سرية ذات السلاسل
لم تمضِ سوى أيام على عودة الجيش من مؤتة إلى المدينة حتى جهز النبي - صلى الله عليه وسلم - جيشًا بقيادة عمرو بن العاص إلى ذات السلاسل، وذلك لتأديب قضاعة التي غرها ما حدث في مؤتة التي اشتركت فيها إلى جانب الروم، فتجمعت تريد الدنو من المدينة، فتقدم عمرو بن العاص في ديارها ومعه ثلاثمائة من المهاجرين والأنصار، ولما وصل إلى مكان تجمع الأعداء بلغه أن لهم جموعًا كثيرة، فأرسل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يطلب المدد فجاءه مدد بقيادة أبي عبيدة ابن الجراح(1)، وقاتل المسلمون الكفار وتوغل عمرو في ديار قضاعة التي هربت وتفرقت وانهزمت، ونجح عمرو في إرجاع هيبة الإسلام لأطراف الشام، وإرجاع أحلاف المسلمين لصداقتهم الأولى، ودخول قبائل أخرى في حلف المسلمين، وإسلام الكثيرين من بني عبس، وبني مرة وبني ذبيان، وكذلك فزارة وسيدها عيينة بن حصن في حلف مع المسلمين، وتبعها بنو سليم، وعلى رأسهم العباس بن مرداس، وبنو أشجع، وأصبح المسلمون هم الأقوى في شمال بلاد العرب، وإن لم يكن في بلاد العرب جميعهًا(2).
وفي هذه السرية دروس وعبر وحكم منها:
1- إخلاص عمرو بن العاص - رضي الله عنه -:
قال عمرو بن العاص: بعث إليَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: خذ عليك ثيابك، وسلاحك ثم ائتني فأتيته، وهو يتوضأ، فصعد في النظر، ثم طأطأ، فقال: إني أريد أن أبعثك على جيش(3) فيسلمك الله ويغنمك، وأرغب لك في المال رغبة صالحة، قال: قلت: يا رسول الله ما أسلمت من أجل المال، ولكني أسلمت رغبة في الإسلام، وأن أكون مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «يا عمرو نعم المال الصالح للمرء الصالح»(4).
فهذا الموقف يدل على قوة إيمان وصدق وإخلاص عمرو بن العاص للإسلام وحرصه على ملازمة رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وقد بين له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن المال الحلال نعمة إذا وقع بيد الرجل الصالحº لأنه يبتغي به وجه الله ويصرفه في وجوه الخير ويعف به نفسه وأسرته(5).
2- الاتحاد قوة والتنازع ضعف:
عندما وصل المدد الذي بعثه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقيادة أبي عبيدة بن الجراح لجيش عمرو في ذات السلاسل، أراد أبو عبيدة أن يؤم الناس ويتقدم عمرو، فقال له عمرو: إنما قدمت علي مددًا لي، وليس لك أن تؤمني، وأنا الأمير، وإنما أرسلك النبي - صلى الله عليه وسلم - إلي مددًا، فقال المهاجرون كلا، بل أنت أمير أصحابك وهو أمير أصحابه، فقال عمرو: لا، بل أنتم مدد لنا، فلما رأى أبو عبيدة الاختلاف، وكان حسن الخلق، لين الطبع، قال: لتطمئن يا عمرو، وتعلمن أن آخر ما عهد إلي رسول الله أن قال: إذا قدمت على صاحبك فتطاوعا ولا تختلفا، وأنك والله إن عصيتني لأطيعنك، فأطاع أبو عبيدة، فكان عمرو يصلي بالناس(6).
لقد أدرك أبو عبيدة - رضي الله عنه - أن أي اختلاف بين المسلمين في سرية ذات السلاسل يؤدي إلى الفشل، ومن ثم تغلب العدو عليهم، ولهذا سارع إلى قطع النزاع، وانضم جنديًا تحت إمرة عمرو بن العاص امتثالا لأمر الرسول - صلى الله عليه وسلم - «لا تختلفا» (7).
3- حرص عمرو بن العاص على سلامة قواته:
ظهرت عبقرية عمرو العسكرية في ذات السلاسل في حرصه على وحدة الصف، وفي حرصه على سلامة قوته ويتجلى ذلك في عدة صور منها:
أ- أنه كان يسير ليلاً ويختفي نهارًا: كان عمرو يدرك بثاقب بصره، وبعد نظره أن العدو يمكن أن يسعى إلى معرفة أخباره قبل اللقاء بينهما، فيستعد للقاء جيش المسلمينº ولهذا رأى عمرو - رضي الله عنه - أن السير ليلا والاختفاء نهارًا هو أفضل أسلوب للمحافظة على قواته وحقق بذلك أمرين مهمين:
* إخفاء تحركاته عن عدوه وبذلك يضمن سلامة قواته.
* حماية الجند من شدة الحر وحتى يبقى لهم نشاطهم فيصلون إلى مكان المواجهة، وهم أقوياء على مجابهة أعدائهم.
ب- عدم السماح للجند بإيقاد النار: عندما طلب الجنود من عمرو أن يسمح لهم بإيقاد النار لحاجتهم الماسة إلى التدفئة منعهم من ذلك معتمدًا في ذلك على خبرته الحربية وعمق فكره العسكري وخوفًا من وقوع مفسدة أعظم من تلك المصلحة وهي أن يمتد الضوء فيكشف المسلمين، وهم قلة لأعدائهم فيهجموا عليهم، ويتجلى هذا الفقه في حزمه الشديد مع أصحابه عندما كلمه أبو بكر في ذلك فقال: لا يوقد أحد منهم نارًا إلا قذفته فيها، فلما رجعوا إلى المدينة ذكروا ذلك لرسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فسأله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: كرهت أن آذن لهم أن يوقدوا نارًا فيرى عدوهم قلتهم(8)، فأقره النبي - صلى الله عليه وسلم - على فعله.
ج- منع الجند من مطاردة أعدائهم: عندما هزم المسلمون أعداءهم طمعوا فيهم، فأرادوا مطاردتهم وتتبع فلولهم، ولكن قائد السرية منع جنده من ذلك لئلا يترتب على هذه المطاردة مفسدة أعظم منها، وهي أن يقع المسلمون في كمين. ويتجلى هذا الفقه في قول عمرو بن العاص - رضي الله عنه - للرسول - صلى الله عليه وسلم -: وكرهت أن يتبعوهم فيكون لهم مدد(9)، فأقره النبي - صلى الله عليه وسلم - على هذا التصرف الحكيم الذي حقق للجيش الأمن والحماية(10).
4- من فقه عمرو بن العاص - رضي الله عنه -:
قال عمرو بن العاص - رضي الله عنه -: احتلمت في ليلة باردة في غزوة ذات السلاسل، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك، فتيممت، ثم صليت بأصحابي الصبح، فذكروا ذلك للنبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب؟ فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال وقلت: إني سمعت الله يقول: (وَلاَ تَقتُلُوا أَنفُسَكُم إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُم رَحِيمًا) [النساء: 29]. فضحك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يقل شيئًا(11)، ولقد استُنبط بعض الأحكام من هذه القصة:
أ- التيمم يقوم مقام الغسل بالنسبة للجنب مع وجود الماء إذا خشي أن يؤدي استخدام الماء إلى الضرر، فلقد تيمم عمرو بن العاص لما أصبح جنبًا مع وجود الماء عنده وصلى وأقره الرسول - صلى الله عليه وسلم - ولم ينكر عليه.
ب- يجوز الاجتهاد في عهده - صلى الله عليه وسلم -: فقد اجتهد عمرو بن العاص فتيمم وصلى وقد احتلم في تلك الليلة الباردة اعتمادًا على قوله - تعالى -(وَلاَ تَقتُلُوا أَنفُسَكُم إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُم رَحِيمًا) [النساء: 29] فلم ينكر عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم - اجتهاده بل أقره على أمرين: الأول: جواز الاجتهاد، والثاني تصحيح اجتهاده.
ج- من الأسباب المبيحة للتيمم تعذر استخدام الماء وإن وجد كالبرد الشديد.
د- تجوز إمامة المتيمم بالمتوضئ: فقد صلى عمرو بن العاص وهو متيمم إمامًا بخمسمائة صحابي قد توضأوا، وأقره الرسول على ذلك ولم ينكر عليه.
هـ- اجتهاد عمرو بن العاص يدل على فقهه ووفور عقله، ودقة استنباطه الحكم
من دليله(12). ولئن وقف الفقهاء عند هذه الحادثة يفرعون عليها الأحكام فإن الذي يستوقفنا(13) في السيرة منها تلك السرعة في أخذ عمرو للقرآن وصلته به حتى بات قادرًا على فقه الأمور من خلال الآيات وهو لم يمض على إسلامه أربعة أشهر، إنه الحرص على الفقه في دين الله، وقد يكون عمرو -وهذا احتمال وارد- على صلة بالقرآن قبل إسلامه يتتبع ما يستطيع الوصول إليه، وحينئذ نكون أمام مثال آخر من عظمة هذا القرآن الذي لوى أعناق الكافرين وجعلهم وهم في أشد حالات العداوة لهذا الدين يحاولون استماع هذا القرآن، كما رأينا ذلك في العهد المكي، ويؤيد هذا ما رأيناه من معرفته بالقرآن حينما طلب من النجاشي أن يسأل مهاجري الحبشة عن رأيهم في عيسى - عليه السلام -(14).
5- من نتائج سرايا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الشمال:
اتجهت حملات المسلمين العسكرية بعد صلح الحديبية نحو الشمال، وأصبح غرب الجزيرة وجنوبها الغربي حيث تقبع مكة آمنة في ظلال الصلح(15)، وحققت سرايا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أهدافها ومقاصدها في شمال الجزيرة، فوصلت إلى حدود الروم، فأمنت حدود الدولة الإسلامية، وبسطت هيبتها وأفشلت محاولات الإغارة على المدينة، وبذلك حققت سياسية النبي - صلى الله عليه وسلم - في حركة السرايا هدفين عظيمين هما:
1- تأمين حماية الدين الإسلامي في الداخل.
2- حمايته في الخارج(16).
وما من شك أن المتتبع لأحداث السيرة النبوية الشريفة والمطلع على تفاصيلها ودقائقها بإمعان يجد بحق أن صلح الحديبية هو من أهم المكاسب السياسية، والعسكرية، والإعلامية، بل هو حصيلة كسب لأعظم معركة دارت بين الإسلام والوثنية في العهد النبوي، من حيث النتائج الإيجابية التي رسخت دعائم الإسلام، من جهة، وصدعت بفعلها قواعد الشرك والوثنية من جهة أخرى، وما حدث في خيبر من فتوح، وفي مؤتة من نصر، وفي ذات السلاسل من توسيع هيبة الدولة الإسلامية إلا نتائج تابعة لصلح الحديبية(17) وبسبب القدرة الفائقة في تعامل النبي - صلى الله عليه وسلم - مع سنن الله في المجتمعات والشعوب، وبناء الدول.
----------------------------------------
(1) انظر: السيرة النبوية الصحيحة (2/471).
(2) انظر: السيرة النبوية لأبي شهبة (2/433).
(3) جيش سرية ذات السلاسل.
(4) رواه ابن حبان كما في الموارد 2277، صحيح السيرة، ص508، صححه الألباني - رحمه الله - في صحيح الأدب المفرد.
(5) انظر: التاريخ الإسلامي للحميدي (7/133).
(6) انظر: مغازي رسول الله لعروة، ص207، وأسانيدها ضعيفة.
(7) انظر: غزوة الحديبية لأبي فارس، ص209.
(8) انظر: صحيح السيرة النبوية، ص509.
(9) نفس المصدر، 509.
(10) انظر: القيادة العسكرية في عهد الرسول، ص540.
(11) انظر: صحيح السيرة النبوية، ص509، قال إبراهيم العلي: الحديث إسناده صحيح.
(12) انظر: غزوة الحديبية لأبي فارس، ص210.
(13) القائل هو صالح أحمد الشامي صاحب معين السيرة، ص381.
(14) انظر: معين السيرة، ص381.
(15) انظر: المجتمع المدني للعمري، ص170.
(16) الإعلام في صدر الإسلام، د. عبد اللطيف حمزة، ص173.
(17) انظر:منهج الإعلام الإسلامي، ص337.
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد