا في تلك الأرض الطاهرة لا يأكلون في يومهم إلا وجبة واحدة، ونحو ثلاثة عشر وأربعة من عشرة في المائة مصابون بسوء التغذية.

والجدار الذي يسمى جدار الفصل العنصري نسمع عنه ولا نعلم أنه قد اقتطع نحو ستة عشر بالمائة من الأراضي، وأنه قد أثنى وأنهى وجود مائة قرية من قرى إخواننا في فلسطين، وأنه قد استولى وسبى على أكثر من خمسين في المائة من مصادر المياة في غزة.

 

أقول: أيها الإخوة الأحبة أليس هذا جديراً بأن يكون حديثنا أيضاً في رمضان! أم أننا نتحدث عن عدد الركعات، وأصوات الأئمة وحسن الدعاء، وكأن عبادتنا ليست إلا في هذه الجوانب، وكأن دور هذا الشهر ليس إلا في هذه الميادين، وكأننا ننسى الحقائق وليس هذا هو المؤلم فحسب! بل اليوم وخلال هذا العام نجد تغيراً كبيراًº فالعمليات الاستشهادية أصبحت بنوع من شبه الإجماع انتحارية! ومساعدة الذين هُدّمت بيوتهم، أو قتل عائلهم هو تمويل للإرهاب! والتعليم الإسلامي وتعليم أحكام الشريعة ضرب من التطرف والتشدد! بل وحلقات القرآن وتحفيظه بؤر للإرهاب والعنف! وسيروا وراء ذلك فإنكم ستجدون أن تغيراً كبيراً قد جرى في عامٍ,، وأصبحنا اليوم تمر علينا الأحداث ونسمعها كما يشرب أحدنا كأس ماء!

ألسنا بالأمس سمعنا واليوم سنسمع كم قتل في العراق، وكم استشهد في فلسطين، وكم حصل هنا وكم جرى هناك وكأن الأمر يمضي بل ونحن نكرس عكسه وضده في واقعنا.

 

وأنتقل بكم إلى صورة أخرى أرصدها خلال عام - ولست هنا دارساً ولا محللاً الواقع الإعلامي - قنوات أكثر، وفجور أكبر، وتطبيع أظهر وإلهاء.. ألسنا نرى ذلك ونتحدث به في مجالسنا، ولكنه يسري في صفوفنا ويتسلل إلى بيوتنا، ويؤثر في شبابنا وشاباتنا، ويغير في كلماتنا ومصطلحاتنا، لم نعد نسمع اليوم العدو الصهيوني وإنما أصبحنا نسمع ونرى ونشاهد من يتحدث من أولئك المغتصبين والمحتلين، ويؤتى بهم على أنهم محللون أو أنهم كذا أو كذا إلى غير ذلك!

يموت المسلمون ولا نبالي *** ونهرف بالمكارم والفصال

ونحيى العمر أوتاراً وقصفاً *** ونحيى العمر في قيلٍ, وقال

وننسى إخوة في الله ذرت به *** الكف الزمان على الرمال

 

ألسنا نرى القنوات ترقص وتغني، ومن بعد لنشرة الأخبار الدبابات تقصف وتدمر؟ ألسنا نرى الفوازير والمسابقات المخزية والمخجلة في بعض القنوات - بل ونحن نسمع ونرى من يطعن في كل هذه المعانيº مروراً بتعليمنا الإسلامي وانتهاءاً بحجاب نسائنا وعفة بناتنا بلسانٍ, عربي مبين - في قنواتنا الفضائية الكثيرة الشهيرة؟

أليس ذلك جدير بأن يلفت نظرنا؟ وأنتقل إلى واقع اجتماعي في قضية المرأة تبرجاً واختلاطاً مصحوب بتبرير وتشريع تشريع قانوني، أو تشريع من فتاوى وأقاويل باطلة! وفي الأسرة تفكك وانحلال، وفي الشباب تميع واختلال، وفي العلاقات الاجتماعية تقطع وانشغال، وفي الوحدة المطلوبة تنصر واستقلال وذلك له حظ حقيقي في واقع الأمر.

ولسنا نقول ذلك تأييساً ولا تهويلاًº ولكن لئلا نغفل عن واقعنا، ونعيش في لذةٍ, من أمورٍ, حسنة ممدوحة لكنه لا ينبغي أن يكون الاقتصار عليها

نحن يا شهرنا العظيم غدونا *** أرنبات تفرن من صياد

وغدت خيمة الأخوة في الريح *** بلا أعمد ولا أوتاد

كتبتنا الأيام في هامش السطر *** روتنا من غير ما إسناد

 

ولعل بعضكم - وأنا قد قلت ذلك لنفسي - لِمَ مثل هذا الحديث؟ وهل أغلقنا نوافذ الأمل وأطفأنا أنواره؟ فأقول: لا! لكن الشق الأول هو أننا لا بد أن نفتح أعيننا، وأن نرى ما حولنا، وأن ندرك تعاظم الأخطار التي تهدد أمتنا، وأن نقول ذلك وأن نذكّر به..

يا أمتي إن قسوتي اليوم معذرةٌ *** فإن كفي في النيران تلتهب

وإن قلبي قد طاف الرجاء به *** وقد تدفق منه الماء والعشب

فكم يعز بقلبي أن أرى أمماً *** طارت إلى المجد والعربان قد رسبوا

 

ومع ذلك - أيها الأخوة الأحبة المؤمنون - ليس هذه هي الصورة، بل ثمة صورة أخرى تبشرنا بخير.. تلك هي التي ننظرها في واقع أمتنا عموماً، وفي مثل هذه المناسبات والمواسم الإيمانية والعبادية خصوصاً.

 

نحن بحمد الله اليوم نجد صوراً أخرى.. نجد إيماناً في القلوب يقوى، وعزةً في النفوس تزأر، وشموخاً في مواقف إخواننا المجاهدين في أرض فلسطين صوراً عجيبةً فريدة.. كل الذي ذكرناه يقابله أنهم أبلوا في العدو بلاء حسناً، وأنهم أقضوا مضجعه، وأنهم خربوا تجارته، وأفسدوا سياحته، وأدخلوا الرعب في قلوب أبنائه، وخلطوا أوراقه السياسية، وأوقعوا من القتلى في صفوفه ما لم يقتل بمجموع كل الحروب التي كانت مع العدو الصهيونية في الحروب العربية الرسمية كما يقال.

 

ونرى فيه وفي نسائه وفي شبابه صور تذل لها أعناقنا إعزازاً وكراماً لها، وكذلك خجلاً من مواقفنا أمام تلك المواقف الشامخة البطولية العظيمة!

نحن نرى جيلاً من العقيدة والإيمان يبزغ في كل بقاع الأرض، وكلما اشتدت قبضة الظلم والطغيان على أمتنا، كلما تفجرت ينابيع اليقين والإيمان في صدور أبنائها، وكلما عظمت صور المقاومة والجهاد والمغالبة لأعداء الله، وصور الرجوع والتمسك والاستمساك بدين الله.. ألسنا نرى اليوم المساجد تُملأ أكثر مما كانت من قبل؟ ألسنا نرى القرآن يتلى أكثر مما كان من قبل؟ ألسنا نرى مكة - حرسها الله - عز وجل - ومسجدها الحرام يغص بالناس في زحام شديد لم يكن مشهوداً من سنوات قريبة ماضية؟

كل ذلك من مبشرات الخير التي نراها في أمتنا، والتي نستشرف فيها أملاً مشرقاً، ونستشرف فيها تعرضاً لسنة الله - عز وجل -.

قال - تعالى -: {إن الله لا يغير ما بقومٍ, حتى يغيروا ما بأنفسهم}

ونرى فيها اقتراباً من تحققنا بما أراد الله منا ليتحقق لنا ما وعدنا الله به، قال - تعالى -: {إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم}

وذلك ما لا نغفل عنه.. لكننا - وللأسف الشديد - نغفل عن الجانب الأول، والإعلام يصرفنا عنه، والسياسة تلبسه علينا، ونحن ربما ننصرف أو ننجرف وراء هذا التيار أو ذاك.. حقيق بنا وجدير بنا في هذا الشهر أن ننظر إلى أحوال أمتنا، وأن نصحح مسارها.. وتصحيح المسار يبدأ منا كأفراد، وذلك ما نقوله الآن ونحن في منتصف الشهر وقرب بداية العشر.

ما هي أوضاعنا التي كنا نشكو منها، والتي تحدثنا عنها بأساً بعد رحيل رمضان الذي مضى؟ قولوها الآن وأعيدوها مرة أخرى، وقلتم وقلنا جميعاً بعد انقضاء شهر رمضان الذي مضى لئن جاءت العشر القادمة إن شاء الله فإنني لن أفعل ولن أفعل ولن أفعل، وإذا جاءت سأفعل وسأفعل وسأفعل.. ها هي الآن تأتينا من جديد فهل نحن نقول ولا نفعل.. أو نحن نضحك على أنفسنا أو نخادع ربنا!

 

الخطبة الثانية:

 

أما بعد أيها الأخوة المؤمنون:

ولعلي أيها الإخوة الكرام هدفت من مثل هذا الحديث إلى أمرين اثنين مهمين:

أولهما أن نوسع المفهوم الصحيح للعبادةº فليست مقتصرة على الركعات ولا الزكوات ولا الدعوات ولا التلاوات.. بل هي أوسع من ذلك فهي تشمل سائر جوانب الحياة.. قال - تعالى -: {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين * لا شريك له وفي ذلك أمرت وأنا أول المسلمين}

والغاية التي خلقنا الله - عز وجل - لها وهي العبادة لا تنحصر في وقت قصير في المسجد، ولا في شهرٍ, واحدٍ, من عامٍ,، ولا في أوقات محدودة.. ثم نمضي غافلين عن أننا عباد لله - عز وجل - {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}

إن هماً تحمله في قلبك إزاء ما يقع لأمتك هو درب من العبادة.. إن تفكيراً تعمله في فكرك للخروج من أزمة أو مأزق في هذه الأمة هو ضرب من أعظم ضروب العبادة.. إن سعياً تسعاه لتسد حاجةً أو تسد ثغرةً أو ترمم ثلمه هو ضرب عظيم من أضرب العبادة.. وذلك ما أردت أن أنبّه إليه أولاً.

 

وثانياً أن ننتبه إلى أمور تتسلل إلى قلوبنا وعقولنا وكلماتنا وألسنتناº فتضعف قوة هذه المشاعر التعبدية على هذا النحو الواسع في المفهوم، وتضعف الانتماء والارتباط في الأمة.. فنعود ونحن نريد حالنا ووضعنا وننسى إخواننا هنا وهناك وتتقطع الأواصر ليس بالمشاركة المباشرة، بل حتى بالمواصلة المالية، بل حتى بالمواصلة بالتذكر والدعاء وغير ذلك من صور كثيرة تحتاج منا إلى مثل هذه المراجعة، وهذا الذي لعلي أردت أن أصل به إليكم وأوصله إلى نفسي أولاً..

 

وأما حديثنا عن العشر والفضل والأجر فمبذول ومطلوب، ولكننا لا نريد فقط أن نريح أنفسنا، وأن نتحدث بذلك ثم ننصرف وكأنما قد أكملنا واجبنا، تجاه أمتنا وكأننا قد أدينا ما علينا تجاه ديننا، وكأننا قد نصرنا الله - عز وجل - وننتظر أن نتنزل علينا نصر ربنا ذلك ما أحسب أنه جدير باهتمامنا.

نسأل الله - عز وجل - أن يردّنا إلى دينه رداً جميلاً. 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply