شهر للثورة فلسفة الصيـام


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

لم أقرأ لأحد قولاً شافياً في فلسفة الصوم وحكمتهº أما منفعته للجسم وأنه نوعٌ من الطب له، وباب من السياسة في تدبيره، فقد فرغ الأطباء من تحقيق القول في ذلكº وكأن أيام هذا الشهر المبارك إن هي إلا ثلاثون حبَّة تؤخذ في كل سنة لتقوية المعدة وتصفية الدم وحياطة أنسجة الجسمº ولكنا الآن لسنا بصددٍ, من هذا، وإنما نستوحي تلك الحقيقة الإسلامية الكبرى التي شرعت هذا الشرع لسياسة الحقائق الأرضية الصغيرةº عاملة على استمرار الفكرة الإنسانية فيها، كي لا تتبدل النفسُ على تغير الحوادث وتبدلها، ولكيلا تجهل الدنيا معاني الترقيع إذا أتت على هذه الدنيا معاني التمزيق.

من معجزات القرآن الكريم أنه يدخر في الألفاظ المعروفة في كل زمن حقائق غير معروفة لكل زمنº فيجليها لوقتها حين يضج الزمان العلمي في متاهته وحيرته، فيشغب على التاريخ وأهله مُستخفاً بالأديان، ويذهب يتتبع الحقائق ويستقصي في فنون المعرفة، ليستخلص من بين كفر وإيمان ديناً طبيعياً سائغاً، يتناول الحياة أول ما يتناول فيضبطها بأسرار العلم، ويوجهها بالعلم إلى غايتها الصحيحة، ويضاعف قُواها بأساليبه الطبيعية، ليحقق في إنسانية العالم هذه الشيئية المجهولة التي تتوهمها المذاهب الاجتماعية، ولم يهتد إليها مذهب منها ولا قاربهاº فما برحت سعادة الاجتماع كالتجربة العلمية بين أيدي علمائها لم يحققوها ولم ييأسوا منها، وبقيت تلك المذاهب كعقارب الساعة في دورتها، تبدأ من حيث تبدأ ثم لا تنتهي إلا إلى حيث تبدأ.

يضطرب الاشتراكيون في أوروبا وقد عجزوا عجز من يحاول تغيير الإنسان بزيادة ونقص في أعصابهº ولا يزال مذهبهم في الدنيا مذهب كتب ورسائل، ولو أنهم تدبروا حكمة الصوم في الإسلام، لرأوا هذا الشهر نظاماً عملياً من أقوى وأبدع الأنظمة الاشتراكية الصحيحةº فهذا الصوم فقر إجباري تفرضه الشريعة على الناس فرضاًº ليتساوى الجميع في بواطنهم، سواء منهم من ملك المليون من الدنانير، ومن ملك القرش الواحد، ومن لم يملك شيئاًº كما يتساوى الناس جميعاً في ذهاب كبريائهم الإنسانية بالصلاة التي يفرضها الإسلام على كل مسلمº وفي ذهاب تفاوتهم الاجتماعي بالحج الذي يفرضه على من استطاع.

فقر إجباري يراد به إشعار النفس الإنسانية بطريقة عملية واضحة كل الوضوح أن الحياة الصحيحة وراء الحياة لا فيها، وأنها إنما تكون على أتمها حين يتساوى الناس في الشعور لا حين يختلفون، حين يتعاطفون بإحساس الألم الواحد لا حين يتنازعون بإحساس الأهواء المتعددة.

ولو حققت رأيت الناس لا يختلفون في الإنسانية بمقولهم، ولا بأنسابهم، ولا بمراتبهم ولا بما ملكواº وإنما يختلفون ببطونهم وأحكام هذه البطون على العقل والعاطفةº فمن البطن نكبة الإنسانية، وهو العقل العملي على الأرض، إذا اختلف البطن والدماغ في ضرورة مد البطن مدة من قوى الهضم فلم يبق ولم يذر، ومن هاهنا يتناوله الصوم بالتهذيب والتأديب والتدريب، ويجعل الناس فيه سواء ليس لجميعهم إلا شعور واحد وحس واحد وطبيعة واحدة، ويُحكم الأمر فيحول بين هذا البطن وبين المادة، ويبالغ في إحكامه فيمسك حواشيه العصبية في الجسم كله يمنعها تغذيتها ولذتها حتى نفثة من دخينة وبهذا يضع الإنسانية كلها في حالة نفسية واحدة تتلبس بها النفس في مشارق الأرض ومغاربها، ويطلق في هذه الإنسانية كلها صوت الروح يُعَّلم الرحمة ويدعو إليها، فيشبع فيها بهذا الجوع فكرة معينة هي كل ما في مذهب الاشتراكية من الحق، وهي تلك الفكرة التي يكون عنها مساواة الغني للفقير من طبيعته، واطمئنان الفقير إلى الغني بطبيعتهº ومن هذين: (الاطمئنان والمساواة) يكون هدوء الحياة بهدوء النفسين اللتين هما السلب والإيجاب في هذا الاجتماع الإنساني.

وإذا أنت نزعت هذه الفكرة من الاشتراكية بقي هذا المذهب كله عبثاً من العبث في محاولة جعل التاريخ الإنساني تاريخاً لا طبيعة له.

من قواعد النفس أن الرحمة تنشأ عن الألم، وهذا بعض السر الاجتماعي العظيم في الصوم، إذ يبالغ أشد المبالغة، ويدقق كل التدقيق في منع الغذاء وشبه الغذاء عن البطن وحواشيه مدة آخرها آخر الطاقة، فهذه طريقة عملية لتربية الرحمة في النفس، ولا طريقة غيرها إلا النكبات والكوارث، فهما طريقتان كما ترى مبصرة وعمياء، وخاصة وعامة، وعلى نظام وعلى فجأة.

ومتى تحققت رحمة الجائع الغني للجائع الفقير، أصبح للكلمة الإنسانية الداخلية سلطانها النافذ، وحكم الوازع النفسي على المادةº فيسمع الغني في ضميره صوت الفقير يقول:\"أعطني\"ثم لا يسمع منه طلباً من الرجاء، بل طلباً من الأمر لا مفر من تلبيته والاستجابة لمعانيه كما يواسي المبتلى من كان في مثل بلائه.

أنه معجزة إصلاحية أعجب من هذه المعجزة الإسلامية التي تقضي أن يُحذف من الإنسانية كلها تاريخ البطن ثلاثين يوماً في كل سنة، ليحل في محله تاريخ النفس، وأنا مستيقن أن هناك نسبة رياضية هي الحكمة في جعل هذا الصوم شهراً كاملاً من كل اثني عشر شهراً، وأن هذه النسبة متحققة في أعمال النفس للجسم، وأعمال الجسم للنفسº كأنه الشهر الصحي الذي يفرضه الطب في كل سنة للراحة والاستجمام وتغيير المعيشة لأحداث الترميم العصبي في الجسم، ولعل ذلك آت من العلاقة بين دورة الدم في الجسم الإنساني ويبن القمر منذ يكون هلالاً إلى أن يدخل في المُحاقº إذ تنتفخ العروق وتربو في النصف الأول من الشهر كأنها في (مَدّ) من نور القمر مادام هذا النور إلى زيادة ثم يراجعها (الجزر) في النصف الثاني حتى كأن للدم إضاءة وظلاماً، وإذا ثبت أن للقمر أثراً في الأمراض العصبية، وفي مد الدم وجزره، فهذا من أعجب الحكمة في أن يكون الصيام شهراً قمرياً دون غيره.

وفي ترائي الهلال ووجوب الصوم لرؤيته معنى دقيق آخر، وهو – مع إثبات رؤية الهلال وإعلانها- إثبات الإرادة وإعلانها، كأنما انبعث أول الشعاع السماوي في التنبه الإنساني العام لفروض الرحمة والإنسانية والبر.

وهنا حكمة كبيرة من حِكَم الصوم، وهي عمله في تربية الإرادة وتقويتها بهذا الأسلوب العملي الذي يُدرب الصائم على أن يمتنع باختياره من شهواته ولذة حيوانيته ويُبقيه مصراً على الامتناع متهيئاً له بعزيمته، صابراً عليه بأخلاق الصبر مُزاولاً في كل ذلك أفضل طريقة نفسية لاكتساب الفكرة الثابتة ترسخ لا تتغير ولا تتحول، ولا تعدو عليها عوادي الغريزة.

وإدراك هذه القوة من الإرادة العملية منزلة اجتماعية سامية هي في الإنسانية فوق منزلة الذكاء والعلمº وفي هذين تعرض الفكرة مارة مرورها، ولكنها في الإرادة تعرض لتستقر وتتحقق، فانظر في أي قانون من القوانين، وفي أية أمة من الأمم، تجد ثلاثين يوماً من كل سنة قد فرضت فرضاً لتربية إرادة الشعب ومزاولته فكرة نفسية واحدة بخصائصها ومُلابساتها حتى تستقر وترسخ وتعود جزءًا من عمل الإنسان، لا خيالاً يمر برأسه مراً.

أليست هذه هي إتاحة الفرصة العملية التي جعلوها أساساً في تكوين الإرادة؟ وهل تبلغ الإرادة فيما تبلغ، أعلى من منزلتها حين تجعل شهوات المرء مذعنة لفكرة منقادة للوازع النفسي فيه، مصرفة بالحس الديني المسيطر على النفس ومشاعرها؟.

أما والله لو عم هذا الصوم الإسلامي أهل الأرض جميعاً لآل معناه أن يكون إجماعاً من الإنسانية كلها على إعلان الثورة شهراً كاملاً في السنة، لتطهير العالم من رذائله وفساده، ومحق الأثرة والبخل فيه، وطرح المسألة النفسية ليتدارسها أهل الأرض دراسة عملية مدة هذا الشهر بطوله، فيهبط كل رجل وكل امرأة إلى أعماق نفسه ومكامنها ليختبر في مصنع فكره معنى الحاجة ومعنى الفقر، وليفهم في طبيعة جسمه- لا في الكتب- معاني الصبر والثبات والإرادة، وليبلغ من ذلك وذلك درجات الإنسانية والمواساة والإحسانº فيحقق بهذه وتلك معاني الإخاء والحرية والمساواة.

شهر هو أيام قلبية في الزمن، متى أشرفت على الدنيا قال الزمن لأهله:\"هذه أيام من أنفسكم لا من أيامي، ومن طبيعتكم لا من طبيعتي\"فيُقبل العالم كله على حالة نفسية بالغة السمو يتعهد فيها النفس برياضها على معالي الأمور ومكارم الأخلاق، ويفهم الحياة على وجه آخر غير وجهها الكالح، ويراها كأنما أجيعت من طعامها اليومي كما جاع هو، وكأنما أفرغت من خسائسها وشهواتها كما فرغ هو، وكأنما ألزمت معاني التقوى كما ألزمها هو، وما أجمل وأبدع أن تظهر الحياة في العالم كله – ولو يوماً واحداً- حاملة في يدها السٌّبحة...! فكيف بها على ذلك شهراً من كل سنة؟

إنها والله طريقة عملية لرسوخ فكرة الخير والحق في النفسº وتطهير الإجماع من خسائس العقل الماديº ورد هذه الطبيعة الحيوانية المحكومة في ظاهرها بالقوانين والمحرَّرة من القوانين في باطنها – إلى قانون من باطنها نفسه يُطهر مشاعرها ويسمو بإحساسها ويصرفها إلى معاني إنسانيتها، ويُهذب من زياداتها، ويحذف كثيراً من فضولها، حتى يرجع بها إلى نحو من براءة الطفولة، فيجعلها صافية مُشرقة بما يجتذب إليها من معاني الخير والصفاء والإشراق. إذ كان من عمل الفكرة الثابتة في النفس أن تدعو إليها ما يلائمها ويتصل بطبيعتها من الفكر الأخرى. والنفس في هذا الشهر محتبسة في فكرة الخير وحدها، فهي تبني بناءها من ذلك ما استطاعت.

هذا على الحقيقة ليس شهراً من الأشهر، بل هو فصل نفساني كفصول الطبيعة في دورانها. ولهو والله أشبه بفصل الشتاء وفي حلوله على الدنيا بالجو الذي من طبيعته السحب والغيث، ومن عمله إمداد الحياة بوسائل لها ما بعدها إلى آخر السنة، ومن رياضته أن يكسبها الصلابة والانكماش والخفة، ومن غايته إعداد الطبيعة للتفتح عن جمال باطنها في الربيع الذي يتلوه.

وعجيب جداً أن هذا الشهر الذي يدَّخر فيه الجسم من قواه المئوية فيودعها مصرف روحانيته ليجد منها عند الشدائد مدد الصبر والثبات والعزم والجلد والخشونة – عجيب جداً أن هذا الشهر الاقتصادي هو من السنة كفائدة 8.3 في المئة فكأنه يسجل في أعصاب المؤمن حساب قوته وربحه، فله في كل سنة 8.3 من قوته المعنوية الروحانية.

وسحر العظائم في هذه الدنيا إنما يكون في الأمة التي تعرف كيف تدخر هذه القوة وتوفرها لتستمدها عند الحاجة، وذلك هو سر أسلافنا الأولين الذين كانوا يجدون على الفقر في دمائهم وأعصابهم ما تجد الجيوش العظمى اليوم في مخازن العتاد والأسلحة والذخيرة.

كل ما ذكرته في هذا المقال من فلسفة الصوم فإنما استخرجته من هذه الآية الكريمة:\"كتب عليكم الصيام كما كُتب على الذين من قبلكم، لعلكم تتقون\"وقد فهمها العلماء جميعاً على أنها معنى\"التقوى\"أما أنا فأولتها من\"الاتقاء\"فبالصوم يتقي المرء على نفسه أن يكون كالحيوان الذي شريعته معدته وألا يعامل الدنيا إلا بمواد هذه الشريعةº ويتقي المجتمع على إنسانيته وطبيعته مثل ذلك، فلا يكون إنسان مع إنسان كحمار مع إنسان يبيعه القوة كلها بالقليل من العلف.

وبالصوم يتقى هذا وهذا ما بين يديه وما خلفه فإن ما بين يديه هو الحاضر من طباعه وأخلاقه، وما خلفه هو الجيل الذي سيرث من هذه الطباع والأخلاق، فيعمل بنفسه في الحاضر، ويعمل بالحاضر في الآتي.

وكل ما شرحناه فهو اتقاء ضرر لجلب منفعة، واتقاء رذيلة لجلب فضيلة، وبهذا التأويل تتوجه الآية الكريمة جهة فلسفية عالية لا يأتي البيان ولا العلمُ ولا الفلسفة بأوجز ولا أكمل من لفظهاº ويتوجه الصيام على أنه شريعة اجتماعية إنسانية عامة، يتقي بها الاجتماع شرور نفسه، ولن يتهذب العالم إلا إذا كان له مع القوانين النافذة هذا القانون العام الذي اسمه الصوم ومعناه\"قانون البطن\"....

ألا ما أعظمك يا شهر رمضان! لو عرفك العالم حق معرفتك لسماك\"مدرسة الثلاثين يوماً\"

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply