من الفاجعة إلى التصرف


 
 

عندما أرى سماحة الشيخ الفقيد عبد العزيز بن عبد الله بن باز -رحمه الله- في موقف أو في مؤتمر أو في لقاء مع قادة البلاد أو رجالات العالم أحس أنني أمام مخلوق بسيط متواضع يشع بجلال العلم وجمال الورع ، وحين يتكلم لا يقول شيئا غريبا ولا قولا جديدا ولكنه ينفذ إلى أعماق قلبك ، ويجري منك في كل شرايينك ويحملك على الإصغاء ، ويترك أثره في أعماق مشاعرك ، إنه الصدق الإخلاص وقول الحق وصدق من قال: الآية هي الآية ولكن الشخص غير الشخص هذا الإنسان يذكرني بعمرو بن عبيد الذي لا يطلب إلا صيد الآخرة كما يقول أحد الخلفاء.

لقد كف بصره فلم ير الدنيا ولم يحفل بمباهجها وأبصر قلبه فعبد الله كأنه يراه ، وأخلص لدينه وأحب أمته ونصح لولاة الأمر فكان ملء سمع الدنيا وبصرها تتعقد المشاكل فيحلها بحلمه وعلمه ، وتتأزم الأمور فينفس كربتها بأناته وتبصره تحتدم المشاعر وتدلهم الأمور فيأخذها باللين واليسر ونبل المقاصد وصدق العزائم ، فيرضي كل الأطراف المتنازعة ويعود الناس إلى بيوتهم آمنين مطمئنين ، بذل جهده ووقته للعلم: تعلما وتعليما ، وقضى على راحته نصحا وتوفيقا وإصلاحا بين الناس ، صنع المجد والجاه والعز والتمكين من قلوب الناس ولم يرثه عن أب ولا عن جد .

وتلك مواقع كالأرض لا يرثها إلا عباد الله الصالحون ، يسارع في الخيرات فكان أن كتب الله له الحب في نفوس الناس والذكر الجميل والله الغفور الرحيم مرجو أن يكتب له أجره مرتين: أجر الدنيا بهذا الجاه والمكانة والتقدير والحب والذكر الجميل ونعيم الآخرة ليكون مع الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، ولماذا لا نطمع أن يدخله ربه مع القوم الصالحين وقد أجمع الناس على حبه وإجلاله والناس شهود الله في أرضه. والله عند حسن ظن عباده به.

لقد آمن بربه ، وخاف من لقائه وعمل صالحا نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحدا ، والله المنعم المتفضل وعد الصالحين بقوله: فَلَهُم أَجرُهُم عِندَ رَبِّهِم و فَلا خَوفٌ عَلَيهِم وَلا هُم يَحزَنُونَ و فَلَنُحيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً و فَلَهُ جَزَاءً الحُسنَى و وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهتَدَى ورحمة الله قريب من المحسنين وسماحته كان كذلك.

لقد بذل جهده ولم يخلد إلى الأرض ولم يتبع هواه فكان أن رفعه الله مكانا عليا وصدق الله: نَرفَعُ دَرَجَاتٍ, مَن نَشَاءُ وَفَوقَ كُلِّ ذِي عِلمٍ, عَلِيمٌ لقد كان -رحمه الله- ساعيا في حاجات الناس سعيدا بهذا السعي متمتعا به ولم يكن متصنعا ولا متعملا.

لقد فجع الناس بموته ، وانتابهم شيء من الذعر والله غالب على أمره ، ودين الله باق والعلماء الورثة الناصحون باقون والخيرية باقية لا تزال طائفة من أمتي على الحق وما علينا وقد نزعه الله من شغاف قلوبنا إلا أن نستلهم سيرته ونقتفي أثره ونتفحص أخلاقه فنأخذ منها ما نقدر عليه لنسد خلقه ونسعده في قبره وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشرِي نَفسَهُ ابتِغَاءَ مَرضَاةِ اللَّهِ فهل نحن من أولئك الشراة أم سنظل بكائين. إن علينا أن نحمد الله ونشكره ولا نقول إلا ما يرضيه فله ما أخذ وله ما أبقى لقد وهب البلاد في ظروف عصيبة رجالا رعوا أمانتهم وعهدهم حق الرعاية وهذا العالم الجليل الذي كان مرجعا لولاة الأمر في كثير من الأمور جزء من رعاية الأمانة والعهد ، فهو من أهل الذكر الذين ندب الرجوع إليهم وسؤالهم وكان منذ عهد الملك عبد العزيز -رحمه الله- معلما وقاضيا وواعظا ومسئولا لا على المستوى المحلي بل على المستوى الإسلامي لقد أجهش علماء الآفاق بالثناء عليه والدعاء له وذكر محاسنه وأفضاله وأدواره في قضايا المسلمين وصراحته وصدعه بالحق وعطفه ولطفه ولينه ومراعاته لأحوال المسلمين وما اعتراهم من ضعف ووهن ومحن لقد كان فقيها واقعيا يعرف ما آل إليه أمر العالم الإسلامي فلا يشط ولا يعنف ولا يثور تراه لينا هينا لطيفا يدعو بالهداية ولا يدعو بالعقوبة ويسأل الله أن يهدي ضال المؤمنين ، قال عنه مفتي لبنان: إنه العالم المجاهد الذي قضى حياته في خدمة كتاب الله عز وجل وسنة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وفي خدمة قضايا الأمة العربية والإسلامية والحفاظ على حقوقها والتمسك بتعاليم الإسلام وقيمه السامية.

ووصفه زعيم حركة حماس بأنه عالم المرحلة ، ووصفه شيخ الأزهر بأداء الرسالة في خدمة دينه وأمته على الوجه الأكمل ، وقال عنه مفتي سوريا: إنه كان ركنا صادقا في النصح وأداء المشورة لأهلها لا يرغب ولا يرهب هادفا الذود عن حياض الإسلام.

وهكذا تتدفق شهادات العلماء والقادة والمفكرين ، وفي النعي الرسمي للمملكة تجلت فاجعة البلاد بتعبير قادتها عن فداحة المصاب إنه بحق درع البلاد أمام سهام الشبهات ، رجل لا يهتم بأضواء المسئولية ولا ببوارق الجاه ولا برنين المال ، يقول كلمة الحق لا يخشى بذلك لومة لائم ، اعتمدت الدولة عليه في كل المحافل الإسلامية وندبته لمواجهة الأعاصير واحتملت به أمام موجات التغريب وسهام التبدلات السريعة وفقدت بفقده ركنا قويا حمالا من أركان الدولة وخفت ومن ورائها الأمة للصلاة عليه والدعاء له وصلت عليه جموع المسلمين في كل أنحاء المعمورة داعية مترحمة باكية شاكية إلى الله خلو موقعه القيادي في ظروف عصيبة.

إن أملنا كبير في الصفوة الطيبة من علمائنا الأجلاء أن يكونوا خير خلف لخير سلف ، وبلادنا -والحمد لله- مليئة بالكفاءات العلمية وبالرجال الصادقين الناصحين ولن ترتبك البلاد ولن يخور عزمها ولن يقل عطاؤها الدعوي بفقد علم من أعلام البلاد ، إذا طل منا سيد قام سيد ، ومحمد صلى الله عليه وسلم حين لحق بالرفيق الأعلى ارتبك الناس وهدد عمر ولما عاد أبو بكر أخذ الأمور بالعزم والأناة والثقة وبلغ الناس بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسارت الأمور على يد خلفائه كما لو كان حيا. والله الذي تعهد بحفظ دينه وحمله إلى الأجيال الآتية قادر على أن يعوض البلاد من يسد الثغرة ويرث المسئولية وما علينا إلا أن ننهض بالمهمات الجسام التي نهض بها الفقيد وتحملها بحزم وعزم وعلم وورع وكرم ولين وطيبة قلب.

اللهم اجبر مصابنا به واجعل في علمائنا وقادتنا الخلف الصالح والوريث الحسن ، والدين باق والخطر على المتخاذلين والقانطين ، رحم الله الفقيد وأسكنه فسيح جناته وجبر مصاب الأمة به وألهمنا الصبر والسلوان ولا نقول إلا ما يرضي ربنا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيهِ رَاجِعُونَ

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply