الردة: الأسباب والعقوبات وتهافت الشبهات


بسم الله الرحمن الرحيم

 

إن الله  - تعالى - أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليدل الناس على الإسلام الذي هو أكمل الشرائع، وأمره (أن يقاتل الناس حتى يدخلوا في الإسلام ويلتزموا طاعة الله ورسوله. ولم يؤمر أن ينقب عن قلوبهم ولا أن يشق عن بطونهم، بل تُجرى عليهم أحكام الله في الدنيا إذا دخلوا في دينه، وتجرى أحكامه في الآخرة على قلوبهم ونياتهم، فأحكام الدنيا على الإسلام، وأحكام الآخرة على الإيمان.

ولهذا قَبِلَ إسلام الأعراب، ونفى عنهم أن يكونوا مؤمنين، وقَبِلَ إسلام المنافقين ظاهراً، وأخبر أنّه لا ينفعهم يوم القيامة شيئاً، وأنّهم في الدرك الأسفل من النار.

فأحكام الله  - تعالى - جارية على ما يظهر للعباد ما لم يقم دليل على أن ما أظهروه خلاف ما أبطنوه)(1).

فانقسم الناس تجاه دعوته إلى: المؤمنين الصادقين، والكفار الظاهرين، والمنافقين المستترين. فعامل كلاً بما أظهر. ثم إن أهل الإيمان انقسموا بحسب تفاوت درجاتهم في الإيمان والعمل الصالح إلى درجات كما قال-تعالى-: {ثُمَّ أَورَثنَا الكِتَابَ الَّذِينَ اصطَفَينَا مِن عِبَادِنَا فَمِنهُم ظَالِـمٌ لِّنَفسِهِ وَمِنهُم مٌّقتَصِدٌ وَمِنهُم سَابِقٌ بِالـخَيرَاتِ بِإذنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الفَضلُ الكَبِيرُ} [فاطر: 32].

 

حكم من كفر بعد الإيمان:

وحكم على من أظهر كفره من المنافقين، أو كفر من المسلمين بالقتل كفّاً لشرهم وردعاً لغيرهمº فإنّ محاربتهم للإسلام بألسنتهم أعظم من محاربة قاطع الطريق بيده وسنانهº فإن فتنة هذا في الأموال والأبدان، وفتنة هذا في القلوب والإيمان، وهذا بخلاف الكافر الأصليº فإن أمره كان معلوماً، وكان مظهراً لكفره غير كاتم له، والمسلمون قد أخذوا حذرهم منه، وجاهروه بالعداوة والمحاربة، ولو تُرك ذلك الزنديق لكان تسليطاً له على المجاهرة بالزندقة والطعن في الدين ومسبّة الله ورسوله. وأيضاً فإن من سب الله ورسوله، وكفر بهما فقد حارب الله ورسوله وسعى في الأرض فساداًº فجزاؤه القتل حَدّاً. ولا ريب أن محاربة الزنديق لله ورسوله وإفساده في الأرض أعظم محاربة وإفساداًº فكيف تأتي الشريعة بقتل من صال على عشرة دراهم ولا تأتي بقتل من صال على كتاب الله وسنة نبيّه بين أظهر المسلمين وهي من أعظم المفاسد؟ (2).

وبين يديك ـ أخي القارئ الكريم ـ ورقات قليلة في جريمة الردّة تعرض جانباً من نظرة الإسلام إليها وإلى عقوبتها سائلاً الله - تعالى - أن ينفع بها.

 

تعريف الردّة:

الردّة في اللغة: الرجوع عن الشيء والتحول عنه، سواء تحوّل عنه إلى ما كان عليه قَبلُ، أو لأمرٍ, جديد.

ويقال: ارتدّ عنه ارتداداً، أي: تحوّل.

ويقال: ارتد فلانٌ عن دينه إذا كفر بعد إسلامه(3).

وتدل في الاصطلاح الشرعي: على كفر المسلم بقول أو فعل أو اعتقاد(4).

 

وقوع الردَّة وحصولها:

الردّة عن الإسلام والتحوّل عنه ـ أعاذنا الله منها وثبتنا على دينه ـ أمر ممكن الحصولº فقد ذكرها الله - تعالى - في كتابه محـذراً منـها، ومبيـناً عاقبتها. قـال - تعالى -: {وَمَن يَرتَدِد مِـنكُم عَن دِينِـهِ فَيَمُت وَهُوَ كَافِـرٌ فَأُولَئِـكَ حَبِطَـت أَعمَالُهُم فِي الدٌّنـيَا وَالآخِـرَةِ} [البقرة: 217].

وقال  - تعالى -: {يَا أَيٌّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرتَدَّ مِنكُم عَن دِينِهِ فَسَوفَ يَأتِي اللَّهُ بِقَومٍ, يُحِبٌّهُم وَيُحِبٌّونَهُ} [المائدة: 54].

 

وقال - تعالى -: {مَن كَفَرَ بِاللَّهِ مِن بَعدِ إيمَانِهِ إلاَّ مَن أُكرِهَ وَقَلبُهُ مُطمَئِنُّ بِالإيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالكُفرِ صَدراً فَعَلَيهِم غَضَبٌ مِّنَ اللَّهِ وَلَهُم عَذَابٌ عَظِيمٌ} [النحل: 106].

إضافة إلى آيات كثيرة تبين هذا المعنى.

كما أخبر - تعالى - عن وقوع الكفر من طائفة من الناس بعد إيمانهم.

قال - تعالى -: {إنَّ الَّذِينَ ارتَدٌّوا عَلَى أَدبَارِهِم مِن بَعدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهُدَى الشَّيطَانُ سَوَّلَ لَهُم وَأَملَى لَهُم} [محمد: 25].

وقال: {وَلَئِن سَأَلتَهُم لَيَقُولُنَّ إنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلعَبُ قُل أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُم تَستَهزِءُونَ * لا تَعتَذِرُوا قَد كَفَرتُم بَعدَ إيمَانِكُم}. [التوبة: 65 - 66]

وقال: {يَحلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَد قَالُوا كَلِمَةَ الكُفرِ وَكَفَرُوا بَعدَ إسلامِهِم} [التوبة: 74].

وقال: {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازدَادُوا كُفراً لَّم يَكُنِ اللَّهُ لِيَغفِرَ لَهُم وَلا لِيَهدِيَهُم سَبِيلاً} [النساء: 137].

كما وقعت الردة في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - في مواقف نذكر منها: قصّة عبيد الله بن جحشº فإنّه كان قد أسلم وهاجر مع زوجته أم حبيبة بنت أبي سفيان إلى الحبشة فراراً بدينه.

 

قالت أم حبيبة: رأيت في النوم عبيد الله زوجي بأسوأ صورةٍ, وأشوهها، ففزعت وقلت: تغيّرت والله حالُهُ! فإذا هو يقول حين أصبح: إنّي نظرت في الدين، فلم أرَ ديناً خيراً من النصرانية، وكُنت قد دنت بها، ثم دخلت في دين محمد، وقد رجعتُ، فأخبرتُهُ بالرؤيا، فلم يحفِل بها، وأكبَّ على الخمر..حتى مات(5).

 

ومنها ما حصل عند تحويل القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة.

 

قال شيخ الإسلام ابن تيميّة: «مما استفاض به النقل عند أهل العلم بالحديث والتفسير والسِّيَر أنّه كان رجال قد آمنوا ثم نافقوا، وكان يجري ذلك لأسباب: منها أمر القبلة لما حُوّلت ارتدّ عن الإيمان لأجل ذلك طائفة، وكانت محنة امتحن الله بها الناس. قال - تعالى -: {وَكَذَلِكَ جَعَلنَاكُم أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيكُم شَهِيداً وَمَا جَعَلنَا القِبلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيهَا إلاَّ لِنَعلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيهِ وَإن كَانَت لَكَبِيرَةً إلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} [البقرة: 143](6).

 

ومنها ما حصل في غزوة تبوك إذ قال رجل في هذه الغزوة: ما أرى قراءنا هؤلاء إلا أرغبنا بطوناً، وأكذبنا ألسنةً وأجبننا عند اللقاء، فرُفع ذلك إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فجاء الرجل إلى رسـول الله - صلى الله عليه وسلم - وقـد ارتحل وركب ناقته، فقال: يا رسول الله! إنما كنا نخوض ونلعب. فقرأ عليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قوله - تعالى -: {أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُم تَستَهزِءُونَ * لا تَعتَذِرُوا قَد كَفَرتُم بَعدَ إيمَانِكُم} وما يلتفت إليه رسول الله - صلى الله عليه وسلم -(7).

وقريب من هذا ما حصل لهشام بن العاص - رضي الله عنه - فإنّه أسلم وتواعد على الهجرة مع عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ثم إنّه حُبِسَ عنه وفُتِن فافتتن.

قال ابن إسحاق: وحدثني نافع عن عبد الله بن عمر عن عمر في حـديثه قال: فكـنا نقول: مـا الله بقـابلٍ, ممن افتتن صرفاً ولا عدلاً ولا توبة، قومٌ عرفوا الله ثم رجعوا إلى الكفر لبلاءٍ, أصابهم!

قال: وكانوا يقولون ذلك لأنفسهم. فلما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة أنزل الله فيهم وفي قولنا وقولهم لأنفسهم: {قُل يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِم لا تَقنَطُوا مِن رَّحمَةِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَغفِرُ الذٌّنُوبَ جَمِيعاً إنَّهُ هُوَ الغَفُورُ الرَّحِيمُ} [الزمر: 53].

 

فقدم المدينة بعد ذلك على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -(8).

والردة في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - لم ترتبط بعداوة الإسلام وحربه، ولكنها كانت مع ذلك ردّة موجبة للخروج عن الإسلام، وموجبة لتجريم فاعلها ولو لزم داره.

بل إن المنافقين في الصدر الأول كان منهم من آمن ثم نافق بعد إيمانه، وهذه ردّة أيضاً.

قال شيخ الإسلام ابن تيميّة: «وكذلك لما انهزم المسلمون يوم أحد وشُجّ وجه النبي - صلى الله عليه وسلم - وكُسرت رُباعيته، ارتد طائفةٌ نافقوا.. قال - تعالى -: {وَمَا أَصَابَكُم يَومَ التَقَى الـجَمعَانِ فَبِإذنِ اللَّهِ وَلِيَعلَمَ الـمُؤمِنِينَ * وَلِيَعلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا} [آل عمران: 166 - 167]. فإن ابن أُبيّ لما انخزل عن النبي - صلى الله عليه وسلم - يوم أُحُد انخزل معه ثلث الناس، قيل: كانوا ثلاثمائة، وهؤلاء لم يكونوا قبل ذلك كلهم منافقين في الباطنº إذ لم يكن لهم داع إلى النفاق.

وفي الجملة: ففي الأخبار عمّن نافق بعد إيمانه ما يطول ذكره»(9).

 

عظم جريمة الردّة:

إنّ أهم مقصد جاء الإسلام بتحقيقه في الناس هو تحقيق توحيد الله والإيمان به ونفي الشرك والكفر والتحذير منهما، وقد جـاء أيضاً بحفظه في نفوس من اعتنقهº وذلك أن العالَم لا يسـتقيم بدونـها، فضـياعها مـهلك للبـشر، وإذا تأمل الإنسان حال البشريّة عند بعثة المصطفى - عليه الصلاة والسلام - فسيجد أنّه بُعِثَ على فترةٍ, من الرسل في زمن تخبطت فيه البشريّة كما وُصفوا في الحديث القدسي: «إنّي خلقت عبادي حنفاء كلهم، وإنّهم أتتهم الشياطين فاجتالتهم(10) عن دينهم، وحرَّمت عليهم ما أحللت لهم، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً، وإنّ الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلاّ بقايا من أهل الكتاب.. »(11).

وهؤلاء البقايا مات أكثرهم قبل مبعثه(12)، فصار الناس في جاهليّة جهلاء من مقالات مبدّلة أو منسوخة أو فاسدة قد اشتبهت عليهم الأمور مع كثرة الاختلاف والاضطراب.

«فهدى الله الناس ببركة نبوّة محمد - صلى الله ع

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply