الحذر على النفس من النفاق والموقف من المنافقين


 

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الخطبة الأولى:

أما بعد، فيا عباد الله اتقوا الله حق التقوى.

معاشر المسلمين:

أستكمل اليوم حديثاً بدأته عن خطر النفاق والمنافقين، وكثرتهم، والحذر من الانخداع بهم، وأبرز ملامح المنافقين وصفاتهم، وليس يخفى أنك لن تجد علامة صريحة على المنافقين، ولن تجد لافتة على رأسه مكتوب عليها منافق، ولن تجد أيضاً من يرضى أن يوصم بالنفاق أو يُعد في المنافقين، ولو كان من شرار الخليقة وكبار المنافقين، ولكنها الأعمال أيها المسلمون تكشف النفاق، وتحدد هوية المنافقين. 

الأفعال تفضحهم، ولحن القول يرديهم، وفلتات اللسان تبرزهم، قال الله وهو أصدق القائلين: (( وَلَو نَشَاء لأَرَينَاكَهُم فَلَعَرَفتَهُم بِسِيمَاهُم وَلَتَعرِفَنَّهُم فِي لَحنِ القَولِ وَاللَّهُ يَعلَمُ أَعمَالَكُم ))[محمد: 30] 

قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله -: \"فمعرفة المنافقين في لحن القول ثابتة مقسم عليها، لكن هذا يكون إذا تكلموا، وأما معرفتهم بالسيما فهو موقوف على مشيئة الله \".

أيها المسلمون، وهنا توارد أسئلة مهمة: ما موقف المسلم من المنافقين؟، وما هي أنواع النفاق؟، وهل أحدنا في نجوة منه؟ أم لا بد أن ينقب ويتهم نفسه؟ وإن المتأمل في كتاب الله وسنة رسول الله وسيرتِه وسيرِ أصحابه، يجد الإجابة عن الموقف الشرعي من المنافقين في الأمور التالية:

أولاً: الحذر من المنافقين قال الله - تعالى - فيهم: (( هُمُ العَدُوٌّ فَاحذَرهُم قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤفَكُونَ ))[المنافقون: 4]، ولم لا يكون الحذر من المنافقين وهم يظهرون ما لا يبطنون، ويسرون ما لا يعلنون، ولربما تحدثوا باسم الدين، وقد يغتر بهم فيحسبون من الناصحين والله أعلم بما يكتمون.

ثانياً: ومع الحذر من المنافقين لا بد من كشف خططهم، وفضح أساليبهم، فالمنافقون جبناء، لا يجرؤون على التصريح بما يريدون، بل هم أصحاب حيل، وأرباب مكر وخديعة، وأصحاب ظواهر لا بواطن، فلربما سعوا إلى التدمير باسم التطوير، ولربما سعوا في الأرض فساداً وهم يزعمون أنهم مصلحون، ((أَلا إِنَّهُم هُمُ المُفسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشعُرُونَ ))[البقرة: 12].

ثالثا: مجاهدتهم والغلظة عليهم امتثالاً لقول الله - تعالى -:(( يا أَيٌّهَا النَّبِيٌّ جَاهِدِ الكُفَّارَ وَالمُنَافِقِينَ وَاغلُظ عَلَيهِم وَمَأوَاهُم جَهَنَّمُ وَبِئسَ المَصِيرُ ))[التوبة: 73] قال القرطبي - رحمه الله - في تفسير هذه الآية: \"الخطاب للنبي وتدخل فيه أمته من بعده \".

رابعاً: عدم موالاة المنافقين واتخاذهم بطانة من دون المؤمنين، والحكمة من هذا ظاهرة في نص القرآن:(( يا أَيٌّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا لاَ تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مّن دُونِكُم لاَ يَألُونَكُم خَبَالاً وَدٌّوا مَا عَنِتٌّم قَد بَدَتِ البَغضَاء مِن أَفواهِهِم وَمَا تُخفِى صُدُورُهُم أَكبَرُ قَد بَيَّنَّا لَكُمُ الآيات إِن كُنتُم تَعقِلُونَ هَاأَنتُم أُولاء تُحِبٌّونَهُم وَلاَ يُحِبٌّونَكُم وَتُؤمِنُونَ بِالكِتَابِ كُلّهِ وَإِذَا لَقُوكُم قَالُوا ءامَنَّا وَإِذَا خَلَوا عَضٌّوا عَلَيكُمُ الأنَامِلَ مِنَ الغَيظِ قُل مُوتُوا بِغَيظِكُم إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصٌّدُورِ ))[آل عمران: 18، 19].

خامساً: عدم الدفاع والمجادلة عن المنافقين كما أوحى الله إلى نبيه:(( إِنَّا أَنزَلنَا إِلَيكَ الكِتَابَ بِالحَقّ لِتَحكُمَ بَينَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلاَ تَكُن لّلخَائِنِينَ خَصِيماً وَاستَغفِرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً وَلاَ تُجَادِل عَنِ الَّذِينَ يَختَانُونَ أَنفُسَهُم إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبٌّ مَن كَانَ خَوَّاناً أَثِيماً ))[النساء: 105  107]

سادساً: تحقيرهم وعدم تسويدهم قال رسول الهدى: (لا تقولوا للمنافق سيداًº فإنه إن يك سيداً فقد أغضبتم ربكم - عز وجل -)) أخرجه أبو داود والنسائي بسند صحيح.

سابعاً: وعظ المنافقين وتذكيرهم برقابة الله، قال - تعالى -:(( أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِم فَأَعرِض عَنهُم وَعِظهُم وَقُل لَّهُم فِي أَنفُسِهِم قَولاً بَلِيغاً ))[النساء: 63]

أيها المسلمون: النفاق كله شر وبلية، ولكنه نوعان كما قال ابن كثير - رحمه الله -: اعتقادي وهو الذي يخلد صاحبه في النار، وهو الذي يظهر صاحبه الإسلام ويبطن الكفر، والآخر عملي وهو من أكبر الذنوب، وهو التلبس بشيء من علامات المنافقين كالكذب في الحديث، والخلف في الوعد ونحوها.

والنفاق أكبر وأصغر كما أن الكفر أكبر وأصغر، ولذا يقول العلماء: كفر ينقل عن الملة، وكفر لا ينقل عن الملة، قال ابن تيمية – رحمه الله -: \"لم يكن المتهمون بالنفاق نوعاً واحداً، بل فيهم المنافق المحض، وفيهم من فيه إيمان ونفاق، وفيهم من إيمانه غالب، وفيه شعبة من النفاق\".

إخوة الإسلام، ذلك مؤشر على كثرة النفاق، وتعدد شعبه، حتى إنه ليداخل أهل الإيمان في حال ضعفهم، ويكون تهمة توجه إليهم، ألم يقل عمر بن الخطاب في شأن حاطب بن أبي بلتعة:((دعني أضرب عنق هذا المنافق))، وذلك حين كاتب حاطبٌ المشركين بمكة ببعض أخبار النبي.

وحين احتملت الحمية سعد بن عبادة فنافح عن المنافق ابن سلول، قال له أسيد بن الحضير: (إنما أنت منافق تجادل عن المنافقين).

وكذلك قول من قال من الصحابة عن مالك بن الدٌّخشم: منافق، وإن كان قال ذلك لما رأى فيه من نوع معاشرة ومودة للمنافقين.

وما تقدم إخوة الإيمان ما يدعو إلى الحذر من النفاق صغيره وكبيره، دقه وجُله، العملي منه والاعتقادي، فقد يؤول النفاق الأصغر بصاحبه إلى النفاق الأكبر، وفي هذا يقول ابن رجب – رحمه الله -: \"والنفاق الأصغر وسيلة وذريعة إلى النفاق الأكبر، كما أن المعاصي بريد الكفر، وكما يخشى على من أصر على المعصية أن يسلب الإيمان عند الموت، كذلك يخشى على من أصر على النفاق أن يسلب الإيمان فيصير منافقاً خالصاً \".

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب وخطيئة وعصيان، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية:

الحمد حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وصلاة الله وسلامه على أشرف المرسلين.

أما بعد فيا عباد الله، الرياء أحد شعب النفاق وهو شرك أصغر خفي أخفى من دبيب النملة السوداء في الليلة الظلماء كما قال النبي حتى قال أبوبكر: وكيف ننجوا منه وهو أخفى من دبيب النمل؟ فقال: (ألا أعلمك كلمة إذا قلتها نجوت من دقِّه وجلِّه؟ قل:( اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم، وأستغفرك لما لا أعلم)رواه أبو حاتم في صحيحه.

كذلك الكذب إخوة الإسلام هو أحد شعب النفاق، وهو يهدي إلى الفجور، والفجور يهدي إلى النار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذاباً، وهكذا بقية شعب النفاق العملية، من إخلاف الوعد، وفجور في الخصومة، وخيانة في الأمانة وغيرها، قد نتساهل بها أحياناً، وهي طريقُ الضلالِ والنفاقِ الأكبر، ألا فليحذر العاقلُ من شعب النفاق كُلِّها، ويتهمَ نفسه كما اتهم السابقون أنفسهم، وليطيِّب أعماله كما طيَّبها السابقون، فإن الله طيب لا يقبل إلا طيباً، ومن يرائي يرائي الله به ومن يسمع يسمَّع الله به، واحذروا ذا الوجهين فهم شرار الخلق كما قال النبي: (تجدون شر الناس ذا الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه، وهؤلاء بوجه)رواه البخاري، وهذا الصنيع وإن كان في عرف المتأخرين دهاءٌ ولباقة فهو في عرف المتقدمين كذب ونفاق وخيانة.

اللهم أنر بصائرنا، وألهمنا رشدنا، واحفظ علينا ديننا، ولا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا يا رب العالمين. 

هذا وصلوا وسلموا - رحمكم الله - على من أمرتم بالصلاة والسلام عليه في قوله: (( إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلٌّونَ عَلَى النَّبِيّ يا أَيٌّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا صَلٌّوا عَلَيهِ وَسَلّمُوا تَسلِيماً ))[الأحزاب: 56].

اللهم صل وسلم وبارك على عبدك ورسولك محمد... 

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply