فقه الظواهر الدعوية في ضوء الكتاب والسنة ظاهرة التآكل الروحي


 

بسم الله الرحمن الرحيم

{وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إذَا ضَاقَت عَلَيهِمُ الأَرضُ بِمَا رَحُبَت وَضَاقَت عَلَيهِم أَنفُسُهُم وَظَنٌّوا أَن لاَّ مَلجَأَ مِنَ اللَّهِ إلاَّ إلَيهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيهِم لِيَتُوبُوا إنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ} [التوبة: 118].

هكذا قصَّ القرآن الكريم تلك النتيجة التي انتهت إليها حالة هذا الثلاثي الجليل من جيل الخيريةº وهم كعب بن مالك ومرارة بن الربيع وهلال بن أمية، رضي الله عنهمº حيث تخلفوا عن ركب الجهـاد، في غـــزوة العسـرة ـ غـزوة تبـوك ـ وصدقوا مـع الله - سبحانه - ثم معه - صلى الله عليه وسلم -، فلم يفعلوا كما فعل المنافقون الذين اعتذروا، ولكنهم أعلنوا على لسان كعب - رضي الله عنه -: «والله ما كان لي من عذر»(1). أي ليس لهم حجة أو عذر للتخلف.

كانت تلك النتيجة شعوراً غريباً لم يألفه كعب - رضي الله عنه - منذ دخوله لهذا العالم وأُنسه بهذا المنهج، وكان ألماً نفسياً ضاقت به نفسه ضيقاً شديداً حتى تنكر لها الوجود السابح الساجد لربه.

 

وتأمل هذه اللمحات الطيبة:

1 ـ التربية النبوية القرآنية كانت سريعة وشديدةº ليختبر صدقهم مع الله - عز وجل - ثم مع النفس، وحكى عنها كعب - رضي الله عنه - فقال: «ونهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه»(2).

2 ـ وكأنما يشارك في هذه المقاطعة كل الخلائق، من البشر ومن الجماد بل والوجود كله، استجابة وجندية وطاعة لأمره - سبحانه -. وتدبَّر مشاركة الأرض: «فاجتنبنا الناس ـ أو قال: تغيروا لنا ـ حتى تنكرت لي في نفسي الأرضº فما هي بالأرض التي كنت أعرف»(3).

3 ـ لقد كانت المحنة من الشدة بحيث أفرزت هذا الشعورº شعور أن الأرض والوجود كله يشارك في المقاطعة، والشعور أنه قد غدا شاذاً عن هذه المنظومة العابدة الساجدة الذاكرة لربها: «حتى تنكرت لي في نفسي الأرض».

4 ـ هذا الشعور لا تحسّه إلا نفس مؤمنة عاشت طويلاً متناسقة ومتوافقة، وكانت معروفة لهذه المنظومة: «فما هي بالأرض التي كنت أعرف».

لقد كانت هنالك علاقة حب وودّ، ليس فقط مع المجتمعº بل مع الأرض، ومع الوجود كله، ثم انقطعت بمجرد تقصير في طاعة الله - عز وجل -.

وكم من شواذ لا يستشعرون شذوذهم!

وما ذاك إلا لغياب الرابطة السابقة مع هذه المنظومة.

وعندما تغيب هذه الرابطةº يغيب الرصيد في بنك الخير والطاعة والعبودية.

وتأمل يونس بن متى - عليه السلام - وهو يبين فضل هذا الرصيد الذي نفعه في محنته:

{وَذَا النٌّونِ إذ ذَّهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَن لَّن نَّقدِرَ عَلَيهِ فَنَادَى فِي الظٌّلُمَاتِ أَن لاَّ إلَهَ إلاَّ أَنتَ سُبحَانَكَ إنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِـمِينَ} [الأنبياء: 87].

إنه الرصيد العظيم للأيام العظيمةº للمحن المركبة، والظلمة المركبةº (ظلمة حوت في بطن حوت آخر في ظلمة البحر. وأنه ذهب به الحوت في البحار يشقها حتى انتهى به إلى قرار البحر، فسمع يونس تسبيح الحصى في قراره، فعند ذلك وهنالك قال: {لاَّ إلَهَ إلاَّ أَنتَ سُبحَانَكَ إنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِـمِينَ} [الأنبياء: 87].

5 ـ إنه لألم عظيم أن تستشعر الرفض والشذوذ ممن حولك، خاصة في المواقف الصعبةº وإنها لمصيبة كبرى أن تفتقد الرصيد، عند اللحظات الفاصلة، وهل هناك أصعب من المشاعر عند مشهد النهاية.

 

وتدبَّر مصيبة آل فرعون عند مشهد نهايتهم، ولحظات رحيلهم: {فَمَا بَكَت عَلَيهِمُ السَّمَاءُ وَالأَرضُ وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ} [الدخان: 29].

فلم تك لهم أعمال صالحة تصعد في أبواب السماء فتبكي على فقدهم، ولا لهم في الأرض بقاع عبدوا الله - تعالى - فيها فقدتهم، فلهذا استحقوا أن لا يُنظَروا ولا يؤخَّروا لكفرهم وإجرامهم وعتوِّهم وعنادهم.

6 ـ ضرورة الفهم لأي قضية، حتى لا يساء الظن، ولا تُترك في النفوس أي أقاويل.

وتدبَّر

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply